تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من أجل ذلك}: من أجل بني آدم، تعظيما للدم، {كتبنا على بني إسرائيل} في التوراة {أنه من قتل نفسا بغير نفس} عمدا، {أو فساد في الأرض}، أو عمل فيها بالشرك، وجبت له النار، ولا يعفى عنه حتى يقتل، {فكأنما قتل الناس جميعا}، أي كما يجزي النار لقتله الناس جميعا لو قتلهم، ثم قال سبحانه: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}، وذلك أنه مكتوب في التوراة أنه من قتل رجلا خطأ، فإنه يقاد به، إلا أن يشاء ولي المقتول أن يعفو عنه، فإن عفا عنه، وجبت له الجنة، كما تجب له الجنة لو عفا عن الناس جميعا، فشدد الله عز وجل عليهم القتل، ليحجز بذلك بعضهم عن بعض. ثم قال سبحانه: {ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات}: بالبيان في أمره ونهيه، {ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك} البيان {في الأرض لمسرفون}، يعني إسرافا في سفك الدماء واستحلال المعاصي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
مِنْ أجْلِ ذَلِكَ من جَرّ ذلك وجريرته وجنايته، يقول: من جرّ القاتل أخاه من ابني آدم اللذَين اقتصصنا قصتهما الجريرة التي جرّها وجنايته التي جناها، كتبنا على بني إسرائيل. يقال منه: أجَلْتُ هذا الأمر: أي جررته إليه وكسبته.
فمعنى الكلام: من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلما، حكمنا على بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسا ظلما بغير نفس قَتَلت فُقِتل بها قصاصا "أو فَسَاد في الأرْضِ "يقول: أو قتل منهم نفسا بغير فساد كان منها في الأرض، فاستحقت بذلك قتلها. وفسادها في الأرض إنما يكون بالحرب لله ولرسوله وإخافة السبيل.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جلّ ثناؤه: "مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحْياها فَكأنّما أحيْا النّاس جَمِيعا"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن قتل نبيا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن شدّ على عضد نبيّ أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعا... عن ابن عباس، يقول: من قتل نفسا واحدة حرّمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعا. وَمَنْ أحْياها يقول: من ترك قتل نفس واحدة حرّمتها مخافتي واستحيا أن يقتلها، فهو مثل استحياء الناس جميعا يعني بذلك الأنبياء.
وقال آخرون: "مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ فِي الأرْضِ فَكأنَمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا" عند المقتول في الإثم، "وَمَنْ أحيْاها" فاستنقذها من هلكة "فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا" عند المستنقذ. وقال آخرون: معنى ذلك: أن قاتل النفس المحرّم قتلها يصلى النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعا، "ومن أحياها": من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا.
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، لأنه يجب عليه من القصاص به والقود بقتله، مثل الذي يجب عليه من القود والقصاص لو قتل الناس جميعا. وقال آخرون: معنى قوله: "وَمَنْ أحيْاها" من عفا عمن وجب له القصاص منه فلم يقتله... من أحياها أعطاه الله جلّ وعزّ من الأجر مثلَ لو أنه أحيا الناس جميعا. أحياها فلم يقتلها وعفا عنها. قال: وذلك وليّ القتيل، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت.
وقال آخرون: معنى قوله: "وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا": ومن أنجاها من غرق أو حرق... عن قتادة قوله: "مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ...": من قتلها على غير نفس ولا فساد أفسدته فَكأنمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعا وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا، عظُم والله أجْرُها، وعظُم وِزْرُها فأحيها يا ابن آدم بمالك، وأحيها بعفوك إن استطعت، ولا قوّة إلا بالله. وإنا لا نعلمه يحلّ دم رجل مسلم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه فعليه القتل، أو زنى بعد إحصانه فعليه الرجم، أو قتل متعمدا فعليه القَوَد.
[عن] سليمان بن عليّ الرّبْعي، قال: قلت للحسن: "مِنْ أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا على بَنِي إسْرَائِيلَ أنّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسً..."، أهي لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: تأويل ذلك أنه من قتل نفسا مؤمنة بغير نفس قتلتها فاستحقت القود بها والقتل قصاصا، أو بغير فساد في الأرض، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها، فكأنما قتل الناس جميعا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جلّ ثناؤه، كما أوعده ذلك من فعله ربّه بقوله: "وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خالِدا فِيها وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وأعَدّ لَهُ عَذَابا عَظِيما".
وأما قوله: "وَمَنْ أحيْاها فَكأنمَا أحيْا النّاسَ جَمِيعا" فأولى التأويلات به قول من قال: من حرّم قتل من حرّم الله عزّ ذكره قتَله على نفسه، فلم يتقدم على قتله، فقد حِييَ الناس منه بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عزّ ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربه، إذ قال له إبراهيم: "ربّيَ الّذِين يُحْيِى ويُمِيتُ قال أنا أُحْيِى وأُمِيتُ". فكان معنى الكافر في قيله: أنا أحيى وأميت: أنا أترك من قدرت على قتله وفي قوله: وأميت: قَتْلُه من قتله. فكذلك معنى الإحياء في قوله: "وَمَنْ أحْياها": من سلم الناس من قتله إياهم، إلا فيما أذن الله في قتله منهم فَكأنمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية، لأنه لا نفس يقوم قتلها في عاجل الضرّ مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقام إحياء جميع النفوس في عاجل النفع، فكان معلوما بذلك أن معنى الإحياء: سلامة جميع النفوس منه، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس، وأن الواحدة منها التي يقوم قتلها مقام جميعها إنما هو في الوزر، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررا من فقد بعض.
"ولَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بالبَيّناتِ ثُمّ إنّ كَثِيرا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ في الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ".
وهذا قسم من الله جلّ ثناؤه أقسم به، إن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصّ الله قصصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدمت من قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ هَمّ قَوْمٌ أنْ يَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أيْدِيَهُمْ" إلى هذا الموضع. "بالبَيّناتِ": بالآيات الواضحة، والحجج البينة على حقية ما أرسلوا به إليهم وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم وأداء فرائض الله عليهم، يقول الله عزّ ذكره: "ثُمّ إنّ كَثِيرا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ" يعني أن كثيرا من بني إسرائيل، والهاء والميم في قوله: "ثُمّ إنّ كَثِيرا مِنْهُمْ" من ذكر بني إسرائيل، وكذلك ذلك في قوله: "وَلَقَدْ جاءتْهُمْ" بعد ذلك، يعني بعد مجيئ رسل الله بالبينات في الأرض. "لمُسْرِفُونَ" يعني: أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله، ومخالفون أمر الله ونهيه، ومحادّو الله ورسله، باتباعهم أهواءهم وخلافهم على أنبيائهم، وذلك كان إسرافهم في الأرض.
فتضمنت هذه الآية ضروباً من الدلائل على الأحكام، منها: دلالتها على ورود الأحكام مضمنة بمعانٍ يجب اعتبارها بوجودها، وهذا يدلّ على صحة القول بالقياس. والثاني: إباحة قتل النفس بالنفس. والثالث: أن من قتل نفساً فهو مستحق للقتل. والرابع: من قصد قتل مسلم ظلماً فو مستحقّ القتل، لأن قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} كما دل على وجوب قتل النفس بالنفس فهو يدلّ على وجوب قتله إذا قصد قتل غيره، إذ هو مقتول بنفس إرادة إتلافها. والخامس: الفساد في الأرض يستحقّ به القتل. والسادس: احتمال قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} أن عليه مأثم كل قاتل بعده، لأنه سَنَّ القتل وسهَّله لغيره. والسابع: أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يُقِيدُوهُ منه. والثامن: دلالتها على وجوب القَوَدِ على الجماعة إذا قتلوا واحداً. والتاسع: دلالة قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} على معونة الوليّ على قَتْلِ القاتل. والعاشر: دلالته أيضاً على قتل من قصد قتل غيره ظلماً؛ والله أعلم بالصواب.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{من أجل ذلك} من سبب ذلك الذي فعل قابيل {كتبنا} فرضنا {على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس} بغير قود {أو فساد} شرك {في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا} يقتل كما لو قتلهم جميعا ويصلى النار كما يصلاها لو قتلهم {ومن أحياها} حرمها وتورع عن قتلها {فكأنما أحيا الناس جميعا} لسلامتهم منه لأنه لا يستحل دماءهم.
