الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ} (83)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{تلك الدار الآخرة} يعني: الجنة {نجعلها للذين لا يريدون علوا} يعني: تعظما {في الأرض} عن الإيمان بالتوحيد، {ولا فسادا} يقول: ولا يريدون فيها عملا بالمعاصي، {والعاقبة} في الآخرة {للمتقين} من الشرك في الدنيا.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"تلك الدار الآخرة" نجعل نعيمها للذين لا يريدون تكبرا عن الحقّ في الأرض وتجبرا عنه "ولا فسادا". يقول: ولا ظلم الناس بغير حقّ، وعملاً بمعاصي الله فيها...

وقوله: "وَالعاقِبَةُ للْمُتّقِينَ "يقول تعالى ذكره: والجنة للمتقين، وهم الذين اتقوا معاصي الله، وأدّوا فرائضه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

في ظاهر الآية أن كل من لا يريد العلو في هذه الدنيا ولا الفساد فيها يكون من أهل تلك الدار، وكذلك ما ذكر من دار الآخرة، وجهنم من دار الآخرة أيضا. لكن الآية تخرج على وجهين:

أحدهما: كأنها نزلت في رؤساء الكفرة، وفراعينهم هم الذين كانوا يريدون العلو في هذه الدنيا بالتكبر والتجبر على الرسل، والفساد فيها في صرف الناس عن دين الله... والثاني: تكون الآية في الذين كانوا يعملون بالخيرات والطاعات منهم من نحو صلة الأرحام والصدقة على الفقراء والإنفاق في ذلك. فأخبر أنهم، وإن كانوا يعملون بتلك الأعمال، فإنما يعملون للدنيا والعلو فيها لا للآخرة. فتلك الدار الآخرة ليست لهم. إنما هي للذين يعملون، ويريدون بأعمالهم الدار الآخرة. وقوله تعالى: {تلك الدار الآخرة} كأنه يقول: تلك الدار التي دُعوا إليها ليست لمن ذكر وإنما هي الدار التي قال الله تعالى: {والله يدعوا إلى دار السلام} [يونس: 25] فالدار الآخرة، هي الدار التي دُعوا إليها، وهي الجنة.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وإنما قبح طلب العلو في الأرض، لأنه ركون إليها، وترك لطلب العلو في الآخرة، ومعاملة لها بخلاف ما أراده الله بها من أن تكون دار ارتحال لا دار مقام فيها.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{تِلْكَ} تعظيم لها وتفخيم لشأنها، يعني: تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها. لم يعلق الموعد بترك العلو والفساد، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما، كما قال: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ} [هود: 113] فعلق الوعيد بالركون.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذا إخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يراد به إخبار جميع العالم وحضهم على السعي بحسب ما تضمنته الآية، وهذا الحض يتضمن الإنحاء على حال قارون ونظرائه، والمعنى أن الآخرة ليست في شيء من أمر قارون إنما هي لمن صفته كذا وكذا، و «العلو» المذموم هو بالظلم والانتحاء والتجبر[...]، و «الفساد» يعم وجوه الشر، ومما قال العلماء هو أخذ المال بغير حق {والعاقبة للمتقين}، [خبر] منفصل جزم معناه إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة ولابد.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

لما كان من قول أهل العلم والإيمان ثواب الله خير، ذكر محل الثواب، وهو الدار الآخرة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان المقصود الأعظم طهارة القلب الذي عنه ينشأ عمل الجوارح، قال: {لا يريدون} ولم يقل يتعاطون -مثلاً، تعظيماً لضرر الفساد بالتنفير من كل ما كان منه [بسبب]، إعلاماً بأن النفوس ميالة إليه نزاعة له فمهما رتعت قريباً منه اقتحمته لا محالة {علواً} أي شيئاً من العلو {في الأرض} فإنه أعظم جارّ إلى الفساد، وإذا أرادوا شيئاً من ذلك فيما يظهر لك عند أمرهم بمعروف أو نهيهم عن منكر، كان مقصودهم به علو كلمة الله للإمامة في الدين لا علوهم {ولا فساداً} بعمل ما يكره الله، بل يكونون على ضد ما كان فيه فرعون وهامان وقارون، من التواضع مع الإمامة لأجل حمل الدين عنهم ليكون لهم مثل أجر من اهتدى بهم، لا لحظ دنيوي، وعلامة العلو لأجل الإمامة لا الفساد ألا يتخذوا عباد الله خولاً، ولا مال الله دولاً، والضابط العمل بما يرضي الله والتعظيم لأمر الله والعزوف عن الدنيا...

ولما كان هذا شرح حال الخائفين من جلال الله تعالى، أخبر سبحانه أنه دائماً يجعل ظفرهم آخراً، فقال معبراً بالاسمية دلالة على الثبات: {والعاقبة} أي الحالة الأخيرة التي تعقب جميع الحالات لهم في الدنيا والآخرة، هكذا الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وإعلاماً بالوصف الذي أثمر لهم ذلك فقال تعالى: {للمتقين} أي دائماً في كلا الدارين، لا عليهم فمن اللام يعرف أنها محمودة، وهذه الآيةِ يُعْرَف أهل الآخرة من أهل الدنيا، فمن كان زاهداً في الأولى مجتهداً في الصلاح، وكان ممتحناً في أول أحواله مظفراً في مآله، فهو من أبناء الآخرة، وإلا فهو للدنيا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا).. فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم؛ ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها. إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله، ومنهجه في الحياة. أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابا. ولا يبغون فيها كذلك فسادا. أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة. تلك الدار العالية السامية.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتهت قصة قارون بما فيها من العبر من خير وشر، فأعقبت باستئناف كلام عن الجزاء على الخير وضده في الحياة الأبدية وأنها معدة للذين حالهم بضد حال قارون، مع مناسبة ذكر الجنة بعنوان الدار لذكر الخسف بدار قارون للمقابلة بين دار زائلة ودار خالدة...

