قال البخاري : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، [ حدثنا أبي ]{[1]} ، حدثنا الأعمش ، حدثني إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم ، في غار بمنى ، إذ نزلت عليه : " وَالْمُرْسَلاتِ " فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه ، وإن فاه لرطب بها ، إذ وَثَبت علينا حَيَّة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اقتلوها " . فابتدرناها فذهبت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " وُقِيَتْ شركم كما وُقِيتُم شرّهَا " .
وأخرجه مسلم أيضا ، من طريق الأعمش{[2]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ، عن الزّهْري ، عن عُبَيد الله ، عن ابن عباس ، عن أمه : أنها سَمعَت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عُرفًا{[3]} .
وفي رواية مالك ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله ، عن ابن عباس : أن أم الفضل سمعته يقرأ : " وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا " ، فقالت : يا بني ، ذكَّرتني بقراءتك هذه السورة ، أنها لآخر ما سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب .
أخرجاه في الصحيحين ، من طريق مالك ، به{[4]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا زكريا بن سهل المروزي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أخبرنا الحسين بن واقد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة : { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } قال : الملائكة .
قال : ورُوي عن مسروق ، وأبي الضحى ، ومجاهد - في إحدى الروايات - والسّدي ، والربيع بن أنس ، مثلُ ذلك .
ورُويَ عن أبي صالح أنه قال : هي الرسل . وفي رواية عنه : أنها الملائكة . وهكذا قال أبو صالح في " الْعَاصِفَاتِ " و " النَّاشِرَات " [ و " الْفَارِقَاتِ " ] {[29627]} و " الْمُلْقِيَاتِ " : أنها الملائكة .
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيل ، عن مُسلم البَطين ، عن أبي العُبَيدَين قال : سألت ابنَ مسعود عن { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } قال : الريح . وكذا قال في : { فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا } إنها الريح . وكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو صالح - في رواية عنه - وتوقف ابن جرير في { وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا } هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعُرْف ، أو كعُرْف الفَرَس يتبع بعضهم بعضا ؟ أو : هي الرياح إذا هَبَّت شيئا فشيئا ؟ وقطع بأن العاصفات عصفا هي الرياح ، كما قاله ابن مسعود ومن تابعه . وممن قال ذلك في العاصفات أيضا : علي بن أبي طالب{[29628]} ، والسدي ، وتوقف في { وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا } هل هي الملائكة أو الريح ؟ كما تقدم . وعن أبي صالح : أن الناشرات نشرا : المطر .
والأظهر أن : " الْمُرْسَلات " هي الرياح ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] وهكذا العاصفات هي : الرياح ، يقال : عصفت الريح إذا هَبَّت بتصويت ، وكذا الناشرات هي : الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء ، كما يشاء الرب عز وجل .
تفسير سورة المرسلات{[1]}
بسم الله الرحمن الرحيم سورة المرسلات وهي مكية في قول جمهور المفسرين وحكى النقاش انه قيل إن فيها من المدني قوله ‘ وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون{[2]} ‘ المرسلات 48 على قول من قال إنها حكاية عن حال المنافقين في القيامة وإنها بمعنى قوله تعالى ‘ يدعون الى السجود فلا يستطيعون{[3]} ‘ القلم 42 وقال ابن مسعود نزلت هذه السورة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء الحديث بطوله{[4]}
قال كثير من المفسرين : { المرسلات } ، الرسل إلى الناس من الأنبياء كأنه قال : والجماعات المرسلات ، وقال أبو صالح ومقاتل وابن مسعود : { المرسلات } الملائكة المرسلة بالوحي ، وبالتعاقب على العباد طرفي النهار ، وقال ابن مسعود أيضاً وابن عباس ومجاهد وقتادة : { المرسلات } ، الرياح ، وقال الحسن بن أبي الحسن : { المرسلات } السحاب و { عرفاً } معناه على القول الأول { عرفاً } من الله وإفضالاً{[11541]} على عباده ببعثه الرسل .
