معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشٗا فَنَقَّبُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ هَلۡ مِن مَّحِيصٍ} (36)

قوله عز وجل : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً فنقبوا في البلاد } ضربوا وساروا وتقلبوا وطافوا ، وأصله من النقب ، وهو الطريق كأنهم سلكوا كل طريق . { هل من محيص } فلم يجدوا محيصاً من أمر الله . وقيل : هل من محيص مفر من الموت ؟ فلم يجدوا فيه إنذار لأهل مكة وأنهم على مثل سبيلهم لا يجدون مفراً عن الموت يموتون ، فيصيرون إلى عذاب الله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشٗا فَنَقَّبُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ هَلۡ مِن مَّحِيصٍ} (36)

{ وكم أهلكنا قبلهم } قبل قومك . { من قرن هم أشد منهم بطشا } قوة كعاد وثمود وفرعون . { فنقبوا في البلاد } فخرقوا في البلاد وتصرفوا فيها ، أو جالوا في الأرض كل مجال حذر الموت ، فالفاء على الأول للتسبب وعلى الثاني لمجرد التعقيب ، وأصل التنقيب التنقير عن الشيء والبحث عنه . { هل من محيص } أي لهم من الله أو من الموت . وقيل الضمير في { نقبوا } لأهل مكة أي ساروا في أسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيصا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم ، ويؤيده أنه قرئ " فنقبوا " على الأمر ، وقرئ " فنقبوا " بالكسر من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أي أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف مراكبهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشٗا فَنَقَّبُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ هَلۡ مِن مَّحِيصٍ} (36)

{ كم } للتكثير وهي خبرية ، المعنى كثيراً { أهلكنا قبلهم } . والقرن : الأمة من الناس الذين يمر عليهم قدر من الزمن . واختلف الناس في ذلك القدر ، فقال الجمهور : مائة سنة ، وقيل غير هذا ، وقد تقدم القول فيه غير مرة . وشدة البطش : هي كثرة القوة والأموال والملك والصحة والأدهان إلى غير ذلك .

وقرأ جمهور من الناس : «فنقَّبوا » بشد القاف المفتوحة على إسناد الفعل إلى القرون الماضية ، والمعنى : ولجوا البلاد من أنقابها وفي الحديث : «أن على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال »{[10559]} . والمراد تطوفوا ومشوا طماعين في النجاة من الهلكة ومنه قول الشاعر [ امرؤ القيس ] : [ الوافر ]

وقد نقبت في الآفاق حتى . . . رضيت من الغنيمة بالإياب{[10560]}

ومنه قول الحارث بن حلزة : [ الخفيف ]

نقبوا في البلاد من حذر الموت . . . وجالوا في الأرض كل مجال{[10561]}

وقرأ ابن يعمر وابن عباس ونصر بن سيار وأبو العالية : «فنقِّبوا » بشد القاف المكسورة على الأمر لهؤلاء الحاضرين .

و : { هل من محيص } توقيف وتقرير ، أي لا محيص ، والمحيص : المعدل موضع الحيص وهو الروغان والحياد ، قال قتادة : حاص الكفرة فوجدوا أمر الله منيعاً مدركاً ، وفي صدر البخاري ( فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ){[10562]} . وقال ابن عبد شمس في وصف ناقته : [ الوافر ]

إذا حاص الدليل رأيت منها . . . جنوحاً للطريق على اتساق{[10563]}

وقرأ أبو عمرو في رواية عبيد عنه : «فنقَبوا » بفتح القاف وتخفيفها هي بمعنى التشديد ، واللفظة أيضاً قد تقال بمعنى البحث والطلب ، تقول : نقب عن كذا اي استقصى عنه ، ومنه نقيب القوم لأنه الذي يبحث عن أمورهم ويباحث عنها ، وهذا عندي تشبيه بالدخول من الأنقاب .


