الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞لَيۡسُواْ سَوَآءٗۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ أُمَّةٞ قَآئِمَةٞ يَتۡلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيۡلِ وَهُمۡ يَسۡجُدُونَ} (113)

ثم أخبر فقال : " ليسوا سواء " وتم الكلام . والمعنى : ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء ، عن ابن مسعود . وقيل : المعنى ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء . وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا شيبان ، عن عاصم ، عن زر ، عن ابن مسعود قال : أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة{[3365]} صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : ( إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم ) قال : أنزلت هذه الآية " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة - إلى قوله : والله عليم بالمتقين " وروى ابن وهب مثله . وقال ابن عباس : قول الله عز وجل " من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " من آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن إسحاق عن ابن عباس لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية{[3366]} ، وأسيد{[3367]} بن سعيه ، وأسيد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود ، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا{[3368]} فيه ، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . إلى قوله : وأولئك من الصالحين " . وقال الأخفش : التقدير من أهل الكتاب ذو أمة ، أي ذو طريقة حسنة . وأنشد :

وهل يَأْتمَن ذو أُمَّةٍ وهو طائع

وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة ، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى ؛ كقول أبي ذؤيب :

عصاني{[3369]} إليها القلب إني لأَمرِه *** مطيعٌ فما أدري أرُشْدٌ طِلابها

أراد : أرشد أم غي ، فحذف . قال الفراء : " أمة " رفع ب " سواء " ، والتقدير : ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة . قال النحاس : هذا قول خطأ من جهات : إحداها أنه يرفع " أمة " ب " سواء " فلا يعود على اسم ليس بشيء ، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه ؛ لأنه قد تقدم ذكر الكافر فليس لإضمار هذا وجه . وقال أبو عبيدة : هذا مثل قولهم : أكلوني البراغيث ، وذهبوا أصحابك . قال النحاس : وهذا غلط ؛ لأنه قد تقدم ذكرهم ، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر . و " أناء الليل " ساعاته . وأحدها إنًى وأنًى وإنْيٌ ، وهو منصوب على الظرف . و " يسجدون " يصلون ؛ عن الفراء والزجاج ؛ لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود . نظيره قوله : " وله يسجدون " {[3370]} أي يصلون . وفي الفرقان : " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن " {[3371]} [ الفرقان : 60 ] وفي النجم " فاسجدوا لله واعبدوا " {[3372]} [ النجم : 62 ] . وقيل : يراد به السجود المعروف خاصة . وسبب النزول يرده ، وأن المراد صلاة العتمة كما ذكرنا عن ابن مسعود . فعبدة الأوثان ناموا حيث جن عليهم الليل ، والموحدون قيام بين يدي الله تعالى في صلاة العشاء يتلون آيات الله ، ألا ترى لما ذكر قيامهم قال " وهم يسجدون " أي مع القيام أيضا . الثوري : هي الصلاة بين العشاءين . وقيل : هي في قيام الليل . وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال : إنا نجد كلاما من كلام الرب عز وجل : أيحسب راعي إبل أو راعي غنم إذا جنه الليل انخَذَلَ{[3373]} كمن هو قائم وساجد آناء الليل .


[3365]:- الزيادة في د.
[3366]:- سعية: بالسين والعين المهملتين وياء باثنتين.
[3367]:- في الاستيعاب في ترجمة أسيد هذا: "رواه يونس ابن بكير عن ابن إسحاق (أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين، وكذلك قال الواقدي. وفي رواية إبراهيم ابن سعد عن ابن إسحاق (أسيد) بالضم. والفتح عندهم أصح".
[3368]:- في د و ب: تنجوا فيه.
[3369]:- في الأصول: *عصيت إليها القلب إني لأمرها* والتصويب عن ديوان أبي ذؤيب. يقول: عصاني القلب وذهب إليها فأنا أتبع ما يأمرني به.
[3370]:- راجع جـ7 ص 356.
[3371]:- راجع جـ13 ص 64.
[3372]:- راجع جـ17 ص 121.
[3373]:- انخذل: انفرد.