ومنه قول الشاعر : [ الحطيئة ] : [ البسيط ]
من يفعل الخير لا يعدمْ جوازيَهُ*** لا يذهب العرف بين الله والناس{[11542]}
ويحتمل أني ريد بقوله { عرفاً } أي متتابعة على التشبيه بتتابع عرف الفرس وأعراف الجبال ونحو ذلك ، والعرب تقول : الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه ، ويحتمل أن يريد بالعرف أي بالحق ، والأمر بالمعروف ، وهذه الأقوال في عرف تتجه في قول من قال في { المرسلات } إنها الملائكة ، ومن قال إن { المرسلات } الرياح اتجه في العرف القول الأول على تخصيص الرياح التي هي نعمة وبها الأرزاق والنجاة في البحر وغير ذلك مما لا فقه فيه .
لم ترد لها تسمية صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضاف لفظ سورة إلى جملتها الأولى .
وسميت في عهد الصحابة سورة { والمرسلات عرفا } ففي حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية الحديث .
وفي الصحيح عن ابن عباس قال قرأت سورة والمرسلات عرفا فسمعتني أم الفضل امرأة العباس فبكت وقالت : بني أذكرتني بقرائتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب .
وسميت { سورة المرسلات } ، روى أبو داود عن ابن مسعود كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة ، واقتربت والحاقة في ركعة ثم قال وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة فجعل هذه الألفاظ بدلا من قوله السورتين وسماها المرسلات لأن الواو التي في كلامه واو العطف مثل أخواتها في كلامه .
واشتهرت في المصاحف باسم { المرسلات } وكذلك في التفاسير وفي صحيح البخاري .
وذكر الخفاجي وسعد الله الشهير بسعدي في حاشيتيهما على البيضاوي أنها تسمى { سورة العرف } ولم يسنداه ، ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم .
وفي الإتقان عن كتاب ابن الضريس عن ابن عباس في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم { المرسلات } . وفيه عن دلائل النبوة للبيهقي عن عكرمة والحسن في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم { المرسلات } .
وهي مكية عند جمهور المفسرين من السلف ، وذلك ظاهر حديث ابن مسعود المذكور آنفا ، وهو يقتضي أنها من أوائل سور القرآن نزولا لأنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم مختف في غار بمنى مع بعض أصحابه .
وعن ابن عباس وقتادة : أن آية { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } مدنية نزلت في المنافقين ، ومحمل ذلك أنه تأويل ممن رواه عنه نظرا إلى أن الكفار الصرحاء لا يؤمرن بالصلاة ، وليس في ذلك حجة لكون الآية مدنية فإن الضمير في قوله { وإذا قيل لهم } وارد على طريقة الضمائر قبله وكلها عائدة إلى الكفار وهم المشركون . ومعنى { قيل لهم اركعوا } : كناية عن أن يقال لهم أسلموا . ونظيره قوله تعالى { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } فهي في المشركين وقوله { قالوا لم نك من المصلين } إلى قوله { وكنا نكذب بيوم الدين } .
وعن مقاتل نزلت { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } في شأن وفد ثقيف حين أسلموا بعد غزوة هوازن وأتوا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لا نجبي فإنها مسبة علينا . فقال لهم : لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود .
وهذا أيضا أضعف ، وإذا صح ذلك فإنما أراد مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم الآية .
وهي السورة الثالثة والثلاثون في عداد ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد .
وأتفق العادون على عد آيها خمسين .
اشتملت على الاستدلال على وقوع البعث عقب فناء الدنيا ووصف بعض أشراط ذلك .
والاستدلال على إمكان إعادة الخلق بما سبق من خلق الإنسان وخلق الأرض .
ووعد منكريه بعذاب الآخرة ووصف أهواله .
والتعريض بعذاب لهم في الدنيا كما استؤصلت أمم مكذبة من قبل . ومقابلة ذلك بجزاء الكرامة للمؤمنين .
فأما { المرسلات } فإذا جعل وصفاً للملائكة كان المعنيُّ بهم المرسلين إلى الرسل والأنبياء مثل جبريل في إرساله بالوحي ، وغيره من الملائكة الذين يبعثهم الله إلى بعض أنبيائه بتعليم أو خبر أو نصر كما في قوله تعالى عن زكرياء : { فنادَتْه الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } الآية [ آل عمران : 39 ] ، أو { المرسلات } بتنفيذ أمر الله في العذاب مثل المرسلين إلى قوم لوط ، و { عُرْفاً } حال مفيدة معنى التشبيه البليغ ، أي مثل عرف الفرس في تتابع الشعر بعضه ببعض ، يقال : هم كعرف الضبع ، إذا تألبوا ، ويقال : جاءوا عرفاً واحداً . وهو صالح لوصف الملائكة ولوصف الريح .
