( سورة المرسلات مكية ، وآياتها 50 آية ، نزلت بعد سورة الهمزة )
سورة المرسلات قصيرة الآيات ، عاصفة الملامح ، شديدة الإيقاع ، كأنها سياط لاذعة تلهب صدور المنكرين ، وهي توقف القلب البشري وقفة المحاكمة الرهيبة ، حيث تواجهه بسيل من الاستفهامات والاستذكارات والتهديدات ، تنفذ إليه كالسهام المسنونة .
( وتعرض السورة عددا من المشاهد المتنوعة ، عن الكون وخلق الإنسان ، واليوم الآخر ، وعذاب المجرمين ونعيم المتقين ، وعقب كل مشهد تلفح القلب المذنب لفحة من التهديد والوعيد ، حين تقول : ويل يومئذ للمكذبين . ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة ، وهو لازمة الإيقاع فيها ، وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادة ، ومشاهدها العنيفة ، وإيقاعها الشديد .
وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة الرحمان ، عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد : فبأي آلاء ربكما تكذّبان .
كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة القمر ، عقب كل حلقة من حلقات العذاب : فكيف كان عذابي ونذر . وتكرارها هنا على هذا النحو يعطي السورة سمة خاصة ، وطعما مميزا حادّا )1 .
تبدأ السورة بقسم عاصف ثائر ، بمشهد الرياح أو الملائكة ، يتبعه عشر جولات متتابعة ، تثير في النفس طائفة من التأملات والمشاعر والخواطر ، والتأثرات والاستجابات .
1- فالآيات من ( 8-15 ) تصف مشاهد القيامة ، وتصور الانقلابات الكونية الهائلة في السماء والأرض ، وفي هذا اليوم تنتهي حسابات الرسل مع البشر ، ويتبين الصادق من الكاذب .
2- والآيات من ( 16-19 ) تصف مصارع الغابرين ، وتشير إلى سنن الله في المكذبين ، فكما أهلك قوم نوح بالغرق ، وأهلك أمم عاد وثمود وفرعون ، فهو يفعل ذلك بكل مكذّب برسالات السماء ، وهدي الأنبياء .
3- والآيات من ( 20-24 ) تصف النشأة الأولى ، وما تشير إليه من تقدير وتدبير .
4- والآيات من ( 25-28 ) تصف الأرض التي تضم أبناءها إليها ، أحياء وأمواتا ، وقد جهزت لهم بالاستقرار والجبال والمياه .
5- والآيات ( 29-34 ) تصف حال المكذبين يوم القيامة ، وما يلقونه من تقريع وتأنيب .
6- والآيات من ( 35-37 ) استطراد مع موقف المكذبين ، وبيان ألوان العذاب والهوان الذي يتعرضون له .
7- والآيات من ( 38-40 ) تصف ضعف الإنسان ، وفقدان حيلته أمام الجمع والحشر والحساب والجزاء .
8- والآيات من ( 41-45 ) تصف نعيم المتقين ، وطعامهم وشرابهم وتكريمهم .
9- والآيتان ( 46 ، 47 ) خطفة سريعة مع المكذبين في موقف التأنيب .
10- والآيتان من ( 48-50 ) وصف لحال المكذبين ، وامتناعهم عن الإيمان وعن الاستجابة لآيات القرآن .
وبعض هذه المشاهد قد سبق ذكرها ، وتكرّر ورودها في القرآن الكريم ، وفي السور المكية بوجه خاص ، ولكنها تعرض هنا سريعة أخاذة ، لها رنين وجدة في مشاهد جهنم ، وفي مواجهة المكذبين بهذه المشاهد ، وفي أسلوب العرض والخطاب كله ، ومن ثم تبرز شخصية خاصة للسورة : حادة الملامح ، متنوعة في أساليب الخطاب ، متنقلة من قسم إلى خبر إلى استفهام إلى أمر ، فذلك كلام الله ، ومن أحسن من الله حديثا ؟
1- 7- يقسم الله بطوائف الملائكة ، يرسلها بالمعروف والإحسان ، وأوامره الكريمة ، فتعصف عصف الرياح مسرعة ، وتنشر شرائعه في الأرض ، فتفرق بين الحق والباطل ، ويلقى الملائكة إلى أنبياء الله ذكرا يريد الله تبليغهم إياه ، عذرا للمحقين ، ونذرا للمبطلين ، يقسم الله بهؤلاء الملائكة على أن ما توعدون من مجيء القيامة واقع لا محالة .
وقيل : إن القسم في هذه الآيات بالرياح وآثارها في الكون ، ونشرها السحاب في الأفق .
وقيل إن القسم في الآيات الثلاث الأولى بالرياح متتابعة كعرف الفرس ، فالعاصفات عصفا . الشديدة المهلكة ، والناشرات نشرا . التي تنشر المطر ، فأقسم سبحانه بالرياح النافعة والضارة .