{ولقد جاءتهم} يعني بني إسرائيل {رسلنا بالبينات} بأن لهم صدق ما جاؤوهم به {ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} أي مجاوزون حد الحق.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
وقوله: {وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأنّمَا}: أي نجاها من القتل بالعفو، أو زجر عن قتلها، أو مكن من الاقتصاص من القاتل. وفيه دليل على وجوب معاونة الوالي على ما جعله الله له من التسليط والبسطة في دم القاتل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت: لأن كل إنسان يدلي بما يدلي به الآخر من الكرامة على الله وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته وعلى العكس، فلا فرق إذاً بين الواحد والجميع في ذلك. فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها؛ لأنّ المتعرض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
جمهور الناس على أن قوله: {من أجل ذلك} متعلق بقوله {كتبنا} أي بسبب هذه النازلة ومن جَّراها كتبنا، وقال قوم: بل هو متعلق بقوله {من النادمين} [المائدة: 31] أي ندم من «أجل» ما وقع، والوقف على هذا على ذلك، والناس على أن الوقف {من النادمين}.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ}:
تَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إنَّ ابْنَيْ آدَمَ كَانَا من بَنِي إسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ جَرَى قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْلُ زَمَانُ آدَمَ وَلَا زَمَنُ مَنْ بَعْدَهُ من شَرْعٍ. وَأَهَمُّ قَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ حِمَايَةُ الدِّمَاءِ عَنْ الِاعْتِدَاءِ وَحِيَاطَتُهُ بِالْقِصَاصِ كَفًّا وَرَدْعًا لِلظَّالِمِينَ وَالْجَائِرِينَ وَهَذَا من الْقَوَاعِدِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْهَا الشَّرَائِعُ وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمِلَلُ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ لِلْكِتَابِ فِيهِ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَ ذَلِكَ من الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ كَانَ قَوْلًا مُطْلَقًا غَيْرَ مَكْتُوبٍ، بَعَثَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ فَكَتَبَ لَهُ الصُّحُفَ، وَشَرَعَ لَهُ دِينَ الْإِسْلَامِ، وَقَسَّمَ وَلَدَيْهِ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالشَّامِ، فَوَضَعَ اللَّهُ إسْمَاعِيلَ بِالْحِجَازِ مُقَدِّمَةً لِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْلَاهَا عَنْ الْجَبَابِرَةِ تَمْهِيدًا لَهُ، وَأَقَرَّ إِسْحَاقَ بِالشَّامِ، وَجَاءَ مِنْهُ يَعْقُوبُ وَكَثُرَتْ الْإِسْرَائِيلِيَّة، فَامْتَلَأَتْ الْأَرْضُ بِالْبَاطِلِ فِي كُلِّ فَجٍّ، وَبَغَوْا؛ فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى وَكَلَّمَهُ وَأَيَّدَهُ بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَخَطَّ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، وَأَمَرَهُ بِالْقِتَالِ، وَوَعَدَهُ النَّصْرَ، وَوَفَّى لَهُ بِمَا وَعَدَهُ، وَتَفَرَّقَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ بِعَقَائِدِهَا، وَكَتَبَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ فِي التَّوْرَاةِ الْقِصَاصَ مُحَدَّدًا مُؤَكَّدًا مَشْرُوعًا فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحُدُودِ، إلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ من الْعِبَادَاتِ وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِنَا بِكَثِيرٍ من ذَلِكَ.
{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}:
هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً لَيْسَ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا سَبِيلُ هَذَا الْكَلَامِ الْمَجَازُ، وَلَهُ وَجْهٌ وَفَائِدَةٌ؛ فَأَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ قَتَلَ نَبِيًّا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ من الْخَلْقِ يُعَادِلُ الْخَلْقَ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ بَعْدَهُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي النَّبِيِّ.
الثَّانِي: أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ، إمَّا لِأَنَّهُ فَقَدَ نَفْسَهُ، فَلَا يَعْنِيهِ بَقَاءُ الْخَلْقِ بَعْدَهُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مَأْثُومٌ وَمُخَلَّدٌ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَاخْتَارَهُ مُجَاهِدٌ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الطَّبَرِيُّ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَكْسُهُ فِي الْإِحْيَاءِ مِثْلُهُ.
الثَّالِثُ: قَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ مَعْنَاهُ يُقْتَلُ بِمَنْ قُتِلَ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ أَجْمَعِينَ.
الرَّابِعُ: أَنَّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ذَمَّ الْقَاتِلِ، كَمَا عَلَيْهِمْ إذَا عَفَا مَدْحُهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازٌ. وَبَعْضُهَا أَقْرَبُ من بَعْضٍ.
قَوْله تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ من أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، أَعْلَمَنَا اللَّهُ بِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ}:
اُخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: هُوَ الْكُفْرُ. وَقِيلَ: هُوَ إخَافَةُ السَّبِيلِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَصْلُ (فَسَدَ) فِي لِسَان الْعَرَبِ تَعَذُّرُ الْمَقْصُودِ وَزَوَالُ الْمَنْفَعَةِ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ كَانَ أَبْلَغَ، وَالْمَعْنَى ثَابِتٌ بِدُونِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) أَيْ لَعَدِمَتَا، وَذَهَبَ الْمَقْصُودُ. وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وَهُوَ الشِّرْكُ أَوْ الْإِذَايَةُ لِلْخَلْقِ، وَالْإِذَايَةُ أَعْظَمُ من سَدِّ السَّبِيلِ، وَمَنْعِ الطَّرِيقِ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ الْمُطْلَقُ مَا يُزَيِّفُ مَقْصُودَ الْمُفْسِدِ، أَوْ يَضُرُّهُ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ.
وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ هُوَ الْإِذَايَةُ لِلْغَيْرِ. وَالْإِذَايَةُ لِلْغَيْرِ عَلَى قِسْمَيْنِ: خَاصٌّ، وَعَامٌ؛ وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا جَزَاؤُهُ الْوَاقِعُ وَحْدَهُ الرَّادِعُ، حَسْبَمَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعُمُومِ فَجَزَاؤُهُ مَا فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذِهِ من الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}
ظَاهِرُهُ خِلَافُ مُشَاهَدَتِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ إلَّا وَاحِدًا، وَلَكِنَّهُ تَحَمَّلَ أَوْجُهًا من الْمَجَازِ. مِنْهَا: أَنَّ عَلَيْهِ إثْمَ مَنْ قَتَلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَلَهُ أَجْرُ مَنْ أَحْيَا جَمِيعَ النَّاسِ إذَا أَصَرُّوا عَلَى الْهَلَكَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لَأَنْ يَقْتُلَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَمَنْ أَنْقَذَ وَاحِدًا من غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ أَوْ عَدُوٍّ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لَأَنْ يَفْعَلَ مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ ذَلِكَ؛ فَالْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ. وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ (أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، ثُمَّ جَاءَ عَالِمًا فَسَأَلَهُ: هَلْ لِي من تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا، فَكَمَّلَ الْمِائَةَ بِهِ، ثُمَّ جَاءَ غَيْرَهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لَك تَوْبَةٌ...) الْحَدِيثَ {إلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ).
