فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ} (83)

{ تلك } التي سمعت بخبرها ، وبلغك شأنها { الدار الآخرة } أي : الجنة والإشارة إليها القصد التعظيم لها ، والتفخيم لشأنها { نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض } أي : رفعة وتكبرا على المؤمنين ، وقيل : ظلما ، وقيل : استطالة على الناس ، وتهاونا بهم بالبغي .

{ ولا فسادا } أي عملا بمعاصي الله سبحانه فيها ، كقتل النفس ، والزنا ، والسرقة وشرب الخمر أو دعاء إلى عبادة لغير الله . ولم يعق الموعد بترك العلو والفساد ، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما ، كما قال : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ، فعلق الوعيد بالركون .

وعن عمر بن عبد العزيز : أنه كان يرددها حتى قبض . وقال بعضهم : حقيقته التنفير عن متابعة فرعون وقارون متشبثا بقوله : إن فرعون علا في الأرض ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، وذكر الفساد والعلو منكّرين في حيز النفي يدل على شمولها لكل ما يطلق عليه أنه فساد ، وأنه علو من غير تخصيص بنوع خاص ، أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شيء منه كائنا ما كان وأما العلو فالممنوع منه ما كان على طريقة التكبر على الغير والتطاول على الناس ؛ وليس منه طلب العلو في الحق والرياسة في الدين ولا محبة اللباس الحسن ، والمركوب الحسن ، والمنزل الحسن .

عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية قال : " التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق " ، أخرجه المحاملي والديلمي ، وروى مثله عن مسلم البطين ، وابن جرير ، وعكرمة . وقال سعيد بن جبير بغيا في الأرض . وعن الحسن قال : هو الشرف والعلو عند ذوي سلطانهم . وأقول : إن كان للتقوى به على الحق فهو من خصال الخير لا من خصال الشر . وعن علي ابن أبي طالب قال : إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية .

قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره هذه الرواية عن علي : وهذا محمول على من أحب ذلك لا بمجرد التجمل . فهذا لا بأس به ، فقد ثبت أن رجلا قال : يا رسول الله إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ، ونعلي حسنة ، أفمن الكبر ذلك ؟ قال : " لا ، إن الله جميل يحب الجمال " .

وعن علي بن أبي طالب قال : نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة ، وأهل من سائر الناس ، وعن ابن عباس مثله .

وعن عدي بن حاتم قال : لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض فقال : " أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا فأسلم "

أخرجه ابن مردويه .

{ والعاقبة } المحمودة { للمتقين } أي لمن اتقى عقاب الله بأداء أوامره واجتناب نواهيه ، وقيل : عاقبة المتقين الجنة .