والقسم في الآيات ( 4-6 ) بالملائكة ، فإنها تنزل بأمر الله على الرسل ، تفرق بين الحق والباطل ، وتلقى إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار .
ولعل من إعجاز القرآن أن الآية تشير إلى معنى وتحتمل معنى ، وتستتبع معنى آخر ، ولعل هذا التجهيل والخلاف في مفهوم الآية مقصود لله ، ليكون أثرها أقوى في النفس .
وقد ذكر ابن جرير الطبري تفسير هذه الآيات ، وعند تفسير : والناشرات نشرا . بيّن أن بعض المفسرين قال : هي الرياح ، وبعضهم قال : هي المطر ، وبعضهم قال : هي الملائكة .
ثم عقب الطبري بقوله : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن الله تعالى أقسم بالناشرات نشرا ، ولم يخصص شيئا من ذلك دون شيء ، فالرياح تنشر السحاب ، والمطر ينشر الأرض ، والملائكة تنشر الكتب ، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له على أن المراد من ذلك بعض دون بعض ، فدلّ ذلك على أن المراد بالآية كل ما كان ناشرا . 2 .
8-15- يوم تطمس النجوم فيذهب نورها ، وتفرج السماء ، أي تشق ، وتنسف الجبال فهي هباء ، وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون ، تعرض السورة أمرا مؤجلا ، هو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة والشهادة على الأمم ، والقضاء والفصل بين كل رسول وقومه : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم . . . ( المائدة : 109 ) . وفي هذا اليوم عذاب وخزي لمن كذب بالله ورسله وكتبه ، وبكل ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به .
16-19- تجول هذه الآيات في مصارع الأولين والآخرين ، وفي ضربة واحدة تكشف مصارع الأولين ، من قوم نوح ومن بعدهم ، وتكشف مصارع الآخرين ، ومن لفّ لفهم ، وعلى مد البصر تتبدى المصارع والأشلاء ، فهي سنة الله التي لا تتبدل ، من سيادة الصالحين ، وهلاك المجرمين ، وفي الآخرة هلاك وعذاب شديد للمكذبين .
20- 24- هذه الآيات جولة في الإنشاء والإحياء ، مع التقدير والتدبير ، فهي تصف خلق الإنسان من نطفة مراقة ، تستقر في حرز مكين وهو الرحم ، حيث تصير جنينا مكتملا ، فقدرنا . وقت ولادته . فنعم القادرون . نحن على التدبير وإحكام الصنعة ، وفي الآخرة عذاب شديد للمكذبين بآيات الله وقدرته وحكمته .
25- 28- وهذه الآيات جولة في خصائص الأرض ، وتقدير الله فيها لحياة البشر ، وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة ، ألم نجعل الأرض كفاتا . 3 تحتضن بنيها وتجمعهم . أحياء وأمواتا* وجعلنا فيها رواسي شامخات . . . ثابتات سامقات ، تتجمع على قممها السحب ، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب ، أفيكون هذا إلا عن قدرة وتقدير ، وحكمة وتدبير ؟ أفبعد هذا يكذب المكذبون ؟ ويل يومئذ للمكذبين .
29- 34- تنتقل الآيات إلى وصف مشهد من مشاهد القيامة ، والكفار ينطلقون بعد طول احتباس إلى العذاب الذي كانوا يكذبون به في الدنيا .
إنه انطلاق خير منه الارتهان والاحتباس : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب . وهو دخان جهنم يتشعب لعظمه ثلاث شعب ، وتمتد ألسنته إلى أقسام ثلاثة كلها أشد من بعض ، ولكنه ظل خير منه الوهج : لا ظليل ولا يغني من اللهب . إنه ظل خانق حار لافح ، وتسميته بالظل من باب التهكم والسخرية ، فهو لا يظل من حر ذلك اليوم ، ولا يقي من لهب جهنم . 4 .
إنها ترمي بشرر كالقصر* كأنه جمالات صفر . أي أن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق في جهات كثيرة ، كأنه القصر عظما وارتفاعا ، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة ، وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول ، يجيء التعقيب المعهود : ويل يومئذ للمكذبين .
35-37- هذا يوم لا يتكلمون فيه بحجة نافعة تنقذهم مما هم فيه ، ولو كانت لهم حجة لما عذبوا هذا العذاب ، ولا يؤذن لهم بالاعتذار ولا يقبل منهم ، فالهلاك لمن كذّب بعذاب يوم القيامة .
وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن هذه الآية وعن قوله تعالى : ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون . ( الزمر : 31 ) . فقال : في ذلك اليوم مواقف ، في بعضها يختصمون ، وفي بعضها لا ينطقون ، أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق . 5 . والعرب تقول لمن ذكر ما لا يفيد : ما قلت شيئا .