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا فَقَدْ سَنَّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَكُلُّ مَنْ يَقْتُلُ يَأْخُذُ بِحَظِّهِ من إثْمٍ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَحْيَا مِثْلُهُ فِي الْأَجْرِ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (مَا من نَفْسٍ تُقْتَلُ إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا) لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنّ الْقَتْلَ.
قوله: {من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل} أي من أجل ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص من حق القاتل.
قوله {فكأنما قتل الناس جميعا} وفيه إشكال. وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساويا لقتل جميع الناس، فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساويا للكل، وذكر المفسرون بسبب هذا السؤال وجوها من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه، لأن قولنا: هذا يشبه ذاك أعم من قولنا: إنه يشبهه من كل الوجوه، أو من بعض الوجوه، وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول: الجواب من وجوه: الأول: المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه، يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد، فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظما مهيبا فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام، لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام، وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}. الوجه الثاني في الجواب: هو أن جميع الناس لو علموا من إنسان واحد أنه يقصد قتلهم بأجمعهم فلا شك أنهم يدفعونه دفعا لا يمكنه تحصيل مقصوده، فكذلك إذا علموا منه أنه يقصد قتل إنسان واحد معين يجب أن يكون جدهم واجتهادهم في منعه عن قتل ذلك الإنسان مثل جدهم واجتهادهم في الصورة الأولى. الوجه الثالث في الجواب: وهو أنه لما أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة، ومتى كان الأمر كذلك كان هذا الترجيح حاصلا بالنسبة إلى كل واحد، فكان في قلبه أن كل أحد نازعه في شيء من مطالبه فإنه لو قدر عليه لقتله، ونية المؤمن في الخيرات خير من عمله، فكذلك نية المؤمن في الشرور شر من عمله، فيصير المعنى: ومن يقتل إنسانا قتلا عمدا عدوانا فكأنما قتل جميع الناس، وهذه الأجوبة الثلاثة حسنة.
المسألة السادسة: قوله {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} المراد من إحياء النفس تخليصها عن المهلكات: مثل الحرق والغرق والجوع المفرط والبرد والحر المفرطين، والكلام في أن إحياء النفس الواحدة مثل إحياء النفوس على قياس ما قررناه في أن قتل النفس الواحدة مثل قتل النفوس. ثم قال تعالى: {ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون}. والمعنى أن كثيرا من اليهود بعد ذلك، أي بعد مجيء الرسل، وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل لمسرفون، يعني في القتل لا يبالون بعظمته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{من أجل ذلك} أي من غاية الأمر الفاحش جداً و مدته وعظم الأمر وشدة قبحه في نفسه وعند الله وصغره عند القاتل وحبسه ومنعه و جنايته وإثارته وتهييجه وجرأة الإنسان على العظائم بغير تأمل {كتبنا} أي بما لنا من العظمة ليفيد ذلك عظمة المكتوب والتنبيه على ما فيه من العجز ليفيد الانزجار {على بني إسرائيل} أي أعلمناهم بما لنا من العناية بهم في التوراة التي كتبناها لهم، ويفهم ذلك أيضاً أنهم أشد الناس جرأة على القتل، ولذلك كانوا يقتلون الأنبياء، فأعلمهم الله بما فيهم من التشديد، ولِمَا علم من الأدميين -لا سيما هم- من الجرأة عليه، ليقيم عليهم بذلك الحجة على ما يتعارفونه بينهم، ويكف عن القتل من سبقت له منه العناية بما يتصور من فظاعة القتل، وقبح صورته وفحش أمره، وعبر بأداة الاستعلاء التي هي للحتم من الوجوب والحرمة، لأن السياق للزجر، فهي تفهم المنع عن الإقدام على القتل في هذا المقام {أنه من قتل نفساً} أي من ابني آدم، وكأنه أطلق تعظيماً لهم إشارة إلى أن غيرهم جماد {بغير نفس} أي بغير أن تكون قتلت نفساً تستحق أن تقاد بها فاستباح قتلها لتلك النفس التي قتلتها {أو} قتلها بغير {فساد} وقع منها. ولما كانت الأرض -مع أنها فراشنا فهي محل التوليد والتربية والتنمية- دار الكدر، وكان فساد من أفسد فراشه الموصوف -لا سيما وهو في كدر- دالاً على سوء جبلته، وكان سوء الجبلة موجباً للقتل، قال: {في الأرض} أي يبيح ذلك الفساد دمها كالشرك والزنا بعد الإحصان وكل ما يبيح إراقة الدم، وقد علم بهذا أن قصة ابني آدم مع شدة التحامها بما قبل توطئة لما بعد، وتغليظُ أمر القتل تقدم عن التوراة في سورة البقرة، وقوله: {فكأنما قتل الناس جميعاً} من جملة الأدلة المبطلة لما ادعوا من البنوة، إذ معناه أن الناس شرع واحد من جهة نفوسهم متساوون فيها. كلهم أولاد آدم، لا فضل لأحد منهم على آخر في أصل تحريم القتل بغير ما ذكر من الموجب من قصاص أو فساد لا من بني إسرائيل ولا من غيرهم، وذلك كما قال تعالى في ثاني النقوض {بل أنتم بشر ممن خلق} [المائدة: 18] فصار من قتل نفساً واحدة بغير ما ذكر فكأنما حمل إثم من قتل الناس جميعاً، لأن اجتراءه على ذلك أوجب اجتراء غيره، ومن سن سنة كان كفاعلها {ومن أحياها} أي بسبب من الأسباب كعفو، أو إنقاذ من هلكة كغرق، أو مدافعة لمن يريد أن يقتلها ظلماً {فكأنما أحيا} أي بذلك الفعل الذي كان سبباً للأحياء {الناس جميعاً} أي بمثل ما تقدم في القتل، والآية دالة على تعليمه سبحانه لعباده الحكمة، لما يعلم من طباعهم التي خلقهم عليها ومن عواقب الأمور -لا على أنه يجب عليه- رعاية المصلحة،... ولما أخبر سبحانه أنه كتب عليهم ذلك، أتبعه حالاً منهم دالة على أنهم بعيدون من أن يكونوا أبناء وأحباء فقال: {ولقد} أي والحال أنهم قد {جاءتهم رسلنا} أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا واختيارنا لهم لأن يأتوا عنا، فهم لذلك أنصح الناس وأبعدهم عن الغرض وأجلّهم وأجمعهم للكمالات وأرفعهم عن النقائص، لأن كل رسول دال على مرسله {بالبينات} أي الآيات الواضحة للعقل أنها من عندنا، آمرة لهم بكل خير، زاجرة عن كل ضير، لم نقتصر في التغليظ في ذلك على الكتاب بل وأرسلنا الرسل إليهم متواترة. ولما كان وقوع الإسراف -وهو الإبعاد عن حد الاعتدال في الأمر منهم بعد ذلك- بعيداً -عبر بأداة التراخي مؤكداً بأنواع التأكيد فقال: {ثم إن كثيراً منهم} أي بني إسرائيل، وبيَّنَ شدة عتوّهم بإصرارهم خلفاً بعد سلف فلم يثبت الجار فقال: {بعد ذلك} أي البيان العظيم والزجر البليغ بالرسل والكتاب {في الأرض} أي التي هي مع كونها فراشاً لهم- ويقبح على الإنسان أن يفسد فراشه -شاغلة- لما فيها من عظائم الكدورات وترادف القاذورات -عن الكفاف فضلاً عن الإسراف {لمسرفون *} أي عريقون في الإسراف بالقتل وغيره...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال تعالى (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل) أي من جرائه. اه.
