{ عسى ربه إن طلقكن } أي : واجب من الله إن طلقكن رسوله ، { أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات } خاضعات لله بالطاعات ، { مؤمنات } مصدقات بتوحيد الله ، { قانتات } طائعات ، وقيل : داعيات . وقيل : مصليات ، { تائبات عابدات سائحات } صائمات ، وقال زيد بن أسلم : مهاجرات وقيل : يسحن معه حيث ما ساح ، { ثيبات وأبكاراً } وهذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال : { إن طلقكن } وقد علم أنه لا يطلقهن وهذا كقوله : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم }( محمد- 38 ) وهذا في الإخبار عن القدرة لأنه ليس في الوجود أمة خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال المهدوي : وهذه الآية نزلت على لسان عمر ، وكذا روي أن عمر بن الخطاب قال لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن } . فنزلت الآية على نحو قوله{[11192]} ، وقال عمر رضي الله عنه : قالت لي أم سلمة : يا ابن الخطاب ، أدخلت نفسك في كل شيء حتى دخلت بين رسول الله وبين نسائه ، فأخذتني أخذاً كسرتني به ، وقالت لي زينب بنت جحش : يا عمر ، أما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، وقرأ الجمهور : «طلقَكن » بفتح القاف وإظاهره ، وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه : «طلقكنّ » بشد الكاف وإدغام القاف فيها ، وقال أبو علي : وإدغام القاف في الكاف حسن ، وقرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون والحسن وأبو رجاء وابن محيصن : «أن يبْدِله » بسكون الباء وتخفيف الدال ، وقرأ نافع والأعرج وأبو جعفر : «أن يبَدِّله » بفتح الباء وشد الدال ، وهذه لغة القرآن في هذا الفعل ، وكرر الله تعالى الصفات مبالغة ، وإن كان بعضها يتضمن بعضاً ، فالإسلام إشارة إلى التصديق ، والعمل والإيمان : تخصيص للإخلاص وتنبيه على شرف موقعه ، { وقانتات } معناه : مطيعات ، والسائحات قيل معناه : صائمات ، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك . وذكر الزجاج أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، وقيل معناه هاجرات قاله زيد بن أسلم ، وقال ابن زيد : ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة ، وقيل : معناه ذاهبات في طاعة الله ، وشبه الصائم بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زاد ولا مطعم ، وكذلك الصائم يمسك عن ذلك فيستوي هو والسائح في الامتناع وشظف العيش لفقد الطعام ، وقوله تعالى { ثيبات وأبكاراً } تقسيم لكل واحدة من الصفات المتقدمة ، وليست هذه الواو مما يمكن أن يقال فيها : واو الثمانية لأنها هنا ضرورية ، ولو سقطت لاختل هذا المعنى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: عسى ربّ محمد إن طلقكنّ يا معشر أزواج محمد صلى الله عليه وسلم أن يبدله منكنّ أزواجا خيرا منكن.
وقيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة...
وقوله:"مُسْلِماتٍ "يقول: خاضعات لله بالطاعة "مُؤمِناتٍ" يعني مصدّقات بالله ورسوله.
وقوله "قَانِتات" يقول: مطيعات لله... وقوله: "تائِباتٍ" يقول: راجعات إلى ما يحبه الله منهنّ من طاعته عما يكرهه منهنّ، "عابِدَاتٍ" يقول: متذللات لله بطاعته. وقوله "سائحاتٍ" يقول: صائمات...
وقال آخرون: السائحات: المهاجرات...
وقد بيّنا الصواب من القول في معنى السائحين فيما مضى قبل بشواهده مع ذكرنا أقوال المختلفين فيه، وكرهنا إعادته.
وكان بعض أهل العربية يقول: نرى أن الصائم إنما سمي سائحا، لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام، فكأنه أُخذ من ذلك.
وقوله: "ثَيّباتٍ" وهنّ اللواتي قد افترعن وذهبت عذرتهنّ. "وأبْكارا" وهنّ اللواتي لم يجامعن، ولم يفترعن.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) فإن قيل: كيف خيرا منكن ولم يكن في ذلك الوقت أحد من النساء خيرا منهن؟
والجواب: أن معناه: إن طلقكن بإلجائكن إياه إلى الطلاق، وشدة آذاكن له، وترك التوبة فيبدله خيرا منكن أي: أطوع له منكن، ويقال: أحب له منكن...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
هذا في الإخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه قال: {إن طلقكن} وقد علم أنه لا يطلقهن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف تكون المبدلات خيراً منهن، ولم تكن على وجه الأرض نساء خير من أمّهات المؤمنين؟ قلت: إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه، لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هواه ورضاه خيراً منهن، وقد عرض بذلك في قوله: {قانتات} لأنّ القنوت هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله. فإن قلت: لم أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت: لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات، فلم يكن بدّ من الواو...
ثم خوف نساءه بقوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} قال المفسرون: عسى من الله واجب...
