قوله تعالى : { قالت رسلهم أفي الله شك } ، هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه ، { فاطر السموات والأرض } ، خالقها ، { يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم } ، أي : ذنوبكم و{ من } صلة ، { ويؤخركم إلى أجل مسمىً } ، إلى حين استيفاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب . { قالوا } ، للرسل : { إن أنتم إلا بشر مثلنا } ، في الصورة ، ولستم ملائكة وإنما ، { تريدون } ، بقولكم ، { أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } ، حجة بينة على صحة دعواكم .
يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة ، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له ، قالت الرسل : { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ }
وهذا يحتمل شيئين ، أحدهما : أفي وجوده شك ، فإن الفطر شاهدة بوجوده ، ومجبولة على الإقرار به ، فإن الاعتراف به ضروري في الفطَر السليمة ، ولكن قد يعرض{[15771]} لبعضها شك واضطراب ، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ؛ ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } الذي خلقها وابتدعها على غير مثال سبق ، فإن شواهد الحدوث{[15772]} والخلق والتسخير ظاهر عليها ، فلا بد لها من صانع ، وهو الله لا إله إلا هو ، خالق كل شيء وإلهه ومليكه .
والمعنى الثاني في قولهم : { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } أي : أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك ، وهو الخالق لجميع الموجودات ، ولا{[15773]} يستحق العبادة إلا هو ، وحده لا شريك له ؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد{[15774]} معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى .
وقالت لهم الرسل : ندعوكم{[15775]} ليغفر لكم من ذنوبكم ، أي : في الدار الآخرة ، { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : في الدنيا ، كما قال تعالى : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } الآية [ هود : 3 ] ، فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة ، بعد تقدير تسليمهم للمقام الأول ، وحاصل ما قالوه : { إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا } أي : كيف نتبعكم بمجرد قولكم ، ولما نر منكم معجزة ؟ { فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : خارق نقترحه عليكم .
قوله : { أفي الله } مقدر فيه ضمير تقديره عند كثير من النحويين أفي إلوهية الله شك ؟ وقال أبو علي الفارسي : تقديره : أفي وحدانية الله شك ؟ .
قال القاضي أبو محمد : وزعم بعض الناس : أن أبا علي إنما فزع إلى هذه العبارة حفظاً للاعتزال وزوالاً عما تحتمله لفظة الألوهية من الصفات بحسب عمومها ، ولفظة الوحدانية مخلصة من هذا الاحتمال .
و «الفاطر » المخترع المبتدي ، وسوق هذه الصفة احتجاج على الشاكين يبين التوبيخ ، أي أيشك فيمن هذه صفته ؟ فساق الصفة التي هي منصوبة لرفع الشك .
وقوله : { من ذنوبكم } ذهب بعض النحاة{[7021]} إلى أنها زائدة ، وسيبويه يأبى أن تكون زائدة ويراها للتبعيض .
قال القاضي أبو محمد : وهو معنى صحيح ، وذلك أن الوعد وقع بغفران الشرك وما معه من المعاصي ، وبقي ما يستأنفه أحدهم بعد إيمانه من المعاصي مسكوتاً ليبقى معه في مشيئة الله تعالى ، فالغفران إنما نفذ به الوعد في البعض ، فصح معنى { من }{[7022]} .
وقوله : { ويؤخركم إلى أجل مسمى } قد تقدم القول فيه في سورة الأعراف ، في قوله : { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } {[7023]}[ الأعراف : 34 ] وجلبت هذه هناك بسبب ما يظهر بين الآيتين من التعارض . ويليق هنا أن نذكر مسألة المقتول : هل قطع أجله أم ذلك هو أجله المحتوم عليه ؟ .
فالأول هو قول المعتزلة ، والثاني قول أهل السنة .
فتقول المعتزلة : لو لم يقتله لعاش ، وهذا سبب القود .
وقالت فرقة من أهل السنة ، لو لم يقتله لمات حتف أنفه .
قال أبو المعالي : وهذا كله تخبط ، وإنما هو أجله الذي سبق في القضاء أنه يموت فيه على تلك الصفة ، فمحال أن يقع غير ذلك ، فإن فرضنا أنه لو لم يقتله وفرضنا مع ذلك أن علم الله سبق بأنه لا يقتله ، بقي أمره في حيز الجواز في أن يعيش أو يقتل ، وكيفما كان علم الله تعالى يسبق فيه .