وفسر { عُرفاً } بأنه اسمٌ ، أي الشعرَ الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ ، أي كالعُرف في تتابع البعض لبعض ، وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول ، أي معرُوف ( ضد المنكَر ) ، وأن نصبه على المفعول لأجله ، أي لأجل الإِرشاد والصلاح .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها، وهي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} فمدنية.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَهِيَ من غَرَائِبِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَحْتَ الْأَرْضِ. وَرَوَى الصَّحِيحَانِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَارٍ، فَنَزَلَتْ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} فَإِنَّا لَنَتَلَقَّاهَا من فِيهِ رَطْبَةً إذْ خَرَجَتْ حَيَّةٌ من جُحْرِهَا، فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا، فَسَبَقَتْنَا فَدَخَلَتْ جُحْرَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهَا».
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الدلالة على آخر الإنسان من إثابة الشاكرين بالنعيم، وإصابة الكافرين بعذاب الجحيم، في يوم الفصل بعد جمع الأجساد وإحياء العباد بعد طي هذا الوجود وتغيير العالم المعهود.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة حادة الملامح، عنيفة المشاهد، شديدة الإيقاع، كأنها سياط لاذعة من نار. وهي تقف القلب وقفة المحاكمة الرهيبة، حيث يواجه بسيل من الاستفهامات والاستنكارات والتهديدات، تنفذ إليه كالسهام المسنونة!
وتعرض السورة من مشاهد الدنيا والآخرة، وحقائق الكون والنفس، ومناظر الهول والعذاب ما تعرض. وعقب كل معرض ومشهد تلفح القلب المذنب لفحة كأنها من نار: (ويل يومئذ للمكذبين)!
ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة. وهو لازمة الإيقاع فيها. وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة، ومشاهدها العنيفة، وإيقاعها الشديد.
وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة "الرحمن " عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد: (فبأي آلاء ربكما تكذبان؟).. كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة " القمر " عقب كل حلقة من حلقات العذاب: (فكيف كان عذابي ونذر؟).. وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة، وطعما مميزا.. حادا..
وتتوالى مقاطع السورة وفواصلها قصيرة سريعة عنيفة، متعددة القوافي. كل مقطع بقافية. ويعود السياق أحيانا إلى بعض القوافي مرة بعد مرة. ويتلقى الحس هذه المقاطع والفواصل والقوافي بلذعها الخاص، وعنفها الخاص. واحدة إثر واحدة. وما يكاد يفيق من إيقاع حتى يعاجله إيقاع آخر، بنفس العنف وبنفس الشدة.
ومنذ بداية السورة والجو عاصف ثائر بمشهد الرياح أو الملائكة: (والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا. والناشرات نشرا فالفارقات فرقا. فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا).. وهو افتتاح يلتئم مع جو السورة وظلها تمام الالتئام.
وللقرآن في هذا الباب طريقة خاصة في اختيار إطار للمشاهد في بعض السور من لون هذه المشاهد وقوتها.. وهذا نموذج منها، كما اختار إطارا من الضحى والليل إذا سجى لمشاهد الرعاية والحنان والإيواء في " سورة الضحى " وإطارا من العاديات الضابحة الصاخبة المثيرة للغبار لمشاهد بعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور في سورة " والعاديات".. وغيرها كثير.
وكل مقطع من مقاطع السورة العشرة بعد هذا المطلع، يمثل جولة أو رحلة في عالم، تتحول السورة معه إلى مساحات عريضة من التأملات والمشاعر والخواطر والتأثرات والاستجابات.. أعرض بكثير جدا من مساحة العبارات والكلمات، وكأنما هذه سهام تشير إلى عوالم شتى!
والجولة الأولى تقع في مشاهد يوم الفصل. وهي تصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض، وهي الموعد الذي تنتهي إليه الرسل بحسابها مع البشر: (فإذا النجوم طمست. وإذا السماء فرجت. وإذا الجبال نسفت. وإذا الرسل أقتت. لأي يوم أجلت؟ ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل؟ ويل يومئذ للمكذبين!).
