قوله تعالى : { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } . قال ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل : لما آمن عبد الله بن سلام وأصحابه ، قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا شرارنا ولولا ذلك لما تركوا دين آبائهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . واختلفوا في وجهها فقال قوم : فيه اختصار تقديره : ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة ، فترك الأخرى اكتفاء بذكر احد الفريقين ، وقال الآخرون : تمام الكلام عند قوله ليسوا سواء . وهو وقف ، لأنه قد جرى ذكر الفريقين من أهل الكتاب في قوله تعالى : ( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) ثم قال : { ليسوا سواءً } ، يعني : المؤمنين والفاسقين ثم وصف الفاسقين ، فقال ( لن يضروكم إلا أذى ) ووصف المؤمنين بقوله : { أمة قائمة } . وقيل : قوله { من أهل الكتاب } ، ابتداء كلام آخر ، لأن ذكر الفريقين قد جرى ، ثم قال : ليس هذا الفريقان سواءً ثم ابتدأ فقال :{ من أهل الكتاب } . قال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يستوي اليهود وأمة محمد صلى الله عليه وسلم القائمة بأمر الله ، الثابتة على الحق ، المستقيمة ، وقوله تعالى { أمة قائمة } قال ابن عباس : أي مهتدية ، قائمة على أمر الله لم يضيعوه ، ولم يتركوه . وقال مجاهد : عادلة . وقال السدي : مطيعة ، قائمة على كتاب الله وحده ، وقيل : قائمة في الصلاة وقيل : الأمة الطريقة . ومعنى الآية : أي ذوو أمة ، أي : ذو طريقة مستقيمة .
قوله تعالى : { يتلون آيات الله } . يقرؤون كتاب الله ، وقال مجاهد : يتبعون .
قوله تعالى : { آناء الليل } . ساعاته ، واحدها إني مثل : نحى وأنحاء ، وإني وآناء مثل : معي وأمعاء ، وأنى مثل منا وأمناء .
قوله تعالى : { وهم يسجدون } . أي : يصلون . لأن التلاوة لا تكون في السجود . واختلفوا في معناها ، فقال بعضهم : هي في قيام الليل ، وقال ابن مسعود : هي صلاة العتمة يصلونها ولا يصليها من سواهم من أهل الكتاب . وقال عطاء : { ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة } الآية يريد أربعين رجلاً من أهل نجران من العرب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، وكان من الأنصار منهم عدة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، ومحمد بن سلمة ، وأبو قيس صرمة بن انس ، كانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية ، حتى جاءهم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم فصدقوه ونصروه .
لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب ، عقب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان ، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة ، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين ، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج من وقت عيسى ، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط ، أو يكون اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى ، ثم ينتقل الحكم في النصارى ، ولفظ { أهل الكتاب } يعم الجميع ، والضمير في { ليسوا } لمن تقدم ذكره في قوله { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] وما قال أبو عبيدة من أن الآية نظيرة قول العرب أكلوني البراغيث خطأ مردود{[3434]} ، وكذلك أيضاً ما حكي عن الفراء أن { أمة } مرتفعة ب { سواء } على أنها فاعلة كأنه قال : لا تستوي أمة كذا وإن في آخر الكلام محذوفاً معادلاً تقديره وأمة كافرة ، فأغنى القسم الأول عن ذكرها ودل عليه كما قال أبو ذؤيب :
عَصَيْتُ إليْها الْقَلْبَ إنّي لأَمْرِها . . . سَمِيعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها{[3435]} ؟
المعنى أم غيّ ، فاقتصر لدلالة ما ذكر عليه .
قال القاضي أبو محمد : وإنما الوجه أن الضمير في { ليسوا } يراد به من تقدم ذكره ، و { سواء } خبر ليس ، و { من أهل الكتاب } مجرور فيه خبر مقدم ، و { أمة } رفع بالابتداء قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد{[3436]} بن سعية وأسد بن عبيد{[3437]} ومن أسلم من اليهود ، معهم ، قال الكفار من أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم ، فأنزل الله تعالى في ذلك { ليسوا سواء } الآية ، وقال مثله قتادة وابن جريج .
قال القاضي أبو محمد : وهو أصح التأويلات ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : معنى الآية : ليس اليهود وأمة محمد سواء ، وقاله السدي .
