الظاهر في هذه أنّ الوقف على " سَوَاءٌ " تام ؛ فإن الواو اسم " ليس " و " سواء " خبر ، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم .
والمعنى : أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر ؛ لقوله : { مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [ آل عمران : 110 ] ، فانتفى استواؤهم .
و " سواء " - في الأصل - مصدر ، ولذلك وُحِّدَ ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة .
قال أبو عبيدة : الواو في " لَيْسُوا " علامة جمع ، وليست ضميراً ، واسم " ليس " - على هذا - " أمة " و " قَائِمَةٌ " صفتها ، وكذا " يَتْلُونَ " ، وهذا على لغة " أكلوني البراغيث " .
يَلُومَونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِي *** لِ أهْلِي ، فَكُلُّهُمْ بعَذْلِ أَلُومُ{[5804]}
قالوا : وهي لغة ضعيفة ، ونازع السُّهَيْلِيّ النحويين في كونها ضعيفةً ، ونسبها بعضُهم إلى شنوءة ، وكثيراً ما جاء عليها الحديث ، وفي القرآن مثلُها . وسيأتي تحقيقها في المائدة .
قال ابنُ عطية : وما قاله أبو أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ ، ولم يبيِّن وَجْهَ الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم " ليس " هو { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } فقط ، وأنه لا محذوفَ ثَمَّ ؛ إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قُدِّر - ثَمَّ - محذوف لم يكن قول أبي عبيدةَ خطأً مردوداً إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة وقد تقدم ما فيها . والتقدير الذي يصح به المعنى : أي : ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِرَ ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ .
وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على " سَوَاءً " فجعل الواو اسم " ليس " ، و " سَوَاءً " خبرها - كما قال الجمهور - و " أمَّةٌ " مرتفعة ب " سَوَاءً " ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ .
وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على " سَوَاءً " فجعل الواو اسم " ليس " ، و " سَوَاءً " خبرها - كما قال الجمهور - و " أمَّةٌ " مرتفعة ب " سَوَاءً " ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فحُذِفَت هذه الجملةُ المعادلة ؛ لدلالة القسم الأول عليها ؛ فإن مذهب العرب إذا ذُكِرَ أحد الضدين ، أغْنَى عن ذِكر الضِّدِّ الآخَر .
دَعَانِي إلَيْهَا الْقَلْبُ إنِّي لأمْرِهَا *** سَمِيعٌ ، فَمَا أدْرِي أرُشْدٌ طِلاَبُها ؟{[5805]}
والتقدير : أم غي ، فحذف الغَيّ ؛ لدلالة ضِدِّه عليه .
أرَاكَ ، فَمَا أدْرِي أهَمٌّ هَمَمْتُهُ *** وَذُو الْهَمِّ قِدْماً خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ{[5806]}
أي أهم هممته أم غيره ؟ فحذف ؛ للدلالة ، وهو كثير .
قال الفراء : " لأن المساواة تقتضي شيئين " ، كقوله : { سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } [ الحج : 25 ] ، وقوله : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [ الجاثية : 21 ] .
وقد ضُعِّفَ قَوْلُ الفراء من حيث الحذف ، ومن حيث وَضع الظاهر مَوْضِعَ المُضْمَر ؛ إذ الأصل : منهم أمة قائمة ، فوضع أهل الكتاب موضع المضمر .
والوجه أن يكون { لَيْسُواْ سَوَآءً } جملة تامة ، وقوله : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ } جملة برأسها ، وقوله : { يَتْلُونَ } جملة أخرى ، مبينة لعدم استوائهم - كما جاءت الجملة من قوله : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [ آل عمران : 110 ] مبيِّنة للخيريَّةِ .
ويجوز أن يكون { يَتْلُونَ } في محل رفع ، صفة ل " أمَّةٌ " .
ويجوز أن يكون حالاً من " أمَّةٌ " ؛ لتخصُّصِها بالنعت .
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " قَائِمة " ، وعلى كونها حالاً من " أمَّةٌ " يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار .
ويجوز أن يكون حالاً من الضميرِ المستكن في هذا الجار ، لوقوعه خبراً ل " أمَّة " .
قال جمهور العلماء : المراد بأهل الكتاب : مَنْ آمَنَ بموسى وعيسى عليهما السلام .
روى ابن عباس ، ومقاتل : انه لما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ، قال أحبار اليهود : ما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا شِرارُنا ، ولولا ذلك ما تركوا دينَ آبائِهم ، لقد كفروا ، وخسروا ، فأنزل الله هذه الآية ؛ لبيان فضلهم . {[5807]}
وقيل : لما وَصَفَ أهلَ الكتاب - في الآيات المتقدمةِ - بالصفات المذمومة ، ذَكَر - في هذه الآية - أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك ، بل فيهم مَنْ يكون موصوفاً بالصفات المحمودة المرضية .
