قوله تعالى :{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض } قال الكلبي ، ومقاتل : استكباراً عن الإيمان ، وقال عطاء : علواً واستطالة على الناس وتهاوناً بهم . وقال الحسن : لم يطلبوا الشرف والعز عند ذي سلطانها . وعن علي رضي الله عنه : أنها نزلت في أهل التواضع من الولاة وأهل القدرة ، { ولا فساداً } قال الكلبي : هو الدعاء إلى عبادة غير الله . وقال عكرمة : أخذ أموال الناس بغير حق . وقال ابن جريج ومقاتل : العمل بالمعاصي . { والعاقبة للمتقين } أي : العاقبة المحمودة لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب معاصيه . قال قتادة : الجنة للمتقين .
يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين ، الذين لا يريدون علوًّا في الأرض ، أي : ترفعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبرًا بهم ، ولا فسادًا فيهم . كما قال عكرمة : العلو : التجبر .
وقال سعيد بن جبير : العلو : البغي .
وقال سفيان بن سعيد الثوري ، عن منصور ، عن مسلم{[22447]} البطين : العلو في الأرض : التكبر بغير حق . والفساد : أخذ المال بغير حق .
وقال ابن جُرَيْج : { لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ } تعظمًا وتجبرًا{[22448]} ، { وَلا فَسَادًا } : عملا بالمعاصي .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن أشعث السمان{[22449]} ، عن أبى سلام الأعرج ، عن علي قال : إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك صاحبه ، فيدخل{[22450]} في قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } .
وهذا محمول على ما إذا أراد [ بذلك ]{[22451]} الفخر [ والتطاول ]{[22452]} على غيره ؛ فإن ذلك مذموم ، كما ثبت في الصحيح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه قال ]{[22453]} إنه أوحي إليّ أن تواضَعُوا ، حتى لا يفخَرَ أحد على أحد ، ولا يبغي أحد على أحد " {[22454]} ، وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمّل فهذا لا بأس به ، فقد ثبت أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني أحب أن يكون ردائي حسنًا ونعلي حسنة ، أفمن الكبر ذلك ؟ فقال : " لا ، إن الله جميل يحبّ الجمال " .
هذا إخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يراد به إخبار جميع العالم وحضهم على السعي بحسب ما تضمنته الآية ، وهذا الحض يتضمن الإنحاء على حال قارون ونظرائه ، والمعنى أن الآخرة ليست في شيء من أمر قارون إنما هي لمن صفته كذا وكذا ، و «العلو » المذموم هو بالظلم والانتحاء والتجبر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم «وذلك أن تريد أن يكون شراك نعلك أفضل من شراك نعل أخيك »{[9194]} ، و «الفساد » يعم وجوه الشر ، ومما قال العلماء هو أخذ المال بغير حق { والعاقبة للمتقين } ، خير منفصل جزم معناه إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة ولا بد .
انتهت قصة قارون بما فيها من العبر من خير وشر ، فأعقبت باستئناف كلام عن الجزاء على الخير وضده في الحياة الأبدية وأنها معدة للذين حالهم بضد حال قارون ، مع مناسبة ذكر الجنة بعنوان الدار لذكر الخسف بدار قارون للمقابلة بين دار زائلة ودار خالدة .
وابتدىء الكلام بابتداء مشوق وهو اسم الإشارة إلى غير مذكور من قبل ليَسْتَشْرِف السامع إلى معرفة المشار إليه فيعقبه بيانه بالاسم المعرف باللام الواقع بياناً أو بدلاً من اسم الإشارة كما في قول عبيدة بن الأبرص :
تلك عِرسي غَضْبَى تريد زِيالي *** ألِبَيْنٍ تريدُ أم لدَلالِ . .
وجملة { نجعلها } هو خبر المبتدأ وكاف الخطاف الذي في اسم الإشارة غير مراد به مخاطب معيّن موجّه إلى كل سامع من قراء القرآن . ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود تبليغه إلى الأمة شأن جميع آي القرآن .
و { الدار } : محل السكنى ، كقوله تعالى { لهم دار السلام عند ربهم } في الأنعام ( 127 ) . وأما إطلاق الدار على جهنم في قوله تعالى { وأحَلُّوا قومَهم دارَ البَوَار } [ إبراهيم : 28 ] فهو تهكّم كقول أبي الغُول الطَهَوي :
ولا يَرْعَوْن أكناف الهُوَيْنَا *** إذا نزلوا ولا روضَ الهُدون
فاستعمال الروض للهدون تهكُّم لأن المقام مقام تعريض .
و { الآخرة } : مراد به الدائمة ، أي التي لا دار بعدها ، فاللفظ مستعمل في صريح معناه وكنايته .
ومعنى جعلها لهم أنها محضرة لأجلهم ليس لهم غيرها . وأما من عداهم فلهم أحوال ذات مراتب أفصحت عنها آيات أخرى وأخبار نبوية فإن أحكام الدين لا يقتصر في استنباطها على لوك كلمة واحدة .
وعن الفضيل بن عياض أنه قرأ هذه الآية ثم قال : ذهبتْ الأماني ههنا ، أي أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء وأن المؤمنين كلهم ناجون من العقاب ، وهذا قول المرجئة قال قائلهم :
كُن مسلماً ومن الذنوب فلا تخف *** حاشا المهيمن أن يُري تنكيدا
لو شاء أن يُصليك نار جهنم *** ما كان ألْهَم قلبَك التوحيدا
ومعنى { لا يريدون } كناية عن : لا يفعلون ، لأن من لا يريد الفعل لا يفعله إلا مكرهاً . وهذا من باب { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } كما تقدم في أول هذه السورة ( 5 ) .
والعُلوّ : التكبر عن الحق وعلى الخلق ، والطغيان في الأعمال ، والفساد : ضد الصلاح ، وهو كل فعل مذموم في الشريعة أو لدى أهل العقول الراجحة .
وقوله { والعاقبة للمتقين } تذييل وهو معطوف على جملة { تلك الدار } وبه صارت جملة { تلك الدار } كلها تذييلاً لما اشتملت عليه من إثبات الحكم للعام بالموصول من قوله { للذين لا يريدون علواً في الأرض } والمعرف بلام الاستغراق .
و { العاقبة } : وصف عومل معاملة الأسماء لكثرة الوصف به وهي الحالة الآخرة بعد حالة سابقة وغلب إطلاقها على عاقبة الخير . وتقدم عند قوله تعالى { ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } في [ الأنعام : 11 ]