والجولة الثانية مع مصارع الغابرين، وما تشير إليه من سنن الله في المكذبين: (ألم نهلك الأولين؟ ثم نتبعهم الآخرين؟ كذلك نفعل بالمجرمين. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة الثالثة مع النشأة الأولى وما توحي به من تقدير وتدبير: (ألم نخلقكم من ماء مهين؟ فجعلناه في قرار مكين؟ إلى قدر معلوم؟ فقدرنا فنعم القادرون. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة الرابعة في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتا، وقد جهزت لهم بالاستقرار والماء المحيي: (ألم نجعل الأرض كفاتا؟ أحياء وأمواتا، وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا؟ ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة الخامسة مع المكذبين وما يلقونه يوم الفصل من عذاب وتأنيب: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون. انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب! لا ظليل ولا يغني من اللهب. إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة السادسة والسابعة استطراد مع موقف المكذبين، ومزيد من التأنيب والترذيل: (هذا يوم لا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون. ويل يومئذ للمكذبين! هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين. فإن كان لكم كيد فكيدون. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة الثامنة مع المتقين، وما أعد لهم من نعيم: (إن المتقين في ظلال وعيون، وفواكه مما يشتهون. كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون. إنا كذلك نجزي المحسنين. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة التاسعة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب: (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون. ويل يومئذ للمكذبين!)..
والجولة العاشرة خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التكذيب: (وإذا قيل لهم: اركعوا لا يركعون. ويل يومئذ للمكذبين!).
والخاتمة بعد هذه الجولات والاستعراضات والوخزات والإيقاعات: (فبأي حديث بعده يؤمنون؟)..
وهكذا يمضي القلب مع سياق السورة السريع، وكأنه يلهث مع إيقاعها وصورها ومشاهدها. فأما الحقائق الموضوعية في السورة فقد تكرر ورودها في سور القرآن -والمكية منها بوجه خاص- ولكن الحقائق القرآنية تعرض من جوانب متعددة، وفي أضواء متعددة، وبطعوم ومذاقات متعددة، وفق الحالات النفسية التي تواجهها، ووفق مداخل القلوب وأحوال النفوس التي يعلمها منزل هذا القرآن على رسوله، فتبدو في كل حالةجديدة، لأنها تستجيش في النفس استجابات جديدة.
وفي هذه السورة جدة في مشاهد جهنم. وجدة في مواجهة المكذبين بهذه المشاهد. كما أن هناك جدة في أسلوب العرض والخطاب كله. ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة. حادة الملامح. لاذعة المذاق. لاهثة الإيقاع!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لم ترد لها تسمية صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضاف لفظ سورة إلى جملتها الأولى.
وسميت في عهد الصحابة سورة والمرسلات عرفا، ففي حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية...) الحديث.
وفي الصحيح عن ابن عباس قال قرأت سورة والمرسلات عرفا فسمعتني أم الفضل امرأة العباس فبكت وقالت: بني أذكرتني بقرائتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.
وسميت سورة المرسلات، روى أبو داود عن ابن مسعود كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة ثم قال وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة فجعل هذه الألفاظ بدلا من قوله السورتين وسماها المرسلات لأن الواو التي في كلامه واو العطف مثل أخواتها في كلامه.
واشتهرت في المصاحف باسم المرسلات وكذلك في التفاسير وفي صحيح البخاري.
وذكر الخفاجي وسعد الله الشهير بسعدي في حاشيتيهما على البيضاوي أنها تسمى سورة العرف، ولم يسنداه، ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم...
وهي مكية عند جمهور المفسرين من السلف، وذلك ظاهر حديث ابن مسعود المذكور آنفا، وهو يقتضي أنها من أوائل سور القرآن نزولا لأنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم مختف في غار بمنى مع بعض أصحابه.
وعن ابن عباس وقتادة: أن آية {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} مدنية نزلت في المنافقين، ومحمل ذلك أنه تأويل ممن رواه عنه نظرا إلى أن الكفار الصرحاء لا يؤمرون بالصلاة، وليس في ذلك حجة لكون الآية مدنية فإن الضمير في قوله {وإذا قيل لهم} وارد على طريقة الضمائر قبله وكلها عائدة إلى الكفار وهم المشركون. ومعنى {قيل لهم اركعوا}: كناية عن أن يقال لهم أسلموا، ونظيره قوله تعالى {وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون} فهي في المشركين وقوله {قالوا لم نك من المصلين} إلى قوله {وكنا نكذب بيوم الدين}.
