الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞لَيۡسُواْ سَوَآءٗۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ أُمَّةٞ قَآئِمَةٞ يَتۡلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ وَهُمۡ يَسۡجُدُونَ} (113)

قوله تعالى : { لَيْسُواْ سَوَآءً } : الظاهرُ في هذه الآية أن الوقف على " سواء " تامٌ ، فإنَّ الواوَ اسمُ " ليس " ، و " سواءً " خبر ، والواو تعودُ على أهل الكتاب المتقدِّم ذكرُهم ، والمعنى : أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر لقولِهِ : { مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [ آل عمران : 110 ] فانتفى استواؤُهم . و " سواء " في الأصلِ مصدرٌ فلذلك وُحِّد ، وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ البقرة .

وقال أبو عبيدة : " الواو في " ليسوا " علامةٌ جمعٍ وليست ضميراً ، واسمُ " ليس " على هذا " أمةٌ " و " قائمةٌ " صفتها ، وكذا " يَتْلُون " ، وهذا على لغة " أكلوني البراغيث " كقوله الآخر :

يَلُومونني في اشتراءِ النخي *** لِ أَهْلي فكلُّهمُ أَلْوَمُ

قالوا : " وهي لغةٌ ضعيفةٌ " . ونازع السهيلي النحويين في كونها ضعيفةً ، ونَسبَها بعضُهم لأزدِ شنوءة ، وكثيراً ما جاء عليها الحديث ، وفي القرآنِ مثلُها ، وسيأتي تحقيقُ هذا في المائدة بزيادةِ بيان .

قال ابن عطية : " وما قاله أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ ، ولم يُبَيِّن وجهَ الخطأ ، وكأنه تَوَهَّم أنَّ اسم " ليس " هو " أمة قائمة " فقط ، وأنه لا محذوف ثمَّ ، إذ ليس الغرضُ تفاوتَ الأمةِ القائمة التالية ، فإذا قُدِّر ثَمَّ محذوفٌ لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً ، إلا أن بعضهم رَدَّ قوله بأنها لغة ضعيفة ، وقد تقدم ما فيها والتقدير الذي يَصِحُّ به المعنى ، أي : ليس سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمةٌ موصوفةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة ، فهذا تقديرٌ يَصِحُّ به المعنى الذي نحا إليه أبو عبيدة .

وقال االفراء : " إنَّ الوقف لا يَتِمُّ على " سواء " ، فجعل الواوَ اسمَ " ليس " و " سواءً " خبرها ، كما قال الجمهور ، و " أمة " مرتفعة ب " سواء " ارتفاعَ الفاعل ، أي : ليس أهلُ الكتاب مستوياً منهم أمةٌ قائمةٌ موصوفةٌ بما ذُكِر وأمةٌ كافرة ، فَحُذِفَتِ الجملةُ المعادِلة لدلالةِ القسمِ الأولِ عليها كقولِ الشاعر :

دعاني إليها القلبُ إني لأَِمْرِها *** سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها

أي : أم غَيٌّ ، فَحُذِف " الغَيّ " لدلالةِ ضدِّه عليه ، ومثلُه قولُ الآخر :

أراكَ فما أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتَه *** وذو الهَمِّ قِدْماً خاشِعٌ مُتَضائِلُ

أي : أَهَمٌّ هممته أم غيرُه ، فَحُذِفَ للدلالةِ ، وهو كثيرٌ ، قال الفراء : " لأنَّ المساواة تقتضي شيئين كقولِهِ { سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } [ الحج : 25 ] ، وقوله { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [ الجاثية : 21 ] . وقد ضُعِّف قولُ الفراء من حيث الحذفُ ومن حيث وَضْعُ الظاهرِ موضِعَ المضمر ، إذ الأصل : منهم أمةٌ قائمة ، فَوُضِعَ " أهلِ الكتابِ " موضعَ الضمير .

والوجه أن يكونَ " ليسوا سواءً " جملةً تامة ، وقولُه : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ } جملةٌ برأسها ، وقولُه : { يَتْلُونَ } جملةً أخرى مبيِّنَةً لعدم استوائِهم ، كما جاءَتِ الجملةُ مِنْ قولِه : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [ آل عمران : 110 ] إلخ مبيِّنَةً للخيرية . ويجوزُ أن يكونَ " يتلون " في محلِّ رفعٍ صفةً لأمة .

ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من " أمة " لتخصُّصِها بالنعتِ ، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ في " قائمة " ، وعلى كونِها حالاً من " أمة " يكونُ العامل فيها الاستقرارَ الذي تَضَمَّنه الجارُّ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في هذا الجارِّ لوقوعهِ خبراً لأمة .

قوله : { آنَآءَ اللَّيْلِ } ظرفٌ ل " يتلون " . والآناء : الساعات ، واحدها : " أنَى " بفتح الهمزة والنون بزنة " عَصَا " او " إنَى " بكسر الهمزة وفتح النون بزنة " مِعَى " ، أو " أَنْيٌ " بالفتح والسكون بزنة " ظَبْي " أو : إنْيٌ " بالكسر والسكون بزنة " نِحْي " ، أو " إنْوٌ " بالكسر والسكون مع الواو بزنة " جِرْو " ، فالهمزة في " آناء " منقلبةٌ عن ياء على الأقوالِ الأربعةِ كرِداء ، وعن واوٍ على القولِ الأخير ، نحو : " كِساء " وستأتي بقيةُ هذه المادةِ في مواضع .

ولا يجوز ُ أن يكونَ " آناء الليل " ظرفاً ل " قائمة " قال أبو البقاء : " لأنَّ " قائمة " قد وُصِفَتْ فلا تعملُ فيهما بعد الصفة " وهذا على التقدير أن يكونَ " يَتْلُون " وصفاً لقائمة ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ المعنى ليس على جَعْلِ هذه الجملةِ صِفةً لما قبلها ، بل على الاستئنافِ للبيان المتقدم ، وعلى تقديرِ جَعْلِها صفةً لِما قبلها فهي صفةً ل " أمة " لا ل " قائمة " لأنَّ الصفةَ لا تُوصَفُ ، إلا أَنْ يكونَ معنى الصفةِ الثانيةِ لائقاً بما قبلها نحو : " مرَرْتُ برجلٍ ناطقٍ فصيحٍ " ف " فصيح " صفة لناطق ، لأن معناه لائق به . وبعضهم يجعله وصفاً لرجل ، وإنما المانعُ من تعلٌّقِ هذا الظرفِ ب " قائمة " ما ذكرْتُه من استئناف جملته .

قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } يجوزُ أن تكونَ حالاً من فاعلِ " يَتْلُون " أي : يَتْلُون القرآن وهم ساجِدون ، وهذا قد يكونُ في شريعتِهم مشروعيةُ التلاوة في السجودِ بخلافِ شريعتنا ، وبهذا يُرَجَّح قولُ مَنْ يقول : إنهم غيرُ أمةِ محمد . ويجوز أن تكونَ/ حالاً من الضمير في " قائمة " قاله أبو البقاء . وفيه ضعفٌ للاستئناف المذكور ، ويجوز أن تكون مستأنفة .