وأقول: لا حاجة إلى القيد لأن من شأن كل جنابة أن يخاف آجلها وتحذر عاقبتها. ومن تتبع الشواهد والأقوال يرجح معي أن الأجل هو جلب الشيء الذي له عاقبة أو ثمرة وكسبه أو تهييجه. ويعدى باللام. وقد تكون العاقبة حسنة...
ومعنى العبارة: إنه بسبب ذلك الجرم والقتل الذي أجله أحد هذين الأخوين ظلما وعدوانا لا بسبب آخر كتبنا: يفيد أن هذا التشديد في تشنيع القتل كان بسبب هذه الجنابة الدالة على أن البشر عرضة للبغي الشديد الذي يفضي إلى القتل بغير حق، إذا لم يردعهم الوعد الشديد، أو خوف العقاب العتيد. ولعل تخصيص بني إسرائيل بالذكر هو الذي أخذ منه الحسن قوله: إن ولدي آدم هذين كانا من بني إسرائيل. والجمهور يقولون: إن هذا التخصيص للتعريض بما كان من شدة حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب لأنه بعث فيهم، كما بين الله ذلك في كتابه من قبل.
وأما هذا الذي عليهم فهو {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير سبب القصاص الذي شرعه الله تعالى في قوله الآتي في هذه السورة {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] أي من قتل نفسا يقتل بها جزاء وفاقا {أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} أو غير سبب فساد في الأرض، بسلب الأمن، والخروج على أئمة العدل، وإهلاك الحرث والنسل، كما تفعله العصابات المسلحة لقتل الأنفس ونهب الأموال، أو إفساد الأمر على ذي السلطان المقيم لحدود الله. وهو مكان سيأتي حكمه قريبا في قوله تعالى {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الآية {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} لأن الواحد يمثل النوع من جملته، فمن استحل دمه بغير حق، يستحل دم كل واحد كذلك لأنه مثله، فتكون نفسه ضارية بالبغي، لا وازع لها من ذاتها ولا من الدين.
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أي ومن كان سببا لحياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه، فكأنما أحيا الناس جميعا، لأن الباعث له على إنقاذ الواحد – وهو الرحمة والشفقة، ومعرفة قيمة الحياة الإنسانية واحترامها، والوقوف عند حدود الشريعة في حقوقها، -تندغم فيه جميع حقوق الناس عليه، فهو دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من هلكة يراهم مشرفين على الوقوع فيها لا يني في ذلك ولا يدخر وسعا. ومن كان جميع الناس أو أكثرهم مثل ذلك الذي قتل نفسا واحدة بغير حق، لكانوا عرضة للهلاك بالقتل في كل وقت، ولو كانوا مثل ذلك الذي أحيا نفسا واحدة احتراما لها، وقياما بحقوقها، لامتنع القتل بغير الحق من الأرض، وعاش الناس متعاونين، بل إخوانا متحابين متوادين. فالآية تعلمنا ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة الجميع، واتقائه ضرر كل فرد، لأن انتهاك حرمة الفرد، انتهاك لحرمة الجميع، والقيام بحق الفرد من حيث إنه عضو من النوع، وما قرر له من حقوق المساواة في الشرع، قيام لحق الجميع. وقد غفل عن هذا المعنى العالي مَن جعل التشبيه في الآية مشكلا يحتاج إلى التخريج والتأويل.
وقد بينا من قبل أن القرآن كثيرا ما يهدينا إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها بمثل إسناد عمل المتقدمين منها إلى المتأخرين، ووضع اسم الأمة أو ضميرها، في مقام الحكاية أو الخطاب لبعض أفرادها. ومن ذلك ما تقدم في تفسير {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29 فقد قلنا هنالك – بعد إيراد عدة آيات في هذا المعنى بمثل هذا التعبير، وبيان كونه يدل على وحدة الأمة وتكافلها- ما نصه: بل علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره تعد جنابة على البشر كلهم، لا على المتصلين معه برابطة الأمة الدينية أو الجنسية أو السياسية فقط بقوله عز وجل {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} الآية.
وروي أن وجه التشبيه هو القصاص، فمن قتل نفسا واحدة كمن قتل كل الناس في كونه يقتل قصاصا بالواحدة وبالكثير، إذ لا عقوبة فوق القتل. رواه ابن جرير عن ابن زيد عن أبيه. ولا يظهر مثل هذا المعنى في الإحياء. والمروي عن ابن زيد فيه أن ولي الدم إذا عفا عن القاتل كان له من الأجر مثل أجر من أحيا الناس جميعا. وقيل مثل هذا في القتل، وهو أن إثم قتل النفس الواحدة مثل إثم قتل جميع الناس وجزاؤهما واحد. وقد بين في سورة النساء (ج 5) عن ابن عباس أن المراد بالنفس في الموضعين نفس النبي أو الإمام العادل، وإحياؤها نصره وشد عضده. وهو صحيح المعنى لأن قتل المصلح أو إنقاذه ونصره يؤثر في الأمة كلها. ولكن اللفظ يأباه وما أراه يصح عن ابن عباس. وروي عنه غيره، ومنه أن من حرم قتل نفس بدون حق حيي الناس جميعا منه. وقيل إن المعنى أن من قتل نفسا كان قتلها كقتل الناس جميعا عند المقتول بالنسبة إليه، ومن أنقدها من القتل كان عند المنقذ كإحياء الناس جميعا. روى هذه الأقوال ابن جرير واختار منها أن وجه التشبيه في القتل هو عقاب الآخرة، وفي الإحياء انه سلامة الناس ممن يحرم على نفسه قتل النفس التي حرمها الله. وما قلناه أولا أوضح وأجمع للمعاني.
ومن الغرائب أن هذه الحكمة العالية من جملة ما نسي بنو إسرائيل من أحكام دينهم، إذ فقدت التوراة ثم كتبوا ما بقي في حفظهم من أحكامها. فأما قصة ابني آدم فهي في الفصل الرابع من سفر التكوين... فأسباب القتل عندهم كثيرة، ولم تكن هذه الشدة رادعة لهم عن القتل بغير حق حتى قتل الأنبياء، فهل يكثر عليهم ما كانوا عزموا عليه من قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المصطفى غدرا؟ لا، لا. ولهذا قال تعالى فيهم:
{وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} أي لم تغن عنهم بينات الرسل ولا هذبت نفوسهم، بل كان كثير منهم بعد ذلك الذي ذكر من التشديد عليهم في أمر القتل ومن مجيء الرسل بالبينات يسرفون في الأرض بالقتل وسائر ضروب البغي. أكد إثبات وصف الإسراف لكثير منهم تأكيدا بعد تأكيد، لأن تشديد الشريعة وتكرار بينات الرسل كانت تقتضي عدم ذلك أو ندوره. والحكم على الكثير دون جميع الأمة من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحقائق، وهذا الرسوخ في الإسراف لا يمكن أن يعم أفراد الأمة، والناس يطلقون وصف الكثير على الجميع في الغالب. والإسراف مجاوزة الحد في العمل، أي حد الحق والمصلحة، ويعرف ذلك بالشرع في الأمور الشرعية، وبالعقل والعرف في غير ذلك وفي القوم الذين ليس لهم شرع. وكل ما يتجاوز فيه الحد يفسد.