[10559]:أخرجه البخاري في فضائل المدينة وفي الفتن، ومسلم في الحج، ومالك في المدينة، وأحمد في مسنده(2-237، 378)، عن نعيم بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الدجال ولا الطاعون)، والنقب: الخرق في الجدار، وجمعه أنقاب.
[10560]:هذا البيت لامرئ القيس، وهو في الديوان، واللسان، ومجاز القرآن، والطبري، والقرطبي، والبحر، ورواية الديوان:(وقد طوفت في الآفاق)، والتنقيب: الذهاب في الأرض والتطواف، وهو وضع الاستشهاد هنا، والشاعر يفخر بنفسه في هذا البيت وفي القصيدة كلها، ويقول: إنه قاد الجيوش في سبيل تحقيق مآربه الكبيرة، لكنه بعد أن تعب رضي بالعودة سالما.
[10561]:هو شاهد على أن معنى"نقبوا في البلاد..." هو: طوفوا في البلاد، وذهبوا فيها مذاهب متعددة يلتمسون الهروب من الموت. والمجال: موضع الجولان، يقول: جالوا في الأرض وطوفوا في كل مكان.
[10562]:أخرجه البخاري في بدء الوحي وفي تفسير سورة النساء، وكل من بني داود والترمذي في الجهاد، وأحمد في المسند(2-70، 100)، وهو حديث طويل، رواه ابن عباس رضي الله عنهما، عن أبي سفيان حين كان في تجارة بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، قال: إن هرقل أرسل إليه مع صحبه وسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: قلت: انا أقربهم نسبا، فلما سأله هرقل قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه. وفي آخر الحديث أن هرقل أُتي برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا، فنظروا إليه فحدثوه أنه مُختتن، وسأله عن العرب، فقال: هم يختتنون،فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يَرِم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت مُلككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حُمُر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.اهـ.
[10563]:يستشهد المؤلف بهذا البيت على ان الحيص هو الحيد والروغان، قال في اللسان: "الحيص: الحيد عن الشيء، حاص عنه يحيص حيصا: رجع، ويقال: ما عنه ىمحيص، أي محيد ومهرب"، والدليل: المرشد، والجُنُوح: الميل، والاتساق: الانتظام والاستواء. يقول الشاعر: إذا حاد الدليل عن الطريق فإن ناقته تميل بحسها وخبرتها إلى الطريق الصحيح فتمضي فيه على اتساق.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّن قَرۡنٍ هُمۡ أَشَدُّ مِنۡهُم بَطۡشٗا فَنَقَّبُواْ فِي ٱلۡبِلَٰدِ هَلۡ مِن مَّحِيصٍ} (36)

انتقال من الاستدلال إلى التهديد وهو معطوف على ما قبله وهذا العطف انتقال إلى الموعظة بما حل بالأمم المكذبة بعد الاستدلال على إمكان البعث بقوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } [ ق : 4 ] وما فُرّع عليه من قوله : { أفَعَيِينَا بالخلق الأول } [ ق : 15 ] . وفي هذا العطف الوعيد الذي أجمل في قوله : { كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرّس إلى قوله : { فحقّ وعيد } [ ق : 12 ، 14 ] . فالوعيد الذي حقّ عليهم هو الاستئصال في الدنيا وهو مضمون قوله : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشاً } .

والخبر الذي أفاده قوله : { وكم أهلكنا قبلهم } تعريض بالتهديد وتسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وضميرا { قبلهم } و { منهم } عائدان إلى معلوم من المقام غير مذكور في الكلام كما تقدم في قوله أول السورة من قوله : { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ويفسره قوله بعده فقال الكافرون هذا شيء عجيب } [ ق : 2 ] . وجرى على ذلك السَّنَن قوله : { كَذَّبت قبلهم قوم نوح } وقوله : { بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] ، ونظائره في القرآن كثيرة .

و { كم } خبرية وجرّ تمييزها ب { من } على الأصل .

والبطش : القوة على الغير . والتنقيب : مشتق من النقْب بسكون القاف بمعنى الثقب ، فيكون بمعنى : خَرَقوا ، واستعير لمعنى : ذللوا وأخضعوا ، أي تصرفوا في الأرض بالحفر الغرس والبناء وتحت الجبال وإقامة السداد والحصون فيكون في معنى قوله : { وأثارُوا الأرض وعَمَرُوها } في سورة الروم ( 9 ) .

وتعريف البلاد } للجنس ، أي في الأرض كقوله تعالى : { الذين طغوا في البلاد } [ الفجر : 11 ] .

والفاء في { فنقبوا } لتفريع عن { أشد منهم بطشاً } ، أي ببطشهم وقوتهم لقبوا في البلاد .

والجملة معترضة بين جملة { وكم أهلكنا قبلهم } إلى آخره .

وجملة { هل من محيص } كما اعترض بالتفريع في قوله تعالى : { ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار } [ الأنفال : 14 ] .

وجملة { هل من محيص } بدل اشتمال من جملة { أهلكنا } ، أي إهلاكاً لا منجى منه . ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة . فالاستفهام إنكاري بمعنى النفي ، ولذلك دخلت { من } على الاسم الذي بعد الاستفهام كما يقال : ما مِن محيص ، وهذا قريب من قوله في سورة ص ( 3 ) { كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولاتَ حين مناص } .

والمحيص : مصدر ميمي من حَاص إذا عَدَل وجاد ، أي لم يجدوا محيصاً من الإهلاك وهو كقوله تعالى : { وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد } في سورة مريم ( 98 ) .