وعن مقاتل نزلت {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} في شأن وفد ثقيف حين أسلموا بعد غزوة هوازن وأتوا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا نجبي فإنها مسبة علينا. فقال لهم: لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود.
وهذا أيضا أضعف، وإذا صح ذلك فإنما أراد مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم الآية...
اشتملت على الاستدلال على وقوع البعث عقب فناء الدنيا ووصف بعض أشراط ذلك.
والاستدلال على إمكان إعادة الخلق بما سبق من خلق الإنسان وخلق الأرض.
ووعد منكريه بعذاب الآخرة ووصف أهواله.
والتعريض بعذاب لهم في الدنيا كما استؤصلت أمم مكذبة من قبل. ومقابلة ذلك بجزاء الكرامة للمؤمنين.
وإعادة الدعوة إلى الإسلام والتصديق بالقرآن لظهور دلائله.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...أكثر محتويات هذه السورة تدور حول المسائل المرتبطة بالقيامة وتهديد وإنذار المشركين والمنكرين، ومن خصائص هذه السورة تكرار الآية: (ويل يومئذ للمكذبين) عشر مرات بعد كل موضوع جديد، وتنبئ السورة بعد ذكر الأقسام عن القيامة والحوادث الثقيلة والصعبة للبعث، ثمّ تذكر عقب ذلك هذه الآية: (ويل يومئذ للمكذبين):
وتتحدث السورة أولاً عن الوقائع المؤسفة للأقوام المذنبين الأوائل.
ثمّ تتحدث ثانياً عن جانب من خصوصيات خلق الإِنسان.
وفي المرحلة الثّالثة عن بعض المواهب الإلهية في الأرض.
وفي الرّابعة تشرح السورة جانباً من عذاب المكذبين، وفي كل من هذه المراحل إشارة إلى مواضيع موقظة ومحركة، ثمّ تأكيد تلك الآية بعد ذكر كلّ موضوع من هذه المواضيع، وحتى أنّه أشار في قسم من ذلك إلى نعم الجنان للمتقين ليمزج الإنذار بالبشارة والترهيب بالترغيب.
على كل حال فإنّ هذا التكرار يذكر بتكرار بعض الآيات في سورة الرحمن باختلاف أنّ الكلام يدور عن النعم، أمّا في السورة فغالباً ما تتحدث عن عذاب المكذبين.
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والمرسلات عرفا} يقول الملائكة، وأرسلوا المعروف.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى قول الله:"وَالمُرْسَلاتِ عُرْفا"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: والرياح المرسلات يتبع بعضها بعضا، قالوا: والمرسَلات: هي الرياح.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والملائكة التي تُرسَل بالعرف.
قالوا: فتأويل الكلام والملائكة التي أرسلت بأمر الله ونهيه، وذلك هو العرف. وقال بعضهم: عُني بقوله "عُرْفا": متتابعا كعرف الفرس، كما قالت العرب: الناس إلى فلان عرف واحد، إذا توجهوا إليه فأكثروا.
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أقسم بالمرسلات عرفا، وقد ترسل عُرْفا الملائكة، وترسل كذلك الرياح، ولا دلالة تدلّ على أن المعنيّ بذلك أحد الحِزْبين دون الآخر، وقد عمّ جلّ ثناؤه بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف، فكلّ من كان صفته كذلك، فداخل في قسمه ذلك مَلَكا أو ريحا أو رسولاً من بني آدم مرسلاً.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {والمرسلات عرفا} {فالعاصفات عصفا} {والناشرات نشرا} {فالفارقات فرقا} {فالملقيات ذكرا} اختلفوا في تأويلها:
فمنهم من حمل تأويل هذا كله على الملائكة، ومنهم من صرفها إلى الرياح ومنهم من صرف البعض إلى الرياح والبعض إلى الملائكة.
وجائز أن يجعل هذا كله في الرياح، ويستقيم أن يصرف كله إلى الملائكة، ويستقيم أن يجعل البعض في الملائكة والبعض في الرياح.
فإن كان في الرياح استقام القسم بها، لأن من الرياح رياحا، هنّ مبشرات برحمته سابقات للنعم إلى عباده كقوله تعالى: {ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته} [الروم: 46].
