المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{۞لَيۡسُواْ سَوَآءٗۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ أُمَّةٞ قَآئِمَةٞ يَتۡلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ وَهُمۡ يَسۡجُدُونَ} (113)

لما مضت الضمائر في الكفر والقتل والعصيان والاعتداء عامة في جميع أهل الكتاب ، عقب ذلك بتخصيص الذين هم على خير وإيمان ، وذلك أن أهل الكتاب لم يزل فيهم من هو على استقامة ، فمنهم من مات قبل أن يدرك الشرائع فذلك من الصالحين ، ومنهم من أدرك الإسلام فدخل فيه .

قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا النظر أن جميع اليهود على عوج من وقت عيسى ، وتجيء الآية إشارة إلى من أسلم فقط ، أو يكون اليهود في معنى الأمة القائمة إلى وقت عيسى ، ثم ينتقل الحكم في النصارى ، ولفظ { أهل الكتاب } يعم الجميع ، والضمير في { ليسوا } لمن تقدم ذكره في قوله { منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] وما قال أبو عبيدة من أن الآية نظيرة قول العرب أكلوني البراغيث خطأ مردود{[3434]} ، وكذلك أيضاً ما حكي عن الفراء أن { أمة } مرتفعة ب { سواء } على أنها فاعلة كأنه قال : لا تستوي أمة كذا وإن في آخر الكلام محذوفاً معادلاً تقديره وأمة كافرة ، فأغنى القسم الأول عن ذكرها ودل عليه كما قال أبو ذؤيب :

عَصَيْتُ إليْها الْقَلْبَ إنّي لأَمْرِها . . . سَمِيعٌ فما أدري أَرُشْدٌ طِلابُها{[3435]} ؟

المعنى أم غيّ ، فاقتصر لدلالة ما ذكر عليه .

قال القاضي أبو محمد : وإنما الوجه أن الضمير في { ليسوا } يراد به من تقدم ذكره ، و { سواء } خبر ليس ، و { من أهل الكتاب } مجرور فيه خبر مقدم ، و { أمة } رفع بالابتداء قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسيد{[3436]} بن سعية وأسد بن عبيد{[3437]} ومن أسلم من اليهود ، معهم ، قال الكفار من أحبار اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم ، فأنزل الله تعالى في ذلك { ليسوا سواء } الآية ، وقال مثله قتادة وابن جريج .

قال القاضي أبو محمد : وهو أصح التأويلات ، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : معنى الآية : ليس اليهود وأمة محمد سواء ، وقاله السدي .

قال القاضي أبو محمد : فمن حيث تقدم ذكر هذه الآمة في قوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] وذكر أيضاً اليهود قال الله لنبيه { ليسوا سواء } و { الكتاب } على هذا جنس كتب الله وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط ، والمعنى : { من أهل الكتاب } وهم أهل القرآن أمة قائمة : واختلفت عبارة المفسرين في قوله { قائمة } فقال مجاهد : معناه عادلة ، وقال قتادة والربيع وابن عباس : معناه قائمة على كتاب الله وحدوده مهتدية ، وقال السدي : القائمة القانتة المطيعة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يرجع إلى معنى واحد من الاعتدال على أمر الله ، ومنه قيل للدنانير أو الدراهم الوازنة قائمة وهذه الآية تحتمل هذا المعنى وأن لا تنظر اللفظة إلى هيئة الأشخاص وقت تلاوة آيات الله ، ويحتمل أن يراد ب { قائمة } وصف حال التالين في { آناء الليل } ، ومن كانت هذه حاله فلا محالة أنه معتدل على أمر الله ، وهذه الآية في هذين الاحتمالين مثل ما تقدم في قوله :

{ إلا ما دمت عليه قائماً }{[3438]} و { يتلون } معناه : يسردون ، و { آيات الله } في هذه الآية هي كتبه ، و «الآناء » : الساعات واحدها «إني » بكسر الهمزة وسكون النون ، ويقال فيه «أني » بفتح الهمزة ، ويقال «إنَى » بكسر الهمزة وفتح النون والقصر ، ويقال فيه «أنى » بفتح الهمزة ويقال «إِنْو » بكسر الهمزة وسكون النون وبواو مضمومة ومنه قول الهذيلي : [ البسط ]

حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ الْقدْحِ مِرَّتهُ . . . في كلُّ إنيٍ قضاه الليل ينتعل{[3439]}

