الآية 5 وقوله تعالى { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } وعلى قول المعتزلة : لا يملك أن يبدل خيرا منهن ، إذ لا يقدر على أن يجعل في أحد خيرا على قولهم ، ولا يملك أن يبدله أزواجا لأنه لا يقدر على زعمهم على أن يجعل واحدة {[21575]} من النسوان زوجة لأحد { من الرجال ] {[21576]} وإنما المشيئة والاختيار إلى المتزوج والمتزوجة ، والفعل منهما .
وعلى قولنا : يملك أن يجعل الخير لمن شاء ، وله أن يجعل من النسوان زوجة لمن شاء من الرجال .
فهذه الآية تشهد بالصدق لمقالتنا ، وترد على المعتزلة قولهم لأنه جعل الإبدال إلى نفسه بقوله : { يبدله } وعلى قولهم : لا يملك أن يفي بما وعد .
ثم في هذه الآية إباحة وإباحة الطلاق لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفي قوله : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } { الأحزاب : 52 ] حظر الإبدال . فجائز أن يكون قوله : { لا يحل لك النساء من بعد } .
مقدما ، وقوله { عسى ربه إن طلقكن } متأخرا ، فيصير ما تقدم منسوخا بهذه الآية ، والذي {[21577]} يدل على صحة ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا حتى أحلت له النساء ، فثبت أن الحظر كان متقدما .
ثم وردت الإباحة من بعد ، فحمل الإبدال {[21578]}على التناسخ ليرتفع التناقض من بينهما .
وجائز أن يكون حظر عليه الإبدال إذا قصد بالطلاق قصد الإبدال بما أعجبه من الحسن كما قال : { ولو أعجبك حسنهن } الآية [ الأحزاب : 52 ] فإذا كان قصده من الطلاق الإبدال كان ذلك محظورا عليه ، وإن لم يقصد بالطلاق وقصد الإبدال ، ولكن يقصد به قصد المجازاة للخلاف الذي ظهر ، أبيح له ذلك بقوله{[21579]} تعالى{ أن يبدله أزواجا خيرا } من المطلقة ، وهو ليس يقصد بالطلاق في قوله { عسى ربه إن طلقكن } قصد الإبدال ، وإذا كان كذلك سلمت الآيتان من التناقض .
وذكر عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سئل فقيل : أكان يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إبدال امرأة بامرأة ؟ فقال : بلى ، فسئل عن قوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك } { الأحزاب 2 ] فقال : هذا منصرف على من هن من وراء المسميات ، وهو كقوله تعالى : { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالتك { التي هاجرن معك ] {[21580]} وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي }{ الأحزاب 50 ] ذكر بنات العم وبنات الخال والأجنبيات ، وحظر عليه من سواهن من المحارم ، فيكون فيه إبانة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان حظر عليه تزوج {[21581]} محارمه من ذوي الرحم كما حظر على غيره ، إذ هو موضع الإشكال : أنه لما حل له زيادة على الأربع يحل له ذوات الأرحام من المحارم ، فأزال الإشكال به .
وقوله تعالى : { خير منكن } جائز أن يكن خيرا منهم للرسول عليه السلام لا أن يكن خيرا في أنفسهن لأنه قال : { مسلمات مؤمنات قانتات تائبات سائحات ثيبات وأبكارا } .
ألا ترى إلى ما ذكر أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : راجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة ؟
والذي يدل على هذا أيضا قوله تعالى في آخر هذه الآية : { ثيبات وأبكارا } وقد وجدت هاتان الصفتان في أزواجه ، فثبت أن معناه ما ذكرنا .
وجائز أن يكن خيرا منهن أيضا في أنفسهن من حيث الجمال أو النسب ونحو ذلك ، أو يصرن خيرا منهن لما يتركن الخلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتظاهرن عليه ، ويكن هؤلاء دونهن إذا التزمن الخلاف ، ودمن على التظاهر ، فأما إذا أمسكن عن الخلاف ، وتبن عما سبق من الخلاف فهن وغيرهن بمحل واحد .