ومن الرياح رياح، هي منجيات؛ قال الله تعالى: {هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم} [يونس: 22] فجعلها الله تعالى سببا لتسيير السفن في البحار كما جعل الماء سببا لذلك.
وجعل منها مهلكات مذكرات لقوته وسلطانه كما قال عز وجل: {فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم} الآية [الإسراء: 69] فهي تميتهم، وتهلكهم، من غير أن يدركوه بأبصارهم، وإن كانت الأبصار، هي أول ما يقع بها درك الأشياء. ولو أراد أحد أن يعرف الوجه الذي له صارت المنجيات منجيات، أو يعرف الوجه الذي له صارت الرياح مهلكات أو مبشرات لم يقف عليه.
فصارت الرياح مذكرات للنعم. وفي تذكير النعم إيجاب القول بالبعث وبكل ما يخبرهم به الرسل لأنهم كانوا ينكرون البعث، ورأوا فيها من لطائف الحكمة وعجائب التدبير ما لا يبلغها تدبيرهم وحكمتهم، علموا أن الأمر غير مقدر بعقولهم ولا بحكمتهم، فيكون في ذكر ما ذكرنا إزاحة ما اعترض لهم من الشك والشبه في أمر البعث، فأقسم بها، جلّ جلاله، على ما ذكرنا أن القسم جعل لتأكيد ما يقصد إليه باليمين.
فرجعنا إلى قوله تعالى: {والمرسلات عرفا} قيل: هي الرياح المبشرات، سميت {عرفا} لأن ما يأتي به من النعم معروف، وقيل: العرف المتتابع وسمي عرف الفرس عرفا لتتابع بعض الشعر على بعض. فجائز أن يكون منصرفا إلى الرياح المبشرة.
وكذلك قوله تعالى: {عرفا} جائز أن يكون يحمل على الرياح، لكن على الرياح المبشرات، وهي الرياح السهلة الخفيفة، لأن النشر مذكور في رياح الرحمة بقوله: {وهو الذي يرسل الرياح} نشرا {بين يدي رحمته} [الأعراف: 57] في بعض القراءات.
وقوله تعالى: {فالعاصفات عصفا} هي الرياح الشديدة التي تكسر الأشياء، وتقصمها، وهي التي ترسل للإهلاك كقوله تعالى: {فيرسل عليكم قاصفا من الريح} [الإسراء: 69].
وجائز أن يكون قوله تعالى: {والمرسلات عرفا} هي اسم الرياح التي لم يظهر أنها أرسلت للإهلاك أو للتبشير لأن الرياح التي ترسل للرحمة يظهر أثر رحمتها من ساعتها من إرسال السحاب وغير ذلك قبل أن تتتابع. وكذلك الرياح التي هي رياح إهلاك يظهر علم الإهلاك من ساعتها، وهو أن تكون قاصفة شديدة قبل أن تتتابع.
وقوله تعالى: {فالفارقات فرقا} يحتمل الرياح أيضا، وإنما سميت فارقات لأنها تفرق السحاب، فيصير البعض في أفق، والبعض في أفق آخر.
وقوله تعالى: {فالملقيات ذكرا} فجائز أن يصرف إلى الرياح، وإلقاء ذكرها ما ذكرنا أنه يظهر بها النعم، وتتذكر، وتبين بها النجاة، ويقع ببعضها الهلاك. فذلك إلقاء ذكرها، والله أعلم.
وإن صرف الكل إلى الملائكة فيحتمل أيضا؛ فقوله عز وجل: {والمرسلات عرفا} أي الملائكة الذين [أرسلوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله عز وجل: {فالعاصفات عصفا} أي الملائكة الذين] يعصفون أرواح الكفار، أي يأخذونها على شدة وغضب.
وقوله تعالى: {والناشرات نشرا} جائز أن يكون أريد بها النشرة من الملائكة، سمّوا ناشرات لأنهم ينشرون الصحف، ويقرؤونها. وجائز أن يراد بها الملائكة الذين يأخذون أرواح المؤمنين على لين ورفق.
وقوله تعالى: {فالفارقات فرقا} جائز أن يراد بها الملائكة، وسميت فارقات لأنهم يفرقون بين الحق والباطل.
وقوله تعالى: {فالملقيات ذكرا} هم الملائكة الذين يلقون الذكر على ألسن الرسل عليهم السلام.