والأصل في معنى الإسراف الإفساد، فهو من السرفة وهي (بالضم) الدودة التي تأكل الشجرة والخشب. وإذا كان الإسراف في فعل الخير يجعله شرا، كالنفقة الواجبة والمستحبة التي تذهب بالمال كله، فتفسد على صاحبه أمر معاشه. فما بالك بالإسراف في الشر، وهو المبالغة وتجاوز ما اعتاده الأشرار فيه؟ وأما قوله تعالى في سورة بن إسرائيل {فلا يسرف في القتل} [الإسراء: 33] فهو نهى لولي المقتول أن يتجاوز حد القصاص إلى قتل غير القاتل، أو تعذيب القاتل والتمثيل به.
وأكبر العبر في الآية أن قصة ابني آدم أقدم قصة تدلنا على أن الحسد كان مثار أول جناية في البشر، ولا يزال هو الذي يفسد على الناس أمر اجتماعهم – من اجتماع العشيرة في الدار – إلى اجتماع القبيلة، إلى اجتماع الدولة. فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه في النسب أو الجنس أو الدين وهو لم يتعرض لمثلها لينالها، فيبغي على أخيه ولو بما فيه شقاؤه هو. وأكبر الموانع لارتقاء المسلمين الآن هو الحسد والعياذ بالله تعالى من أهله لعنة الله عليهم، لأن الأمم لا ترتقي إلا بنهوض المصلحين بها، وكلما قام فينا مصلح تصدى الحاسدون لإحباط عمله.
ومن قرأ الآية وفهم ما فيها من تعليل تحريم القتل بغير حق، وكون هذا الحق لا يعدو القصاص ومنع الإفساد في الأرض، يتوجه ذهنه لاستبانة العقاب الذي يؤخذ به المفسدون حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم، فبين الله ذلك العقاب بقوله: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34)}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يلتقط السياق الآثار العميقة التي تتركها في النفس رواية النبأ بهذا التسلسل، ليجعل منها ركيزة شعورية للتشريع الذي فرض لتلافي الجريمة في نفس المجرم؛ أو للقصاص العادل إن هو أقدم عليها بعد أن يعلم آلام القصاص التي تنتظره:
(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل: أنه من قتل نفسا -بغير نفس أو فساد في الأرض- فكأنما قتل الناس جميعا؛ ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات؛ ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون).
من أجل ذلك.. من أجل وجود هذه النماذج في البشرية.. من أجل الاعتداء على المسالمين الوادعين الخيرين الطيبين، الذين لا يريدون شرا ولا عدوانا.. ومن أجل أن الموعظة والتحذير لا يجديان في بعض الجبلات المطبوعة على الشر؛ وأن المسالمة والموادعة لا تكفان الاعتداء حين يكون الشر عميق الجذور في النفس.. من أجل ذلك جعلنا جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة كبيرة، تعدل جريمة قتل الناس جميعا؛ وجعلنا العمل على دفع القتل واستحياء نفس واحدة عملا عظيما يعدل إنقاذ الناس جميعا.. وكتبنا ذلك على بني إسرائيل فيما شرعنا لهم من الشريعة [وسيأتي في الدرس التالي في سياق السورة بيان شريعة القصاص مفصلة].
إن قتل نفس واحدة -في غير قصاص لقتل، وفي غير دفع فساد في الأرض- يعدل قتل الناس جميعا. لأن كل نفس ككل نفس؛ وحق الحياة واحد ثابت لكل نفس. فقتل واحدة من هذه النفوس هو اعتداء على حق الحياة ذاته؛ الحق الذي تشترك فيه كل النفوس. كذلك دفع القتل عن نفس، واستحياؤها بهذا الدفع -سواء كان بالدفاع عنها في حالة حياتها أو بالقصاص لها في حالة الاعتداء عليها لمنع وقوع القتل على نفس أخرى- هو استحياء للنفوس جميعا، لأنه صيانة لحق الحياة الذي تشترك فيه النفوس جميعا.
وبالرجوع إلى البيان الذي قدمنا به لهذه الأحكام، يتبين أن هذا التقرير ينطبق -فقط- على أهل دار الإسلام -من مسلمين وذميين ومستأمنين- فأما دم أهل دار الحرب فهو مباح -ما لم تقم بينهم وبين أهل دار الإسلام معاهدة- وكذلك ما لهم. فيحسن أن نكون دائما على ذكر من هذه القاعدة التشريعية؛ وأن نتذكر كذلك أن دار الإسلام هي الأرض التي تقام فيها شريعة الإسلام، ويحكم فيها بهذه الشريعة، وأن دار الحرب هي الأرض التي لا تقام فيها شريعة الله، ولا يحكم فيها بهذه الشريعة..
ولقد كتب الله ذلك المبدأ على بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا -في ذلك الحين- هم أهل الكتاب؛ الذين يمثلون "دار الإسلام "ما أقاموا بينهم شريعة التوراة بلا تحريف ولا التواء.. ولكن بني إسرائيل تجاوزوا حدود شريعتهم -بعد ما جاءتهم الرسل بالبينات الواضحة- وكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يزالون يكثر فيهم المسرفون المتجاوزون لحدود شريعتهم. والقرآن يسجل عليهم هذا الإسراف والتجاوز والاعتداء؛ بغير عذر؛ ويسجل عليهم كذلك انقطاع حجتهم على الله وسقوطها بمجيء الرسل إليهم، وببيان شريعتهم لهم:
(ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات؛ ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. والمقصود من الإخبار بما كتب على بني إسرائيل، بيان للمسلمين أنّ حكم القصاص شرع سالف ومراد لله قديم، لأنّ لمعرفة تاريخ الشرائع تبصرة للمتفقّهين وتطميناً لنفوس المخاطبين وإزالة لما عسى أن يعترض من الشبه في أحكام خفيتْ مصالحُها، كمشروعية القصاص، فإنّه قد يبدو للأنظار القاصرة أنّه مداواة بمثل الدّاء المتداوَى منه حتّى دعا ذلك الاشتباهُ بعضَ الأمم إلى إبطال حكم القصاص بعلّة أنّهم لا يعاقبون المذنب بذَنْب آخر، وهي غفلة دقّ مسلكها عن انحصار الارتداع عن القتل في تحقّق المُجازاة بالقتل؛ لأنّ النفوس جُبلت على حبّ البقاء وعلى حبّ إرضاء القُوّة الغضبيّة، فإذا علم عند الغضب أنّه إذا قتل فجزاؤه القتل ارتدع، وإذا طمِع في أن يكون الجزاء دون القتل أقدم على إرضاء قوّته الغضبيّة، ثُمّ علّل نفسه بأنّ ما دون القصاص يمكن الصّبر عليه والتفادي منه...