وجملة {نجعلها} هو خبر المبتدأ وكاف الخطاف الذي في اسم الإشارة غير مراد به مخاطب معيّن موجّه إلى كل سامع من قراء القرآن. ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود تبليغه إلى الأمة شأن جميع آي القرآن. و {الدار}: محل السكنى، كقوله تعالى {لهم دار السلام عند ربهم} في الأنعام (127)...

و {الآخرة}: مراد به الدائمة، أي التي لا دار بعدها، فاللفظ مستعمل في صريح معناه وكنايته...

ومعنى جعلها لهم أنها محضرة لأجلهم ليس لهم غيرها. وأما من عداهم فلهم أحوال ذات مراتب أفصحت عنها آيات أخرى وأخبار نبوية فإن أحكام الدين لا يقتصر في استنباطها على لوك كلمة واحدة...

ومعنى {لا يريدون} كناية عن: لا يفعلون، لأن من لا يريد الفعل لا يفعله إلا مكرهاً.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

انتقل كتاب الله إلى تقرير حقيقة عامة تشملهما وتشمل كل من سلك مسلكهما وكان على شاكلتهما من الطغاة المفسدين، وعتاة المترفين، مبينا أن من لم يعمل على إقامة العدل بين الناس، ونشر الصلاح في مجتمعاتهم، لن يكون له أدنى حظ من النعيم المقيم في دار الخلود، لأنه خان أمانة الخلافة عن الله في الأرض، وقابل نعمة الله بالكفران والجحود، وذلك قوله تعالى في إيجاز وإعجاز: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}. وتقوى الله هي الحاجز الحصين من الوقوع في شرك الفساد، وهي الدواء الناجع لعقدة الاستعلاء والاستبداد.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

لأنه لا يصح أن يعلو الإنسان على بني جنسه، ولا على بيئته إلا بشيء ذاتي فيه، فلا يصح أن يعلو بقوته؛ لأنه قد يمرض، فيصير إلى الضعف، ولا بماله لأنه قد يسلب منه. إذن: إياك أن تعلو على غيرك بشيء موهوب لك، إن أردت فبشيء ذاتي فيك، وليس فيك شيء ذاتي، فلست أفضل من أحد حتى تعلو عليه، كما أن الدنيا أغيار، وربما انتقل ما عندك إليهم، فهل يسرك إن صار غيرك غنيا أو قويا أن يتعالى عليك؟ ثم أنت لا تستطيع العلو إلا بالاعتماد على قوة أعلى منك تسندك، وجرب بنفسك وحاول أن تقفز إلى أعلى كلاعب السيرك، ثم أمسك نفسك في هذا العلو، وطبعا لن تستطيع، لماذا؟ لأنه لا ذاتية لك في العلو. وما دام الأمر كذلك، فإياك أن تعلو؛ لأنك بعلوك تحفظ الآخرين؛ فإن حصل لك العكس شتموا فيك، وأيضا لأن الإنسان لا يعلو في بيئة ولا في مكان إلا إذا رأى كل من حوله دونه، حين ترى أن كل الناس دونك فأنت لم تتنبه إلى أسرار فضل الله في خلقه. ولو تأملت لوجدت في كل منهم خصلة ليست عندك، ولو قدرت أن الناس جميعا عيال الله وخلقه، ليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة ونحن جميعا عنده تعالى سواء، وقد وزع المواهب بيننا جميعا بالتساوي، وبالتالي لا يمتاز أحد على أحد، فلم التعالي إذن؟ ولم الكبر؟ وأيضا الذي يتعالى لا يتعالى إلا في غفلة منه عن ملاحظة كبرياء ربه، وإلا فالذي يستحضر عظمة ربه وكبرياءه لابد له أن يتواضع، وأن يتضاءل أمام كبريائه تعالى، وأن يستحي أن يتكبر على خلقه...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وإذا كانت الآية تتحدث عن الإرادة كحالةٍ داخليةٍ في شخصية الإنسان، فليس المقصود بها الجانب الداخلي في ذاته، كما لو كان معنىً في النفس أو شعوراً في الوجدان، بل المقصود بها والله العالم الانعكاس الخارجي للحالة، باعتبار أن كل ما في الداخل يظهر في الخارج، وأن المشروع العمليّ يبدأ فكرةً، ثم يتحول إلى واقعٍ، من خلال الرغبة في وصوله إلى درجة الفعل، وهكذا يكون التعبير بذلك عن المتكبرين الذين يتحركون في حكمهم وعلاقاتهم من موقع الحالة الاستكبارية التي تحتقر الناس، والذين يسخِّرون الحياة كلها، في ما تملكه من مقدراتها، لخدمة أهدافهم الشخصية.