وإن صرف البعض إلى الملائكة والبعض إلى الرياح فمستقيم أيضا: فتكون المرسلات الذين أرسلوا بالمعروف والخير، والعاصفات الريح الشديدة، والناشرات الرياح الخفيفة السهلة، {فالفارقات فرقا} {فالملقيات ذكرا} هم الملائكة.
ويحتمل وجها آخر: أن يراد بقوله: {والمرسلات} هم الرسل من البشر الذين بعثوا إلى الخلق، فما من رسول بعث إلا وهو مرسل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكذلك جائز أن يراد بقوله تعالى: {فالفارقات فرقا} {فالملقيات ذكرا} هم الرسل لأنهم يفرقون بين الحق والباطل، ويلقون الذكر في مسامع الخلق.
وجائز أن يكون قوله: {والمرسلات عرفا} هي الكتب المنزلة من السماء لأنها أرسلت بالمعروف وكل أنواع الخير، وكذا قوله: {والناشرات نشرا} للحق والهدى، وكذا قوله تعالى: {فالفارقات فرقا} لأنها تفرق بين الحق والباطل أيضا، وكذلك {فالملقيات ذكرا} فإنها سبب لذلك، والله أعلم
واعلم أنك قد عرفت أن المقصود من القسم التنبيه على جلالة المقسم به، وشرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه، أحدها: شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى، كما قال تعالى: {ويفعلون ما يؤمرون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}. وثانيها: أنهم أقسام: فمنهم من يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء، ومنهم من يرسل للزوم بني آدم لكتابة أعمالهم...
القول الثاني: أن المراد من هذه الكلمات الخمس بأسرها الرياح، أقسم الله برياح عذاب أرسلها عرفا أي متتابعة كشعر العرف، كما قال: {يرسل الرياح، وأرسلنا الرياح} ثم إنها تشتد حتى تصير عواصف ورياح رحمة نشرت السحاب في الجو، كما قال: {وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} وقال: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء} ويجوز أيضا أن يقال: الرياح تعين النبات والزرع والشجر على النشور والإنبات...
القول الثالث: من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمسة على القرآن، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن، فقوله: {والمرسلات} المراد منها الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: {عرفا} أي نزلت هذه الآيات بكل عرف وخير وكيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة والموصلة إلى مجامع الخيرات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختمت سورة الإنسان بالوعد لأوليائه والوعيد لأعدائه، وكان الكفار يكذبون بذلك، افتتح هذه بالإقسام على أن ذلك كائن فقال: {والمرسلات} أي من الرياح والملائكة {عرفاً} أي لأجل إلقاء المعروف من القرآن والسنة وغير ذلك من الإحسان، ومن إلقاء الروح والبركة وتيسير الأمور في الأقوات وغيرها، أو حال كونها متتابعة متكاثرة بعضها في أثر بعض.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أقسم تعالى على البعث والجزاء بالأعمال، بالمرسلات عرفا، وهي الملائكة التي يرسلها الله تعالى بشئونه القدرية وتدبير العالم، وبشئونه الشرعية ووحيه إلى رسله.
{عُرْفًا} حال من المرسلات أي: أرسلت بالعرف والحكمة والمصلحة، لا بالنكر والعبث.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا. والناشرات نشرا. فالفارقات فرقا. فالملقيات ذكرا: عذرا أو نذرا.. إن ما توعدون لواقع..
القضية قضية القيامة التي كان يعسر على المشركين تصور وقوعها؛ والتي أكدها لهم القرآن الكريم بشتى الموكدات في مواضع منه شتى. وكانت عنايته بتقرير هذه القضية في عقولهم،، وإقرار حقيقتها في قلوبهم مسألة ضرورة لا بد منها لبناء العقيدة في نفوسهم على أصولها، ثم لتصحيح موازين القيم في حياتهم جميعا. فالاعتقاد باليوم الآخر هو حجر الأساس في العقيدة السماوية، كما أنه حجر الأساس في تصور الحياة الإنسانية. وإليه مرد كل شيء في هذه الحياة، وتصحيح الموازين والقيم في كل شأن من شؤونها جميعا.. ومن ثم اقتضت هذا الجهد الطويل الثابت لتقريرها في القلوب والعقول.