... ومعنى التشبيه في قوله: {فكأنّما قتل النّاس جميعاً} حثّ جميع الأمّة على تعقّب قاتل النّفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائِه أو الستر عليه، كلّ مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض، من ولاة الأمور إلى عامّة النّاس. فالمقصود من ذلك التشبيه تهويل القتل وليس المقصود أنّه قد قتل النّاس جميعاً، ألا ترى أنّه قابل للعفو من خصوص أولياء الدم دون بقية النّاس. على أنّ فيه معنى نفسانياً جليلاً، وهو أنّ الداعي الّذي يقدم بالقاتل على القتل يرجع إلى ترجيح إرضاء الداعي النفساني الناشئ عن الغضب وحبّ الانتقام على دواعي احترام الحقّ وزجر النّفس والنظر في عواقب الفعل من نُظم العالم، فالّذي كان من حيلته ترجيحُ ذلك الدّاعي الطفيف على جملة هذه المعاني الشّريفة فذلك ذو نفس يوشك أن تدعوه دَوْماً إلى هضم الحقوق، فكلّما سنحت له الفرصة قَتل، ولو دعته أن يقتل النّاس جميعاً لفعل. ولك أن تجعل المقصد من التشبيه توجيه حكم القصاص وحقّيّته، وأنّه منظور فيه لحقّ المقتول بحيث لو تمكّن لما رضي إلاّ بجزاء قاتله بمثل جرمه؛ فلا يتعجّب أحد من حكم القصاص قائلاً: كيف نصلح العالم بمثل ما فسد به، وكيف نداوي الداء بداء آخر، فبُيّن لهم أنّ قاتل النّفس عند وليّ المقتول كأنّما قتل النّاس جميعاً. وقد ذُكرتْ وجوه في بيان معنى التشبيه لا يقبلها النّظر.
ومعنى {ومن أحياها} من استنقذها من الموت، لظهور أنّ الإحياء بعد الموت ليس من مقدور النّاس، أي ومن اهتمّ باستنقاذها والذبّ عنها فكأنّما أحيى الناس جميعاً بذلك التّوجيه الّذي بيّنّاه آنفاً، أو من غلَّب وازع الشرع والحكمة على داعي الغضب والشهوة فانكفّ عن القتل عند الغضب.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
يتنازع النفس البشرية نزوعان: نزوع الخير ونزوع الشر، ولذلك قال تعالى: {ونفس وما سواها (7) فألهمها فجورها وتقواها (8)} (الشمس). قال تعالى: {وهديناه النجدين (10)} (البلد) أي: أودع الله تعالى نفسه العلم بالخير والاتجاه إليه، وأودعها الشر والاتجاه إليه، فمن غلبت عليه نزعة الشر كان من الأشرار، ومن غلبت عليه نزعة الخير كان من الأخيار الأبرار، وكل ميسر لما خلق له، وما يتجه إليه، وقد أودعه الله سبحانه وتعالى مع ذلك عقلا به يميز الخير من الشر، والطيب من الخبيث ويعتبر بماضيه وحاضره وحاضر غيره وقابله. ولا بد من زواجر اجتماعية تنبه الضال، حتى لا يستمر في ضلاله وتوضح له بالعيان عقبى الشر وثمرة الخير.
وهذان أخوان أحدهما غلب عليه الخير حتى أنه لم يبسط يده ليقتل أخاه، مع أنه رأى بوادر الشر، والثاني غلبه الشر، حتى أنه ليستعديه الحسد على أخيه فيقتله، ولقد ذكر الله تعالى في سابق الآيات ما كان من ابني آدم، ويذكر هنا ما سنه من نظم ليرى فيها النازعون إلى الشر ما يردعهم، فقال تعالى:
{من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس} أي من جراء هذه الجناية التي ارتكبها أحد ابني آدم، ودلالتها على تغلغل الشر في نفوس بعض الناس واستعدادهم لأن تكون منهم الجريمة في كل وقت وحين، كان لا بد من رادع زاجر مانع وهو العقاب ف "أجل "هنا معناه جناية، وقد فسرها كذلك اللغويون في معاجمهم فذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب، وذكره الأصفهاني في مفرداته، فقال: والأجل الجناية التي يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية وليس كل جناية أجلا، يقال فعلت كذا من أجله، قال تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} أي من جراء ذلك، وقد فسر الأجل بالجناية أكثر المفسرين، وقد أشار الأصفهاني إلى معنى جدير بالنظر وترديده، وهو أن الأجل هو الجناية التي يخاف منها آجلا، أي تكون لها عواقب وخيمة على الأشخاص أو على الجماعات أي الجناية التي لا تنتهي مغبتها بوقت وقوعها بل يكون لها آثار مؤجلة بعدها، إن لم تعالج تلك الآثار. وكذلك كانت جريمة أحد بني آدم فإنها جناية قد فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة، وهي جناية دلت على مكنون النفس البشرية الذي استتر فيها من غلبة الحق والحسد على بعض النفوس، حتى طغت على كل عناصر الخير فيها فهي جناية آجلها وخيم كحاضرها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل".
و (من) هنا للسببية، أي سبب هذه الجناية كان ما شرعه الله تعالى من شريعة القصاص الخالدة الباقية لدفع الشر إلى يوم القيامة، وعبر عن السببية ب "من"، لبيان الابتداء في الحكم، فمع كون من أجل ذلك دالة على السببية وتشير إلى ابتداء الحكم، وأنه مقترن بما وقع من جريمة كان لها آجل هو شر إن لم تقمع النفوس وتردع الأهواء المتغلبة الطاغية.
وهنا معان بيانية تجب الإشارة إليها:
أولها: في الكلمة السامية "كتبنا"، فإنها تدل على تقرير العقاب، وتسجيله حتى لا يقبل المحو فإن الواجب الذي يكتب يكون مسجلا على القراطيس، ويبقى أثر الكتابة باقيا غير قابل للنسيان وفيها إضافة الفرضية والكتابة إلى الله تعالت قدرته، وجل جلاله، وتقدست ذاته وفي ذلك إشارة إلى عظمة المكتوب المفروض، وهو شريعة القصاص فهي شريعة عظيمة تمد المجتمع بحياة هادئة مطمئنة، إذ تحميه من أوضاره أن تتغلغل في كيانه ومن شراره من أن يتحكموا في خياره.
ثانيها: أن الله تعالى خص بني إسرائيل بالذكر مع أن القصاص شريعة عامة لم يخل منها دين من الأديان السماوية بل لم تخل منه شريعة وضعية على انحراف في تطبيقه، أو إهمال في العدالة فيه، والنفوس التي انحرفت عنه في الأيام الأخيرة قد غلب عليها هواها فغلبت عليها شقوتها، وعرضت الجماعات فيها لأعظم المخاطر من عدوان الأشرار. فلماذا خص الله تعالى بني إسرائيل بالذكر مع أنه مفروض قبلهم، ومفروض بعدهم، والجواب عن ذلك نتلمسه، ولا نجد نصا يدل عليه، ونقول في ذلك والله أعلم بمراده: إن التوراة فيما بقي منها هي الكتاب الذي اقترن هو والإنجيل بالقرآن زمنيا، فالقرآن جاء مهيمنا عليها، ومصدقا للصادق منهما فذكر بني إسرائيل دليل على أنه مفروض علينا بحكم الاقتران الزمني، وبحكم أن هذا المبدأ الخالد قرره القرآن، وجدده في مثل قوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص... (45)} (المائدة).
وفوق ذلك ما يزال هذا المبدأ باقيا في التوراة ولم يندثر فيها مع أنهم حرفوا ما حرفوا، والأنبياء الذين سبقوا يعقوب وليست كتبهم قائمة في أيدي الناس في عصر التنزيل كما بقيت التوراة مع تحريفهم فيها الكلم عن مواضعه وكانت شريعة القصاص باقية بعد هذا التحريف.
ثم إن بني إسرائيل قد كتبت عليهم شريعة القصاص كما كتبت على غيرهم من قبلهم ومن بعدهم ومع ذلك هم أشد الناس إسرافا في قتل الأبرياء والأطهار، وما أشبههم في قتلهم أنبياءهم ودعاة الحق بقابيل الذي قتل أخاه هابيل، فهو قتله لما ظهر فيه من خير، وهم قد قتلوا أنبيائهم، لأنهم دعوهم إلى الخير.