قال القاضي أبو محمد : فمن حيث تقدم ذكر هذه الآمة في قوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] وذكر أيضاً اليهود قال الله لنبيه { ليسوا سواء } و { الكتاب } على هذا جنس كتب الله وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط ، والمعنى : { من أهل الكتاب } وهم أهل القرآن أمة قائمة : واختلفت عبارة المفسرين في قوله { قائمة } فقال مجاهد : معناه عادلة ، وقال قتادة والربيع وابن عباس : معناه قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية ، وقال السدي : القائمة القانتة المطيعة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يرجع إلى معنى واحد من الاعتدال على أمر الله ، ومنه قيل للدنانير أو الدراهم الوازنة قائمة وهذه الآية تحتمل هذا المعنى وأن لا تنظر اللفظة إلى هيئة الأشخاص وقت تلاوة آيات الله ، ويحتمل أن يراد ب { قائمة } وصف حال التالين في { آناء الليل } ، ومن كانت هذه حاله فلا محالة أنه معتدل على أمر الله ، وهذه الآية في هذين الاحتمالين مثل ما تقدم في قوله :
{ إلا ما دمت عليه قائماً }{[3438]} و { يتلون } معناه : يسردون ، و { آيات الله } في هذه الآية هي كتبه ، و «الآناء » : الساعات واحدها «إني » بكسر الهمزة وسكون النون ، ويقال فيه «أني » بفتح الهمزة ، ويقال «إنَى » بكسر الهمزة وفتح النون والقصر ، ويقال فيه «أنى » بفتح الهمزة ويقال «إِنْو » بكسر الهمزة وسكون النون وبواو مضمومة ومنه قول الهذيلي : [ البسط ]
حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ الْقدْحِ مِرَّتهُ . . . في كلُّ إنيٍ قضاه الليل ينتعل{[3439]}
وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة ، إذا بعض الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عبارة { آناء الليل } بالقيام ، وهكذا كان صدر هذه الأمة ، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل أو قبله بشيء ، وحينئذ كان يقوم الأكثر ، والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من يلتزمه ، وقد ذكر الله تعالى القصد من ذلك في سورة المزمل ، وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية ، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه ، وأما عبارة المفسرين في { آناء الليل } ، فقال الربيع وقتادة وغيرهما : { آناء الليل } ساعات الليل ، وقال عبد الله بن كثير : سمعنا العرب تقول { آناء الليل } ساعات الليل ، وقال السدي : { آناء الليل } جوف الليل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق ، أما ان جوف الليل جزء من الآناء ، وقال ابن مسعود : نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم احتبس عنا ليلة عن صلاة العشاء وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى ليل ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع ، فقال : ( أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة ) {[3440]} ، فأنزل الله تعالى : { ليسوا سواء } الآية ، فالمراد بقوله : { يتلون آيات الله آناء الليل } صلاة العشاء ، وروى سفيان الثوري عن منصور{[3441]} أنه قال : بلغني أن هذه الآية نزلت في المصلين بين العشاءين وقوله تعالى : { وهم يسجدون } ذهب بعض الناس إلى أن السجود هنا عبارة عن الصلاة ، سماها بجزء شريف منها كما تسمى في كثير من المواضع ركوعاً ، فهي على هذا جملة في موضع الحال ، كأنه قال : يتلون آيات الله آناء الليل مصلين ، وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة مقطوعة من الكلام الأول ، أخبر عنهم أنهم أيضاً أهل سجود .
قال القاضي أبو محمد : ويحسن هذا من جهة أن التلاوة آناء الليل قد يعتقد السامع أن ذلك في غير الصلاة ، وأيضاً فالقيام في قراءة العلم يخرج من الآية على التأويل الأول ، وثبت فيها على هذا الثاني ف { هم يسجدون } على هذا نعت عدد بواو العطف ، كما تقول : جاءني زيد الكريم والعاقل .
استئناف قصد به إنصاف طائفة من أهل الكتاب ، بعد الحكم على معظمهم بصيغة تعمّهم ، تأكيداً لِما أفاده قولُه { منهم المؤمنون وأكثرُهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] فالضمير في قوله { ليسوا } لأهل الكتاب المتحدّث عنهم آنفاً ، وهم اليهود ، وهذه الجملة تتنزّل من التي بعدها منزلة التمهيد .
و ( سواء ) اسم بمعنى المماثل وأصله مصدر مشتق من التسوية .
وجملة { من أهل الكتاب أمة قائمة الخ . . . مبيّنة لإبهام { ليسوا سواء } والإظهار في مقام الإضمار للاهتمام بهؤلاء الأمة ، فلأمّة هنا بمعنى الفريق .
وإطلاق أهل الكتاب عليهم مجاز باعتبار ما كان كقوله تعالى : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] لأنهم صاروا من المسلمين .
وعدل عن أن يقال : منهم أمَّة قائمة إلى قوله من أهل الكتاب : ليكون ذا الثناء شاملاً لصالحي اليهود ، وصالحي النَّصارى ، فلا يختصّ بصالحي اليهود ، فإن صالحي اليهود قبل بعثة عيسى كانوا متمسّكين بدينهم ، مستقيمين عليه ، ومنهم الَّذين آمنوا بعيسى واتّبعوه ، وكذلك صالحو النَّصارى قبل بعثة محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا مستقيمين على شريعة عيسى وكثير منهم أهل تهجَّد في الأديرة والصّوامع وقد صاروا مسلمين بعد البعثة المحمدية .
ومعنى قائمة أنه تمثيل للعمل بدينها على الوجه الحقّ ، كما يقال : سوق قائمة وشريعة قائمة .
والآناء أصله أأنْاء بهمزتين بوزن أفعال ، وهو جمع إنى بكسر الهمزة وفتح النُّون مقصوراً ويقال أنى بفتح الهمزة قال تعالى : { غير ناظرين إنَاه } [ الأحزاب : 53 ] أي منتظرين وقته .
وجملة { وهم يسجدون } حال ، أيّ يتهجّدون في الليَّل بتلاوة كتابهم ، فقيّدت تلاوتهم الكتاب بحالة سجودهم . وهذا الأسلوب أبلغ وأبين من أن يقال : يتهجّدون لأنّه يدلّ على صورة فعلهم .