والله سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة على أن هذا الوعد بالآخرة واقع. وصيغة القسم توحي ابتداء بأن ما يقسم الله به هو من مجاهيل الغيب، وقواه المكنونة، المؤثرة في هذا الكون وفي حياة البشر وقد اختلف السلف في حقيقة مدلولها. فقال بعضهم: هي الرياح إطلاقا. وقال بعضهم هي الملائكة إطلاقا. وقال بعضهم: إن بعضها يعني الرياح وبعضها يعني الملائكة.. مما يدل على غموض هذه الألفاظ ومدلولاتها. وهذا الغموض هو أنسب شيء للقسم بها على الأمر الغيبي المكنون في علم الله. وأنه واقع كما أن هذه المدلولات المغيبة واقعة ومؤثرة في حياة البشر.
نحن نلمح أن التهويل بالتجهيل ملحوظ في هذه الأمور المقسم بها كالشأن في الذاريات ذروا. وفي النازعات غرقا.. وأن هذا الخلاف في شأنها دليل على إبهامها. وأن هذا الإبهام عنصر أصيل فيها في موضعها هذا. وأن الإيحاء المجمل في التلويح بها هو أظهر شيء في هذا المقام. وأنها هي بذاتها تحدث هزة شعورية بإيحاء جرسها وتتابع إيقاعها، والظلال المباشرة التي تلقيها. وهذه الانتفاضة والهزة اللتان تحدثهما في النفس هما أليق شيء بموضوع السورة واتجاهها.. وكل مقطع من مقاطع السورة بعد ذلك هو هزة، كالذي يمسك بخناق أحد فيهزه هزا، وهو يستجوبه عن ذنب، أو عن آية ظاهرة ينكرها، ثم يطلقه على الوعيد والتهديد: (ويل يومئذ للمكذبين)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قسَم بِمخلوقات عظيمة دالّةٍ على عظيم علم الله تعالى وقدرته. والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر، وفي تطويل القَسَم تشويقُ السامع لتلقي المقسم عليه. فيجوز أن يَكون المراد بموصوفات هذه الصفات نوعاً واحداً، ويجوز أن يكون نوعين أو أكثر من المخلوقات العظيمة. ومشى صاحب «الكشاف» على أن المقسم بها كلهم ملائكة. ولم يختلف أهل التأويل أن {المُلْقِيات ذِكراً} للملائكة. وقال الجمهور: العاصفات: الرياح ولم يحك الطبري فيه مخالفاً. وقال القرطبي: قيل العاصفات: الملائكة. و {الفارقات} لم يحك الطبري إلاّ أنهم الملائكةُ أو الرسلُ. وحكى القرطبي عن مجاهد: أنها الرياح. وفيما عدا هذه من الصفات اختَلَف المتأوّلون فمنهم من حملوها على أنها الملائكة ومنهم من حمل على أنها الرياح. ف {المرسَلات} قال ابن مسعود وأبو هريرة ومقاتل وأبو صالح والكلبي ومسروق: هي الملائكة. وقال ابن عباس وقتادة: هي الرياح، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضاً ولعله يجيز التأويلين وهو الأوفق بعطفها بالفاء.
و {الناشرات} قال ابن عباس والضحاك وأبو صالح: الملائكة. وقال ابن مسعود ومجاهد: الرياح وهو عن أبي صالح أيضاً.
ويتحصل من هذا أن الله أقسَم بجنسين من مخلوقاته العظيمة مثل قوله: {والسماءِ ذات البروج واليوم الموعود} [البروج: 1، 2]، ومثله تكَرَّر في القرآن.
ويتجه في توزيعها أن الصفات التي عطفت بالفاء تابعة لجنس مَا عطفت هي عليه، والتي عطفت بالواو يترجح أنها صفاتُ جنس آخر.
فالأرجح أن المرسلات والعاصفات صفتان للرياح، وأن ما بعدها صفات للملائكة، والواو الثانية للعطف وليست حرف قَسَم.
ومناسبة الجمع بين هذين الجنسين في القسم أن كليهما من الموجودات العلوية؛ لأن الأصل في العطف بالواو أن يكون المعطوف بها ذاتاً غير المعطوف عليه، وما جاء بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل.
فسر {عُرفاً} بأنه اسمٌ، أي الشعرَ الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ، أي كالعُرف في تتابع البعض لبعض، وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول، أي معرُوف (ضد المنكَر)، وأن نصبه على المفعول لأجله، أي لأجل الإِرشاد والصلاح.