اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{عَسَىٰ رَبُّهُۥٓ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبۡدِلَهُۥٓ أَزۡوَٰجًا خَيۡرٗا مِّنكُنَّ مُسۡلِمَٰتٖ مُّؤۡمِنَٰتٖ قَٰنِتَٰتٖ تَـٰٓئِبَٰتٍ عَٰبِدَٰتٖ سَـٰٓئِحَٰتٖ ثَيِّبَٰتٖ وَأَبۡكَارٗا} (5)

قوله : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ } .

قيل : كل «عَسَى » في القرآن واجب إلا هذا .

وقيل : واجب ، ولكن الله - عزَّ وجلَّ - علقه بشرط ، وهو التطليق ولم يطلقهن .

قال النحويون : «إنْ طلَّقكُنَّ » شرط معترض بين اسم «عَسَى » وخبرها ، وجوابه محذوفٌ ، أو متقدم ، أي «إنْ طلقَكُنَّ فَعَسى » .

وأدغم أبو عمرو القاف في الكاف على رأي بعضهم{[57210]} .

قال : وهو أولى من { يَرْزُقُكمْ }[ يونس : 31 ] ، ونحوه لثقل التأنيثِ .

قوله : { أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً } .

قرئ : مخففاً{[57211]} ومشدداً ، كما تقدم في «الكهف » .

والتبديل والإبدال بمعنى كالتنزيل والإنزال .

وقوله : { أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } .

لأنكن لو كنتن خيراً منهن ما طلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معناه السديُّ .

وقيل : هذا وعد من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه في الآخرة نساء خيراً منهن ، وكان الله عالماً بأنه لا يطلقهن ، ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن طلقهن أبدله خيراً منهن تخويفاً لهن ، كقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ }[ محمد : 38 ] وهو إخبار عن القدرة وتخويف لهم ، لا أن في الوجودِ من هو خير من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم

فصل في الكلام على لفظ مسلمات

قوله : { مُسْلِمَاتٍ } إلى آخره . إما نعت أو حال أو منصوب على الاختصاص .

قال سعيد بن جبير : يعني مخلصاتٍ .

وقيل : مسلمات لأمر الله تعالى وأمر رسوله خاضعات لله بالطاعة { مُّؤْمِنَاتٍ } أي : مصدقات بتوحيد الله .

وقيل : مصدقات بما أمرنَ به : ونهين عنه { قَانِتَاتٍ } مطيعات ، والقنوت : الطاعة .

وقيل : داعياتٍ بتوحيد الله .

وقيل : مصليات «تائبات » أي : من ذنوبهن ، قاله السديُّ .

وقيل : راجعاتٍ إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم تاركاتٍ لمحاب أنفسهن ، { عَابِدَاتٍ } أي : كثيرات العبادةِ لله تعالى .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : كل عبادة في القرآن فهو التوحيد{[57212]} { سَائِحَاتٍ } أي : صائمات ، قاله ابن عبَّاس والحسن وابن جبير{[57213]} .

وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن ويمان : مهاجرات .

قال زيد : وليس في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة . والسياحة الجولان في الأرض .

وقال الفرَّاء{[57214]} والقتبي وغيرهما : سمي الصائمُ سائحاً ؛ لأن السائحَ لا زاد معه ، وإنما يأكل من حيث وجد الطعام .

وقيل : يسحن معه حيثما ساح .

وقيل : ذاهبات في طاعة الله تعالى ، من ساح الماءُ إذا ذهب . وقد مضى في سورة براءة{[57215]} .

وقرأ{[57216]} عمرو{[57217]} بن فائد : «سَيِّحاتٍ » .

فصل في الكلام على الآية .

قال ابن الخطيب{[57218]} : فإن قيل : كيف تكون المبدلات خيراً منهن ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين ؟ .

فالجواب : إذا طلقهن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لعصيانهن له ، وإيذائهن إياه كان غيرهن من الموصوف بهذه الصفات مع الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم خيراً منهن .

فإن قيل : قوله : { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } يوهم التَّكرارَ ؛ لأن المسلمات والمؤمنات سواء ؟ فالجواب{[57219]} : الإسلام هو التصديق باللسان ، والإيمان التصديق بالقلب ، وقد لا يجتمعان فقوله { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } تحقيقاً لاجتماعهما .

قوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } .

إنما توسطت الواو بين ثيبات وأبكاراً لتنافي الوصف دون سائر الصفات .

و «ثَيِّباتٍ » ونحوه لا ينقاس ؛ لأنه اسم جنس مؤنث ، فلا يقال : نساء حورات ، ولا رأيت عينات .

و «الثَّيِّبُ » وزنها «فَيعِل » من «ثاب يثوب » أي : رجع ، كأنها ثابت بعد زوال عذرتها .

وأصله : «ثَيْوب » ك «سيِّد وميِّت » أصلهما : «سَيْود ومَيْوت » على الإعلال المشهور .

والمعنى : منهن ثيّب ، ومنهن بِكْر .

قيل : إنما سميت ثيِّباً ؛ لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها ، وإلى غيره إن فارقها .

وقيل : لأنها ثابت إلى بيت أبويها .

قال القرطبي{[57220]} : «والأول أصح ؛ لأن ليس كل ثيب تعود إلى زوج ، وأما البكر : فهي العذراء ، سميت بكراً ؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها » .

قال ابن الخطيب{[57221]} : فإن قيل : ذكر الثيبات في مقام المدحِ ، وهي من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن ؟ .

فالجوابُ : يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول - عليه الصلاة والسلام - لاختصاصهن بالمال ، والجمال ، أو النسب ، أو المجموع ، وإذا كان كذلك ، فلا يقدح ذكر الثَّيِّب في المدح ، لجواز ذلك .

وقال الكلبيُّ : أراد بالثيِّب مثل : آسية امرأة فرعون ، وبالبكر مثل : مريم ابنة عمران{[57222]} .

قال القرطبيُّ{[57223]} : «وهذا إنما يمشي على قول من قال : إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيراً منهن ، والله أعلم » .


[57210]:ينظر: المحرر الوجيز5/332، والبحر المحيط 8/287، والدر المصون 6/337.
[57211]:وهي قراءة نافع والأعرج وأبي جعفر كما في: المحرر الوجيز 5/332، وينظر: الدر المصون 6/337.
[57212]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/127).
[57213]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/156) عن ابن عباس وقتادة والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/374) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[57214]:ينظر: معاني القرآن له 3/167.
[57215]:آية رقم 112.
[57216]:في أ: واختار.
[57217]:ينظر: البحر المحيط 8/287، والدر المصون 6/337.
[57218]:ينظر: الفخر الرازي 30/40.
[57219]:السابق 30/41.
[57220]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/127.
[57221]:ينظر: الفخر الرازي 30/41.
[57222]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/127) عن الكلبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/374) عن بريدة بمعناه وعزاه إلى الطبراني وابن مردويه.
[57223]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/127.