قوله تعالى : { من أجل ذلك } ، قرأ أبو جعفر : من أجل ذلك بكسر النون موصولاً ، وقراءة العامة بجزم النون ، وفتح الهمزة مقطوعة ، أي : من جراء ذلك القاتل وجنايته ، يقال : أجل يأجل أجلاً إذا جنى ، مثل أخذ يأخذ أخذ .
قوله تعالى : { كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس } . قتلها فيقاد منه .
قوله تعالى : { أو فساد في الأرض } يريد بغير نفس ، وبغير فساد في الأرض ، من كفر ، أو زنا ، أو قطع طريق ، أو نحو ذلك .
قوله تعالى : { فكأنما قتل الناس جميعاً } ، اختلفوا في تأويلها . قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة : من قتل نبياً ، أو إماماً عدل ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، ومن شد عضد نبي ، أو إمام عدل ، فكأنما أحيا الناس جميعاً . قال مجاهد : من قتل نفساً محرمة يصلى النار بقتلها ، كما يصلى لو قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً . قال قتادة : أعظم الله أجرها ، وعظم وزرها ، معناه : من استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً في الإثم ، لأنهم لا يسلمون منه .
قوله تعالى : { ومن أحياها } ، وتورع عن قتلها .
قوله تعالى : { فكأنما أحيا الناس جميعاً } في الثواب لسلامتهم منه . قال الحسن : { فكأنما قتل الناس جميعاً } يعني : أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعاً ، { ومن أحياها } : أي عفى عمن وجب عليه القصاص له ، فلم يقتله ، فكأنما أحيا الناس جميعاً ، قال سليمان بن علي قلت للحسن : يا أبا سعيد ، أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ قال : إي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .
قوله تعالى : { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } .
{ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } بسببه قضينا عليهم ، وأجل في الأصل مصدر أجل شرا إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم ، من جراك فعلته ، أي من أن جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل ، ومن ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب ونشوء من أجل ذلك . { أنه من قتل نفسا بغير نفس } أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص . { أو فساد في الأرض } أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق . { فكأنما قتل الناس جميعا } من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسن القتل ، وجرأ الناس عليه ، أو من حيث أن قتل الواحد وقتل الجميع سواء في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم . { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } أي ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل ، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا ، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها وترغيبا في المحاماة عليها . { ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } أي بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية ، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدا للأمر وتجديدا للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به ، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر .
جمهور الناس على أن قوله : { من أجل ذلك } متعلق بقوله { كتبنا } أي بسبب هذه النازلة ومن جَّراها كتبنا ، وقال قوم : بل هو متعلق بقوله { من النادمين } [ المائدة : 31 ] أي ندم من «أجل » ما وقع ، والوقف على هذا على ذلك ، والناس على أن الوقف { من النادمين } ويقال أجل الأمر أجلاً{[4520]} وأجلاً إذا جناه وجره ، ومنه قول خوات :
وأهل خباء صالح ذات بينهم *** قد احتربوا في عاجل أنا آجله{[4521]}
ويقال فعلت ذلك من أجلك بفتح الهمزة ومن إجلك بكسرها ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : [ من اجل ذلك ] بوصل الألف وكسر النون قبلها ، وهذا على أن ألقى حركة الهمزة على النون كما قالوا : كم ابلك بكسر الميم ووصل الألف . . ومن ابراهيم بكسر النون و { كتبنا } معناه كتب بأمرنا في كتب منزلة عليهم تضمنت فرض ذلك ، وخص الله تعالى : { بني إسرائيل } بالذكر وقد تقدمتهم أمم كان قتل النفس فيهم محظوراً لوجهين ، أحدهما فيما روي أن { بني إسرائيل } أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب ، وغلظ الأمر عليهم بحسب طغيانهم وسكفهم الدماء ، والآخر لتلوح مذمتهم في أن كتب عليه هذا ، وهم مع ذلك لا يرعوون ولا ينتهون بل همّوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ظلماً ، فخصوا بالذكر لحضورهم مخالفين لما كتب عليهم ، وقوله تعالى : { بغير نفس } معناه بغير أن تقتل نفساً فتستحق القتل ، وقد حرم الله تعالى نفس المؤمن إلا بإحدى ثلاث خصال : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس ظلماً تعدياً . وهنا يندرج المحارب ، والفساد في الأرض بجميع الزنا والارتداد والحرابة ، وقرأ الحسن «أو فساداً في الأرض » بنصب الفساد على فعل محذوف وتقديره أو أتى فساداً أو أحدث فساداً ، وحذف الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه ، وقوله تعالى : { فكأنما قتل الناس جميعاً } اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه ، فروي عن ابن عباس أنه قال المعنى من قتل نبياً إو إمام عدل { فكأنما قتل الناس جميعاً } ومن أحياه بأن شد عضده ونصره { فكأنما أحيا الناس جميعاً } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول لا تعطيه الألفاظ ، وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : المعنى من قتل نفساً واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعاً . ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها مخافتي واستحيامن أن يقتلها فهو كمن أحيا الناس جميعاً . وقال عبد الله بن عباس أيضاً ، المعنى فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول ، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ . وقال ابن عباس أيضا وغيره :المعنى : من قتل نفسا فأوبق نفسه فكأنه قتل الناس جميعا ، إذ يصلى النار بذلك ، ومن سلم من قتلها فكأنه سلم من «قتل الناس جميعاً » . وقال مجاهد :الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ، يقول لو «قتل الناس جميعاً » لم يزد على ذلك . ومن لم يقتل أحداً فقد حيي الناس منه . وقال ابن زيد : المعنى أي من قتل نفساً فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من «قتل الناس جميعاً » . قال : ومن أحياها أنقذها من حرق أو غرق ، وقال قوم لما كان المؤمنون كلهم يطلبون القاتل كان كمن قتل الناس جميعاً .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول متداع ولم يتخلص التشبيه إلى طرف في شيء من هذه الأقوال ، والذي أقول إن الشبه بين قاتل النفس وقاتل الكل لا يطرد من جميع الجهات ، لكن الشبه قد تحصل من ثلاث جهات ، إحداها القود فإنه واحد ، والثانية الوعيد ، فقد توعد الله قاتل النفس بالخلود في النار ، وتلك غاية العذاب ، فإن فرضناه يخرج من النار بعد بسبب التوحيد فكذلك قاتل الجميع ان لو اتفق ذلك ، والثالثة انتهاك الحرمة ، فإن نفساً واحدة ، في ذلك وجميع الأنفس سواء ، والمنتهك في واحدة ملحوظ بعين منتهك الجميع ، ومثال ذلك رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئاً ، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته وطعم الآخر ثمر شجرته كله ، فقد استويا في الحنث ، وقوله تعالى : { ومن أحياها } فيه تجوز لأنها عبارة عن الترك والإنقاذ فالإحياء حقيقة الذي هو الاختراع إنما هو لله تعالى . وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمرود : أنا أحيي ، سمى الترك إحياء ، ومحيي نفس كمحيي الجميع في حفظ الحرمة واستحقاق الحمد ، ثم أخبر الله تعالى عن «بني إسرائيل » أنهم جاءتهم الرسل من الله بالبينات في هذا وفي سواه ، ثم لم يزل الكثير منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود ، وفي هذه الآية إشارة إلى فعل اليهود في همهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره إلى سائر ذلك من أعمالهم .