وقوله تعالى : { مسلمات مؤمنات } قد بينا أن كل مسلم مؤمن في التحصيل ، لأن معنى الإسلام ، والإيمان واحد ، إذ الإسلام هو أن تجعل لله تعالى الأشياء كلها خالصة سالمة ، لا تشرك فيها غيره . والإيمان التصديق وهو أن تصدق أن الله تعالى رب كل شيء ، وإذا صدقت أنه رب كل شيء فقد جعلت الأشياء كلها له سالمة ، أو تصدق كلا بما يشهد لله تعالى بالربوبية بجوهره ، فثبت أن كل واحد منا يقتضي ما يقتضيه الآخر من المعنى . فإذا ذكر أحدهما بالإفراد ففي ذكره ذكر الآخر ، وإذا جمعا في الذكر صرف هذا إلى وجه { وهذا إلى وجه ] {[21582]} وهكذا كما ذكرنا في التقوى أنه يقتضي معنى الإحسان إذا ذكر مفردا ، لأن التقوى هو أن يتقى من المهالك ، والاتقاء من المهالك يقع باكتساب المحاسن ، وإذا ذكرا معا صرف التقوى { إلى الاتقاء من الكفر ] {[21583]} والإحسان إلى فعل الخيرات .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه } { البخاري 16/60 ] وقال : " المسلم من سلم الناس من لسانه ويده { البخاري 10 ] فصرف هذا إلى وجه { وهذا إلى وجه ] {[21584]} وهما في التحصيل واحد ، لأنهم إذا أمنوا بوائقه فقد سلموا من لسانه ويده .
وقوله تعالى : { قانتات } قيل : مطيعات ، وقيل : القائمات بالليالي للصلاة ، وهذا أشبه ، لأنه ذكر السائحات بعد هذا ، والسائحات الصائمات ، وذكر الصيام بالنهار ، فيكون تأويل القانتات راجعا إلى قيام الليل ليكون فيه إحياء الليل والنهار بالعبادة . ولذلك قال جبريل ، صلوات الله تعالى عليه وسلم ، في وصف حفصة رضي الله عنها : إنها صوّامة قوّامة ، أي صوامة بالنهار وقوامة بالليل .
وذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أفضل الأعمال ، فقال : ( ( طول القنوت ) ) [ مسلم756/165 ] وهو القيام بالليل .
وقوله تعالى : { تائبات } هذه اللاتي لا يصررن على الذنب ، بل يفزعن إلى الله تعالى بالتوبة والتضرع إذا ابتلين بالخطيئة .
وقوله تعالى : { عابدات } ذكر أبو بكر أن العابد لا يسمى عابدا حتى يتطوع . فإن كان على هذا ففيه أنهن يقمن بأداء الفرائض ، ويتطوعن مع ذلك .
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : كل عبادة في القرآن فهو توحيد ، والعابدات الموحدات . فالموحد هو الذي يصدق أن خالق الخلق كله واحد ، لا شريك له . فجائر أن يكون العابد موحدا لأنه يعمل لله خالصا ، لا يشرك في عبادته أحدا ، فيكون فيها معنى التوحيد /580-أ/لكن من حيث الفعل . فيكون أحد التوحيدين : بالقبول ، والثاني : بالمعاملة والفعل .
وقيل : العابد هو الذي يؤدي الفرائض .
وقوله تعالى : { سائحات } هو الذي يسيح في الأرض بغير زاد ، فسمى الصائم سائحا لما كف عن التناول من الزاد . فقوله : { سائحات } أي صائمات .
وقوله تعالى : { ثيّبات وأبكارا } لم يرد بهذا أن ينشئ نسوة أبكارا وثيبات ، ولكن معناه أن يبدله من كن بهذا الوصف .
ثم جمع بين الثيبات والأبكار لأن الثيبات مما تقل رغبة الخلق فيهن ، وينفر عنه الطبع ، فجمع بينهما في موضع الامتنان على الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يصرفوا كل الرغبة إلى الأبكار ، بل يتزوجوا الثيبات كما يتزوجون الأبكار ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.