37- 40- هذا يوم الفصل لا يوم الاعتذار ، وقد جمعناكم والأولين أجمعين ، فإن كان لكم تدبير فدبّروه ، وإن كانت لكم حيلة في دفع العذاب عنكم فاحتالوا لتخليص أنفسكم من العذاب ، وفي هذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا ، وإظهار لعجزهم وقصورهم حينئذ ، فهم في صمت كظيم ، وتأنيب أليم . والويل الشديد في ذلك اليوم للمكذبين بالبعث والجزاء .
41-45- إن المتقين في ظلال حقيقية ، هي ظلال الأشجار على شواطئ الأنهار ، فلا يصيبهم حرّ ولا قرّ ، ويتمتعون بما تشتهيه أنفسهم من الفواكه والمآكل الطيبة ، ومع التكريم الحسي يلقون ألوان التكريم المعنوي ، فيقال لهم على مرأى ومسمع من الجموع : كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . جزاء بما عملتم في الدنيا من طاعة ربكم ، واجتهدتم فيما يقربكم من رضوانه ، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان في الجنة ؟
وبمثل هذا الجزاء نجزي كل الذي يحسنون في أعمالهم وأقوالهم ، وشأنهم الإحسان ، ويقابل هذا النعيم الويل للمكذبين .
40- 47- كلوا وتمتعوا قليلا في هذه الدار بقية أعماركم ، وهي قليلة المدى بالنسبة للآخرة ، وهناك ستحرمون وتعذبون طويلا : ويل يومئذ للمكذبين .
48- 50- وإذا قيل لهؤلاء المكذبين : اعبدوا الله وأطيعوه ، لا يستجيبون ولا يمتثلون ، ويل يومئذ للمكذبين . بأوامر الله ونواهيه . فبأي حديث بعده يؤمنون . أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها ، فبأي كلام بعد هذا يصدقون ؟ والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهز الرواسي ، وبهذه الهزات التي تزلزل الجبال ، لا يؤمن بحديث بعده أبدا ، إنما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس ، والويل المدّخر لهذا الشقي المتعوس .
إن هذه السورة ببنائها التعبيري ، وإيقاعها الموسيقي ، ومشاهدها العنيفة ، ولذعها الحاد ، حملة لا يثبت لها كيان ، ولا يتماسك أمامها إنسان ، فسبحان الذي نزّل القرآن وأودعه ذلك السلطان .
من مقاصد سورة المرسلات ما يأتي :
1- القسم بالملائكة على أن البعث حق ، وأن القيامة آتية .
2- الإخبار عن هلاك القرون الماضية ، ووعيد المكذبين بنفس المصير .
3- المنّة على الخلائق بنعمة الخلق والتكوين ، وسائر النعم في الأنفس والآفاق .
4- وصف عذاب المكذبين بما تشيب من هوله الولدان .
5- وصف نعيم المتقين وما يلقونه من الكرامة في جنات النعيم ، وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته .
{ والمرسلات عرفا 1 فالعاصفات عصفا 2 والنّاشرات نشرا 3 فالفارقات فرقا 4 فالملقيات ذكرا 5 عذرا أو نذرا 6 إنما ما توعدون لواقع 7 فإذا النجوم طمست 8 وإإذا السماء فرجت 9 وإذا الجبال نسفت 10 وإذا الرسل أقّتت 11 لأيّ يوم أجّلت 12 ليوم الفصل 13 وما أرداك ما يوم الفصل 14 ويل يومئذ للمكذبين 15 }
المرسلات : الملائكة الذين أرسلهم الله لإيصال النعمة إلى قوم ، والنقمة إلى آخرين ، وقيل : الريح .
عرفا : متتابعة بعضها في إثر بعض كعرف الديك ، وقيل : عرفا للمعروف والإحسان .
فالعاصفات : الريح الشديدة ، أو المبعدات للباطل .
الناشرات نشرا : الملائكة الناشرات لأجنحتها ، عند نزولها إلى الأرض .
1 ، 2 ، 3- والمرسلات عرفا* فالعاصفات عصفا* والنّاشرات نشرا .
تعدّدت الآراء في المراد بالقسم في صدر سورة المرسلات ، وأهم الآراء أربعة :
الثالث : طوائف الأنبياء الذين أرسلوا بالوحي المحقق لكل خير .
الرابع : أقسم في الآيات الثلاث الأولى الرياح ، وفي الآيات التالية بالملائكة .
والمعنى على أن المقصود بالآيات الثلاث الأولى الرياح كالآتي :
أقسم بالرياح المرسلة متتابعة كعرف الفرس ، إذا ذهبت شيئا فشيئا ، وبالرياح التي ترسل عاصفة لما أمرت به من نعمة ونقمة .
قال تعالى : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها . . . ( الأنبياء : 81 ) .
كما ترسل الريح للعذاب ، قال تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا . . . ( فصلت : 16 ) .
وأقسم بالرياح التي تنشر السحاب ، وتفرّقه في آفاق السماء ، كما يشاء الرب عز وجل .