ثم قال تعالى: {ثيبات وأبكارا} لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة بعضها من الثيب وبعضها من الأبكار، فالذكر على حسب ما وقع، وفيه إشارة إلى أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ليس على حسب الشهوة والرغبة، بل على حسب ابتغاء مرضات الله تعالى.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
خَرّجَ البخاريّ بسنده عن أنس قال: قال عمر: اجْتَمَع نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم في الغِيرَةِ عليه فقلتُ لَهُنَّ: {عسى ربُّه إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يبدله أزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} فنزلت هذه الآية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{عسى ربه} أي المحسن إليه بجميع أنواع الإحسان التي عرفتموها...
{إن طلقكن} أي بنفسه من غير اعتراض عليه جمع أو بعضكن بإيجاد الطلاق لمن لم يطلقها وإدامته من طلقها {أن يبدّله} منكن بمجرد طلاقه...
{أزواجاً} ولما كان علوها عليها في الرتبة هو النهاية في التأسيف قال: {خيراً} ودل على أنها للتفضيل بقوله: {منكن} وهذا على سبيل الفرض وعام في الدنيا والآخرة...
{مسلمات} أي ملقيات لجميع قيادهن ظاهراً وباطناً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم على وجه الخضوع...
{مؤمنات} أي راسخات في القوة العلمية بتصديق الباطن...
{قانتات} أي مخلصات في ذلك لا شائبة في شيء منه فهن في غاية ما يكون من إدامة الطاعة...
. {تائبات} أي راجعات من الهفوات أو الزلات سريعاً إن وقع منهن شيء من ذلك ....
... {سائحات} أي متصفات بصفات الملائكة من التخلي عن الدنيا والاستغراق في الآخرة...
. {ثيبات} قدمهن لأنهن أخبر بالعشرة التي هذا سياقها {وأبكاراً}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: فلا ترفعن عليه، فإنه لو طلقكن، لم يضق عليه الأمر، ولم يكن مضطرًا إليكن، فإنه سيلقى ويبدله الله أزواجًا خيرًا منكن، دينا وجمالًا، وهذا من باب التعليق الذي لم يوجد، ولا يلزم وجوده، فإنه ما طلقهن، ولو طلقهن، لكان ما ذكره الله من هذه الأزواج الفاضلات، الجامعات بين الإسلام، وهو القيام بالشرائع الظاهرة، والإيمان...
وفي هذا دليل على أن الله لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا أكمل الأحوال وأعلى الأمور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{عسى} هنا مستعملة في التحقيق وإيثارها هنا لأن هذا التبديل مجرد فرض وليس بالواقع لأنهن لا يظن بهن عدم الارعواء عما حذرن منه، وفي قوله: {خيراً منكن} تذكير لهن بأنهن ما اكتسبن التفضيل على النساء إلا من فضل زوجهن عند الله وإجراء الأوصاف المفصلة بعد الوصف المجمل وهو {خيراً منكن} للتنبيه على أن أصول التفضيل موجودة فيهن... والقانتات: القائمات بالطاعة أحسن قيام...
.وفي هذا الوصف إشعار بأنهن مطيعات لله ورسوله ففيه تعريض لما وقع من تقصير إحداهن في ذلك فعاتبها الله وأيقظها للتوبة. والتائبات: المقلعات عن الذنب إذا وقعن فيه...
. والعابدات: المقبلات على عبادة الله وهذه الصفات تفيد الإِشارة إلى فضل هذه التقوى... والسائحات: المهاجرات وإنما ذكر هذا الوصف لتنبيههن على أنهنّ إن كنّ يمتُنّ بالهجرة فإن المهاجرات غيرَهن كثير، والمهاجرات أفضل من غيرهن... وهذه الصفات انتصبت على أنها نعوت ل {أزواجاً}، ولم يعطف بعضُها على بعض الواو، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون الواو للتقسيم، أي تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض، ألا ترى أنه لما أريدت إفادة ثبوت إحدى صفتين دون أخرى من النعتين الواقعين بعد ذلك كيف عطف بالواو قولُه: {وأبكاراً} لأن الثّيبات لا يوصفن بأبكار. والأبكار لا يوصفن بالثيّبات...
ووجه هذا التفصيل في الزوجات المقدرات لأن كلتا الصفتين محاسنها عند الرجال؛ فالثيب أرعى لواجبات الزوج وأميل مع أهوائه وأقوم على بيته وأحسن لِعاباً وأبهى زينة وأحلى غنجاً. والبكر أشد حياء وأكثر غرارة ودلاً...
وتقديم وصف {ثيبات} لأن أكثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمّا تزوجهن كن ثيبات. ولعله إشارة إلى أن الملام الأشد موجه إلى حفصة قبل عائشة وكانت حفصة ممن تزوجهن ثيبات وعائشة هي التي تزوجها بكراً. وهذا التعريض أسلوب من أساليب التأديب...