ثالثا: أن الله تعالى عندما بين شريعة القصاص قد ذكر الباعث عليها، وحكمتها وما يؤدي إليه تنفيذها واكتفى ببيان ذلك مكتفيا بما فصلته شرائع النبيين فيها وما أتت به من بينات، ولذلك قال تعالى:
{أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} هذا هو ما كتبه الله تعالى وهو أن من قتل نفسا بغير حق شرعي مبيح لها، فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وقد بين القرآن الكريم متى يكون القتل بغير حق مشيرا بإيجازه المعجز إلى القتل بحق، فبين أن القتل بغير حق هو ألا يكون في نظير نفس، فالقتل قصاصا لا يكون إلا بالحق ولكن بعد أن يقرر القضاء أنه يجب القصاص، أو يمكن ولي الدم من القصاص، وكذلك القتل لمنع الفساد في الأرض، كقتل الذين يعتدون على الجماعات المؤمنة ويرهقونهم في تدينهم، أو من يرتدون ليفسدوا عقائد المؤمنين أو الزنادقة الذين يفسدون العقائد أو أهل الدعارة والفساد من أهل الحرابة الذين يخرجون على الجماعات ويحاربون النظم التي قررها الشرع الشريف، وهكذا فإذا كان القتل لغير هذين الأمرين فهو قتل بغير حق، ومن فعل ذلك فكأنما قتل الناس جميعا.
ولقد تكلم العلماء في معنى هذا التشبيه وكيف يكون قتل الواحد بغير حق، مشابها لقتل الناس أجمعين قال بعض العلماء: إن المراد نفس الإمام العادل، وذلك لأن قتل الإمام العادل الاعتداء فيه ليس على شخصه وحده، ولكن على كل من يسعدون بحكمه ويظلهم عدله، فمن قتله فكأنه قتلهم، إذ يصير أمرهم بورا من بعده، وتضطرب أحوالهم وذلك قتل للجماعة، لأن تفريق الجماعة وحل رباطها هو موت لها، ومع سلامة ذلك التفكير فإن قصر القتل المفسد على قتل الإمام لا دليل عليه ولذلك كان الأولى التعميم بدل التخصيص والإطلاق بدل التقييد، إذ لا دليل من مخصص أو مقيد فالأولى هو تفسيرها بالعموم، ويبقى مع ذلك التشبيه سليما، لا شبهة فيه ووجه الشبه الذي جعل قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعا يكون من نواح:
الأولى أنه من قتل نفسا فقد استباح حق الحياة المصون المحترم الذي حماه الإسلام، ومن استباحه في نفس واحدة فقد استباحه في نفوس الناس جميعا، وقد أشار إلى هذا المعنى ابن كثير، فقال في تفسيره للقرآن العظيم: من قتل نفسا واحدة بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعا... وعن أبي هريرة قال: (دخلت على عثمان يوم الدار، فقلت: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعا، وإياي معهم؟ قلت: لا، قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك مأجورا، غير مأزور، قال فانصرفت ولم أقاتل). وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: من استحل دم امرئ فكأنما استحل دم الناس جميعا، ومن حرم دم امرئ، فكأنما حرم دماء الناس جميعا.
الثانية: أن وزر من قتل نفسا واحدة كوزر من قتل ألفا.
الثالثة: أن عقاب قتل نفس كعقاب قتل الأنفس وهو في الدنيا بالقصاص العادل، وفي الآخرة بعذاب جهنم، كما قال تعالى:
{ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجاءه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)} (النساء) وإذا كان قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا، فإحياؤها كإحياء الناس جميعا، ولذا قال سبحانه: {ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}. في هذا النص السامي نتكلم عن أمرين: أولهما معنى إحياء النفس، وثانيهما: معنى تشبيه من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا. أما الجزء الأول وهو معنى الإحياء فقد ذكر العلماء له معاني كثيرة منها أن إحياءها بمعنى تحريم قتلها على نفسه والامتناع عن انتهاك حرماتها، ولكن ذلك أقرب إلى المعنى السلبي، اللهم إلا أنه يقال: إنه كب نفسه عن ذلك الفعل الأثيم عندما تساوره قوة الشر دافعة خاملة له، فإن الكف حينئذ ليس عملا سلبيا بل هو عمل إيجابي، ومنها أن معناها: من أنقذ إنسانا كان مشرفا على الهلاك في حرق أو غرق، أو مصاولة إنسان أو حيوان، فإن ذلك إحياء له، ولكن مع سلامة هذين المعنيين لا يمكن أن يكون تشبيه من يفعل ذلك سلبا أو إيجابا بإحياء الناس جميعا واضحا، لأنه إحياء لفرد، اللهم إلا أن يقال إن مجرد حماية حق الحياة أو احترامه في فرد هو احترام أو حماية له في الناس أجمعين.
ولقد قال بعض المفسرين: إن المراد بإحياء النفس حماية نفس الإمام ومعاونته على دفع شرور البغاة، والخارجين عليه، وإن ذلك سير على أن قتل النفس الذي يكون قتلا للجميع هو قتل الإمام وقد بينا أنه غير الأولى.
والحق الذي نراه أن المراد بإحياء النفس، هو بالتمكين من القصاص، لأن الله تعالى قال: {ولكم في القصاص حياة... (179)} (البقرة)... بأن يوجد الردع العام عن القتل والاعتداء فتحيى النفوس وينقمع الأشرار وهذا ما أشار إليه ما تلونا من قوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب... (179)} (البقرة).
{ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات} يخبر الله سبحانه وتعالى أن الله تعالى أرسل الرسل لبني إسرائيل يبينون لهم الحقائق التي يقوم عليها بناء المجتمع السليم الذي تحمى فيه الدماء والأعراض، والفضيلة الإنسانية والتي تشتمل على ما كتبه الله تعالى من أجل اعتداء أحد ابني آدم على أخيه من غير ظلم وقع منه ولا باعث على ما ارتكب إلا الحسد والحقد.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل بالبينات، وهي الشرائع البينة الواضحة التي تحمل في نفسها دليل صلاحها، وتوضح غاياتها ومراميها، ومعها الدليل القاطع المثبت لصحة الرسالة من معجزات باهرة، وخوارق صارخة، وقد أكد سبحانه بعث هؤلاء الرسل وسلامة ما يدعون إليه بمؤكدات ثلاثة:
أولها: باللام وقد، إذ قال {ولقد جاءتهم رسلنا}. وقد مؤكدة للخبر واللام مؤكدة لما بعدها.
ثانيها: بالتعبير بأن الرسل جاءتهم أي لاصقوهم وصاروا قريبين منهم يخاطبونهم ويحاجونهم ويبينون لهم ولا يدعون أمرا فيه التباس إلا أزالوا لبسه، ومنعوا الاشتباه عليهم.
وثالثها: أنه سبحانه أضاف الإرسال إلى ذاته العليا، وفي ذلك بيان قدسية الرسالة، وفوق ذلك هي في ذاتها فيها حقائق واضحات منيرة للحق في ذاتها، فلها بذلك شرفان: شرف ذاتي من حقائقها وشرف إضافي من منزلها.
ولكن الآيات والنذر إنما تغني من يذعنون للحق ويؤمنون، والبينات مهما تكن نيرة لا يدرك نورها إلا ذو البصيرة المستنيرة وليس بنو إسرائيل من هذا الصنف، ولذا قال سبحانه:
{ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون} كان العطف ب "ثم" للإشارة إلى بعد ما بين البينات الواضحات التي جاءت بها الرسل، ونتيجتها في قلوبهم فهي في ذاتها أمر بين ولكن نتيجتها لم تكن كحقيقتها طيبة مثمرة في قلوبهم، بل كانت كالبذر الطيب يلقى في أرض سبخة لينبت قليلا، ويخرج حبطا في أكثرها، ولم يحكم سبحانه على اليهود جميعهم بأنهم كانوا جميعا مفسدين، بل حكم على كثير منهم ذلك الحكم، كما قال تعالى: {...منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (66)} (المائدة).