وحكم هذه الآية لا يتفق في شخص بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل وإنما يقوم هذا الحكم من جماعة الأمة ، إذا بعض الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عبارة { آناء الليل } بالقيام ، وهكذا كان صدر هذه الأمة ، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل أو قبله بشيء ، وحينئذ كان يقوم الأكثر ، والقيام طول الليل قليل وقد كان في الصالحين من يلتزمه ، وقد ذكر الله تعالى القصد من ذلك في سورة المزمل ، وقيام الليل لقراءة العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية ، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع المسلمين بعلمه ، وأما عبارة المفسرين في { آناء الليل } ، فقال الربيع وقتادة وغيرهما : { آناء الليل } ساعات الليل ، وقال عبد الله بن كثير : سمعنا العرب تقول { آناء الليل } ساعات الليل ، وقال السدي : { آناء الليل } جوف الليل .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قلق ، أما ان جوف الليل جزء من الآناء ، وقال ابن مسعود : نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم احتبس عنا ليلة عن صلاة العشاء وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى ليل ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع ، فقال : ( أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة ) {[3440]} ، فأنزل الله تعالى : { ليسوا سواء } الآية ، فالمراد بقوله : { يتلون آيات الله آناء الليل } صلاة العشاء ، وروى سفيان الثوري عن منصور{[3441]} أنه قال : بلغني أن هذه الآية نزلت في المصلين بين العشاءين وقوله تعالى : { وهم يسجدون } ذهب بعض الناس إلى أن السجود هنا عبارة عن الصلاة ، سماها بجزء شريف منها كما تسمى في كثير من المواضع ركوعاً ، فهي على هذا جملة في موضع الحال ، كأنه قال : يتلون آيات الله آناء الليل مصلين ، وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة مقطوعة من الكلام الأول ، أخبر عنهم أنهم أيضاً أهل سجود .

قال القاضي أبو محمد : ويحسن هذا من جهة أن التلاوة آناء الليل قد يعتقد السامع أن ذلك في غير الصلاة ، وأيضاً فالقيام في قراءة العلم يخرج من الآية على التأويل الأول ، وثبت فيها على هذا الثاني ف { هم يسجدون } على هذا نعت عدد بواو العطف ، كما تقول : جاءني زيد الكريم والعاقل .


[3434]:- ذهب أبو عبيدة إلى أن الواو في [ليسوا] علامة جمع لا ضمير – مثل في ذلك قول الشاعر: يلومونني في شراء النخيـ ـل قومي، وكلهم ألوم واسم (ليس) هو: (أمة قائمة)- أي: ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة. قال أبو (حيان) في البحر المحيط: "إن ابن عطية توهم أن اسم (ليس) هو (أمة قائمة) فقط، وأنه لا محذوف- فإذا عرف أن ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية وإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردودا".
[3435]:- البيت لأبي ذؤيب الهذلي أنشده ابن هشام في المغني وروايته: دعاني إليها القلب إني لأمره سميع.......................... ورواه النيسابوري في تفسيره بهذا اللفظ: دعاني إليها القلب إني لأمره مطيع ومعنى البيت على ما في ديوان الهذليين: عصاني إليها: أي خطر إليها قلبي وذهب إليها، فما أدري أرشد الذي وقعت فيه أم غي؟ وقال غيره: أراك فما أدري أهم ضممته وذو الهم قدما خاشع متضائل والتقدير: أم غيره. قال الفراء: لأن المساواة تقتضي شيئين، وذلك واضح في قوله تعالى: [سواء العاكف فيه والباد]. [سواء محياهم ومماتهم].
[3436]:-أسيد بن سعية بن عريض القرظي أحد من أسلم من اليهود، نزل هو وأخوه ثعلبة بن سعية في الليلة التي في صبيحتها نزل بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ ومعهما أسيد بن عبيد القرظي فأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم. "الإصابة 1/33". و"الاستيعاب 1/56".
[3437]:-أسد بن عبيد القرظي ذكره ابن حبان في الصحابة وهو أحد من أسلم من اليهود مع أسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية وغيرهما، وفيهم قالت اليهود لما أسلموا: ما أتى محمدا إلا شرارنا، فأنزل الله فيهم: [ليسوا سواء من أهل الكتاب] الآية "الإصابة 1/33].
[3438]:- تقدمت في سورة آل عمران، في الآية: 75.
[3439]:- المتنخل لقبه، واسمه: مالك بن عويمر بن سويد، وقيل: بن عويمر بن عثمان، ويكنى أبا أثيلة، جاهلي من شعراء هذيل وفحولهم وفصحائهم. "الأغاني 20/145". و"خزانة الأدب 2/137". والبيت من قصيدة قالها في ابنه أثيلة يرثيه. ورواية البيت في الديوان وفي كتاب الشعر والشعراء: في كل أني حذاء الليل ينتعل. ورواية الأغاني: في كل آن أتاه، والقدح: السهم. المرة: الشدة والقوة. إني واحد الآناء، وهي الساعات. وينتعل: يسري في كل ساعة من هدايته.
[3440]:- أخرجه أحمد، والنسائي، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني. قال السيوطي: بسند حسن عن ابن مسعود قال: (أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ليلة) الحديث. ولفظ ابن جرير، والطبراني قال: (إنه لا يصلي هذه الصلاة) الحديث. "فتح القدير للشوكاني 1/ 342".
[3441]:- هو منصور بن المعتمر بن عبد الله أبو عتاب السلمي الكوفي، روى عن أبي وائل، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وخلق، وروى عنه أيوب، وحصين بن عبد الرحمان، والثوري، وابن عيينة، وآخرون، كان أثبت أهل الكوفة، صام ستين سنة وقامها، توفي سنة 132هـ. "تهذيب التهذيب 10/312".