وقول الكفرة { إن أنتم إلا بشر مثلنا } فيه استبعاد بعثة البشر ، وقال بعض الناس : بل أرادوا إحالته ، وذهبوا مذهب البراهمة{[7024]} أو من يقول من الفلاسفة : إن الأجناس لا يقع فيها هذا التباين .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض ، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم الإتيان بآية ، و { سلطان مبين } ، ولو كانت بعثتهم عندهم محالاً لما طلبوا منهم حجة ، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز ، أي بعثتكم محال وإلا { فأتونا بسلطان مبين } ، أي إنكم لا تفعلون ذلك أبداً ، فيتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة .
{ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } .
استفهام إنكاري . ومورد الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله ، فقدم متعلق الشك للاهتمام به ، ولو قال : أشك في الله ، لم يكن له هذا الوقع ، مثل قول القطامي :
أكفرا بعد رد الموت عني *** وبعدَ عطائك المائةَ الرتاعا
فكان أبلغ له لو أمكنه أن يقول : أبعد رد الموت عني كفرٌ .
وعلق اسم الجلالة بالشك ، والاسم العَلَم يدلّ على الذات . والمراد إنكار وقوع الشك في أهم الصفات الإلهية وهي صفة التفرد بالإلهية ، أي صفة الوحدانية .
وأتبع اسم الجلالة بالوصف الدالّ على وجوده وهو وجود السماوات والأرض الدالُّ على أن لهما خالقاً حكيماً لاستحالة صدور تلك المخلوقات العجيبة المنظمة عن غير فاعللٍ مختار ، وذلك معلوم بأدنى تأمل ، وذلك تأييد لإنكار وقوع الشك في انفراده بالإلهية لأن انفراده بالخلق يقتضي انفراده باستحقاقه عبادة مخلوقاته .
وجملة { يدعوكم } حال من اسم الجلالة ، أي يدعوكم أن تنبذوا الكفر ليغفر لكم ما أسلفتم من الشرك ويدفع عنكم عذاب الاستئصال فيؤخّركم في الحياة إلى أجل معتاد .
والدعاء : حقيقته النداء . فأطلق على الأمر والإرشاد مجازاً لأن الآمر ينادي المأمور .
ويعدى فعل الدعاء إلى الشيء المدعو إليه بحرف الانتهاء غالباً وهو { إلى } ، نحو قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون { ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار } [ سورة غافر : 41 ] .
وقد يعدّى بلام التعليل داخلةً على ما جُعل سبباً للدعوة فإن العلة تدل على المعلول ، كقوله تعالى : { وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم } [ سورة نوح : 7 ] ، أي دعوتهم إلى سبب المغفرة لتغفر ، أي دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم ، وهو في هذه الآية كذلك ، أي يدعوكم إلى التوحيد ليغفر لكم من ذنوبكم .
وقد يعدى فعل الدعوة إلى المدعو إليه باللام تنزيلاً للشيء الذي يُدعى إلى الوصول إليه منزلة الشيء الذي لأجله يدعى ، كقول أعرابي من بني أسد :
دعَوْتُ لِمَا نَابني مِسْورَا *** فلبّى فلبيْ يديْ مسور
{ قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بسلطان مُّبِينٍ } .
أرادوا إفحام الرسل بقطع المجادلة النظرية ، فنفوا اختصاص الرسل بشيء زائد في صورتهم البشرية يُعلم به أن الله اصطفاهم دون غيرهم بأن جعلهم رسلاً عنه ، وهؤلاء الأقوام يحسبون أن هذا أقطع لحجة الرسل لأن المماثلة بينهم وبين قومهم محسوسة لا تحتاج إلى تطويل في الاحتجاج ، فلذلك طالبوا رسلهم أن يأتوا بحجة محسوسة تثبت أن الله اختارهم للرسالة عنه ، وحسبانهم بذلك التعجيز .
فجملة { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } في موضع الحال ، وهي قيد لما دل عليه الحصر في جملة { إن أنتم إلا بشر مثلنا } من جحد كونهم رسلاً من الله بالدّين الذي جاءوهم به مخالفاً لدينهم القديم ، فبذلك الاعتبار كان موقع التفريع لجملة { فأتونا بسلطان مبين } لأن مجرّد كونهم بشراً لا يقتضي مطالبتهم بالإتيان بسلطان مبين وإنما اقتضاه أنهم جاءوهم بإبطال دين قومهم ، وهو مضمون ما أرسلوا به .
وقد عبّروا عن دينهم بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التنويه بدينهم بأنه متقلَّد آبائهم الذين يحسبونهم معصومين من اتباع الباطل ، وللأمم تقديس لأسلافها فلذلك عدلوا عن أن يقولوا : تريدون أن تصدّونا عن ديننا .
والسلطان : الحجة . وقد تقدّم في قوله : { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان } في سورة الأعراف ( 71 ) .