وقد وصف سبحانه وتعالى كثيرا منهم بأنهم مسرفون أي مفسدون لأنهم قتلوا المخلصين وعصوا أوامر الله وعاثوا في الأرض فسادا ونشروا الشر في العالم، حتى إنك لا تجد فسادا إلا إذا كانوا مصدره، فهم الذين نشروا الربا والمجون والعبث والخمور، وكل ما هو شر في الأرض، والإسراف: هو الفساد مأخوذ من السرفة، وهي: الدودة التي تأكل الشجر والإسراف حتى فيما أصله خير يقلبه إلى شر وفساد، وقد أكد الله تعالى إسراف اليهود في الشر ب "إن" وباللام في قوله: "لمسرفون"، وبالجملة الإسمية.. وقى الله المسلمين شرهم، وألبسهم لباس الذل والخوف إلى يوم القيامة وهدانا جميعا للخير، إنه الهادي إلى قصد السبيل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ هذه الآية تقوم باستخلاص نتيجة إِنسانية كلية بعد الآيات التي تطرقت إلى قصّة ولدي آدم (عليه السلام).
ففي البداية تشير الآية إلى حقيقة اجتماعية تربوية مهمّة، وهي أن قتل أيّ إِنسان، إِن لم يكن قصاصاً لقتل إِنسان آخر، أو لم يكن بسبب جريمة الإِفساد في الأرض، فهو بمثابة قتل الجنس البشري بأجمعه، كما أنّ إِنقاذ أيّ إِنسان من الموت، يعد بمثابة إِنقاذ الإِنسانية كلّها من الفناء، حيث تقول الآية الكريمة: (من أجل ذلك كتبنا على بني إِسرائيل أنّه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً).
ويرد هنا سؤال وهو: كيف يكون قتل إِنسان واحد مساوياً لقتل الناس جميعاً، وكيف يكون إِنقاذ إِنسان من الموت بمثابة إِنقاذ الإِنسانية جمعاء من الفناء؟
ولقد وردت أجوبة عديدة من قبل المفسّرين على هذا السّؤال... جاء في تفسير «التبيان» ستة أجوبة عليه، وفي «مجمع البيان» خمسة أجوبة، وفي «كنز العرفان» أربعة أجوبة، ولكن بعضاً من هذه الأجوبة يبتعد كثيراً عن معنى هذه الآية.
وكما قلنا في بداية تفسير هذه الآية، فإِنّها تتحدث عن حقيقة اجتماعية تربوية، لأنه: أوّلا: إِن من يقتل إِنساناً بريئاً ويلطخ يده بدم بريء يكون في الحقيقة مستعداً لقتل أناس آخرين يساوونه في الإنسانية والبراءة، فهو في الحقيقة إنسان قاتل، وضحيته إنسان آخر بريء، ومعلوم أنّه لا فرق بين الأبرياء من الناس من هذه الزاوية.
كما أنّ أي إِنسان يقوم بدافع حب النوع الإِنساني بإِنقاذ إِنسان آخر من الموت، يكون مستعداً للقيام بعملية الإِنقاذ الإِنسانية هذه بشأن أيّ إِنسان آخر، فهذا الإِنسان المنقذ يحبّ إِنقاذ الناس الأبرياء، لذلك لا فرق لديه بين إِنسان بريء وآخر مثله.
ونظراً لكلمة «فكأنّما» التي يستخدمها القرآن في هذا المجال، فإِننا نستدل بأن موت وحياة إِنسان واحد، مع أنّه لا يساوي موت وحياة المجتمع، إِلاّ أنّه يكون شبيهاً بذلك.
وثانياً: إِنّ المجتمع يشكل في الحقيقة كياناً واحداً، وأعضاؤه أشبه بأعضاء الجسد الواحد، وأنّ أي ضرر يصيب أحد أعضائه يكون أثره واضحاً بصورة أو بأُخرى في سائر الأعضاء، ولأنّ المجتمع البشري يتشكل من الأفراد، لذلك فإِن فقدان أي فرد منهم يعتبر خسارة للجميع الإِنساني الكبير، لأنّ هذا الفقدان يترك أثراً بمقدار ما كان لصاحبه من أثر في المجتمع، لذلك يشمل الضرر جميع أفراد المجتمع.
ومن جانب آخر فإِن إحياء فرد من أفراد المجتمع، يكون لنفس السبب الذي ذكرناه بمثابة إحياء وإنقاذ جميع أفراد المجتمع، لأنّ لكل إِنسان أثر بمقدار وجوده في بناء المجتمع الإِنساني وفي مجال رفع احتياجاته، فيكون هذا الأثر قليلا بالنسبة للبعض وكثيراً بالنسبة للبعض الآخر.
وحين نقرأ في الروايات أنّ جزاء وعقاب قاتل النفس المحرمة، يكون كجزاء قاتل جميع أفراد البشر، إِنّما ذلك إِشارة لهذا المعنى الذي ذكرناه، ولا يعني أنّ الناس متساوون مع بعضهم في كل الجهات، ولذلك نقرأ في تفسير هذه الروايات أيضاً أن عقاب القاتل يتناسب مع عدد الأفراد الذين قتلهم تناسباً طريداً قلة وزيادة.
وتبيّن هذه الآية بجلاء أهمية حياة وموت الإِنسان في نظر القرآن الكريم، وتتجلى عظمة هذه الآية أكثر حين نعلم أنّها نزلت في محيط لم يكن يعير أي أهمية لدماء أفراد الإِنسانية.
وتلفت الانتباه في هذا المجال روايات عديدة ذكرت أنّ هذه الآية مع أنّها تتحدث أو يشير ظاهرها إلى الحياة والموت الماديين، إِلاّ أنّ الأهمّ من ذلك هو الموت والحياة المعنويين، أي إِضلال الفرد أو إِنقاذه من الضلال...
والسؤال الآخر الذي يمكن أن يرد في هذا المجال أيضاً، هو عن سبب ورود اسم بني إِسرائيل بالذات في هذه الآية، مع أنّها تشمل حكماً لا يخص هذه الطائفة؟
ويمكن القول في الجواب بأن سبب الإِتيان باسم بني إِسرائيل في هذه الآية هو أن هذه الطائفة قد شاعت بينها حوادث القتل وإِراقة الدماء، وبالأخص ما كان منها ناشئاً عن الحسد وحبّ الذات والأنانية وحبّ التسلط، وما زال الذين يتعرضون للقتل على أيدي هذه الطائفة في الوقت الحاضر هم الأبرياء من الناس غالباً، ولهذا السبب ورد هذا الحكم الإِلهي لأوّل مرّة في سيرة بني إِسرائيل!
وتشير الآية في آخرها إلى انتهاكات بني إِسرائيل، فتؤكّد أن هذه الطائفة على الرغم من ظهور الأنبياء بينهم يحملون الدلائل الواضحة لإِرشادهم، إِلاّ أنّ الكثير منهم قد نقضوا وانتهكوا القوانين الإِلهية، واتبعوا سبيل الإِسراف في حياتهم، حيث تقول الآية: (ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثمّ إنّ كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون).
ويجدر الانتباه إلى أنّ كلمة «إِسراف» لها معان واسعة، تشمل كل تجاوز أو تعد عن الحدود، ولو أنّها تستخدم في الغالب في مجال الهبات والنفقات.