قال الثوريّ : بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يُصلون بين المغرب والعشاء . {[5808]}
وعن عطاء ، أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجرانَ ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثلاثة من الروم ، كانوا على دين عيسى ، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكان من الأنصار فيهم عدة - قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، ومحمد بن مسلمة ، وأبو قيس صِرْمة بن أنس ، كانوا موحِّدين ، يغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية ، حتى بعث الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم فصدَّقوه ، ونصروه . {[5809]}
وقال آخرون : المراد بأهل الكتاب : كل من أوتي الكتابَ من أهل الأدْيان - والمسلمون من جُمْلتهم - قال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] ، ويؤيِّد هذا ما رَوَى ابنُ مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : " أما إنه ليس أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأدْيَانِ يَذْكُرُ اللهَ - تَعَالَى - هَذِهِ السَّاعةِ غَيْركُمْ " وقرأ هذه الآية . {[5810]}
قال القفال : ولا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرُهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا .
ولا يبعد - أيضاً - أن يقال : المراد : كلّ مَنْ آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسمَّاهم الله بأهل الكتاب ، كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة ، والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا ، فكيف يستويان ؟ فيكون الغرض - من هذه الآية - تقرير فضيلة أهل الإسلام ، تأكيداً لما تقدم من قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ونظيره قوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] ، منهم { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ } قيل : قائمة في الصلاة يتلون آياتِ الله ، فعبَّر بذلك عن تهجُّدِهم .
وقال ابن عباس : مهتدية ، قائمة على أمر الله - تعالى - لم يضيِّعوه ، ولم يتركوه . {[5811]}
قال الحسن : ثابتة على التمسُّك بالدين الحق ، ملازمة له ، غير مضطربة ، كقوله تعالى : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } [ آل عمران : 75 ] .
قال مجاهد : " قَائِمَةٌ " أي : مستقيمة ، عادلة - من قولك : أقمت العود - فقام بمعنى : استقام .
وقيل : الأمَّة : الطريقة ، ومعنى الآية : { مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ } أي : ذو أمة ، ومعناه : ذو طريقة مستقيمة ، والمراد ب { آيَاتِ اللَّهِ } : القرآن ، وقد يُراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على ذاته ، وصفاته ، والمراد هاهنا : الأول .
قوله : { آنَآءَ اللَّيْلِ } ظرف ل " يتلون " ، والآناء : الساعات ، واحده : أنَى - بفتح الهمزة والنون ، بزنة عصا -أو إنَى بكسر الهمزة ، وفتح النون ، بزنة مِعًى ، أو أنْي - بالفتح والسكون بزنة ظَبْي ، أو إنْي - بالكسر والسكون ، بزنة نِحْي - أو إنْو - بالكسر والسكون مع الواو ، بزنة جرو - فالهمزة في " آناء " منقلبة عن ياء ، على الأقوال الأربعة - كرداء - وعن واو على القول الأخير ، نحو كساء .
قال القفال : كأن التأنِّيَ مأخوذ منه ، لأنه انتظار الساعات والأوقات ، وفي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة - : " آذيت وآنيت " أي : دافعت الأوقات . وستأتي بقية هذه المادة في مواضعها .
ولا يجوز أن يكون " آناء الليل " ظرفاً لِ " قَائِمَةٌ " .
قال أبو القباءِ : " لأن " قَائِمَةٌ " قد وُصِفَتْ ، فلا يجوز أن تعمل فيما بعد الصفة " ، وهذا على تقدير أن يكون " يَتْلُونَ " وَصْفاً لِ " قائمة " ، وفيه نظر ؛ لأن المعنَى ليس على جَعْل هذه الجملةِ صفة لما قبلها ، بل على الاستئناف للبيان المتقدم ، وعلى تقدير جَعْلها صفة لما قبلها ، فهي صفة ل " أمَّةٌ " ، لا لِ " قَائِمَةٌ " ؛ لأن الصفة لا توصَف إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقاً بما قبلها ، نحو : مررت برجل ناطقٍ فصيح ، ففصيح صفة لناطق ؛ لأن معناه لائق به ، وبعضهم يجعله وَصْفاً لرجل .
وإنما المانع من تعلُّق هذا الظرف ب " قَائِمَةٌ " ما ذكرناه من استئناف جملته .
قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } يجوز أن يكون حالاً من فاعل " يَتْلُونَ " أي : يَتْلُونَ القرآن ، وهم ساجدون ، وهذا قد يكون في شريعتهم - مشروعية التلاوة في السجود - بخلاف شرعنا ، قال عليه السلام " ألاَ إنِّي نُهِيتُ أن أقرأ القُرآنَ رَاكِعاً ، أو سَاجِداً " ، وبهذا يرجح قول من يقول إنهم غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " قَائِمَةٌ " قاله أبو البقاء .
وفيه ضعف ؛ للاستئناف المذكور .
وقيل : المراد بقوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } : أنهم يصلون ، والصلاة تسمى سجوداً ، وركوعاً ، وتسبيحاً ، قال تعالى : { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] ، وقال : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] ، والمراد : الصلاة .
وقيل : { يَسْجُدُونَ } أي : يخضعون لله ؛ لأن العرب تسمِّي الخضوعَ سجوداً ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } [ النحل : 49 ] .
ويجوز أن تكون مستأنفة ، والمعنى : أنهم يقومون تارةً ، ويسجدون تارةً ، يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله ، ونظيره قوله : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 64 ] .