قوله تعالى : { فكذبوه } يعني : كذبوا نوحًا .
قوله تعالى : { فأنجيناه } من الطوفان .
قوله تعالى : { والذين معه في الفلك } ، في السفينة .
قوله تعالى : { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين } أي : كفارًا ، قال ابن عباس رضي الله عنه : عميت قلوبهم عن معرفة الله . قال الزجاج عموا عن الحق والإيمان ، يقال رجل عم عن الحق ، وأعمى في البصر . وقيل : العمي والأعمى ، كالخضر والأخضر ، قال مقاتل : عموا عن نزول العذاب وهو الغرق .
قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } أي : فتمادوا{[11855]} على تكذيبه ومخالفته ، وما آمن معه منهم إلا قليل ، كما نص عليه في موضع آخر ، { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } وهي السفينة ، كما قال : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } [ العنكبوت : 15 ] { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } كما قال : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [ نوح : 25 ]
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ } أي : عن الحق ، لا يبصرونه ولا يهتدون له .
فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه ، وأنجى رسوله والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم من الكافرين ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ] وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ{[11856]} } [ غافر : 51 ، 52 ]
وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة ، أن العاقبة{[11857]} للمتقين والظفر والغلب لهم ، كما أهلك قوم نوح [ عليه االسلام ]{[11858]} بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين .
قال مالك ، عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح [ عليه السلام ]{[11859]} إلا والأرض ملأى بهم ، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز .
وقال ابن وَهْب : بلغني عن ابن عباس : أنه نجا مع نوح [ عليه السلام ]{[11860]} في السفينة ثمانون رجلا أحدهم " جُرْهم " ، وكان لسانه عربيا .
رواهن{[11861]} ابن أبي حاتم . وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس ، رضي الله عنهما .
{ فكذبوه فأنجيناه والذين معه } وهم من آمن به وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة . وقيل تسعة بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به . { في الفلك } متعلق بمعه أو بأنجيناه ، أو حال من الموصول أو من الضمير في معه . { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } بالطوفان . { إنهم كانوا قوما عمين } عمي القلوب غير مستبصرين ، وأصله عميين فخفف وقرئ " عامين " والأول أبلغ لدلالته على الثبات .
وقوله : { فكذبوه } الآية ، أخبر الله عنهم أنهم بعد تلطفه بهم كذبوه فأنجاه الله والمؤمنين به في السفينة وهي الفلك ، و { الفلك } لفظ واحد للجمع والمفرد ، وليس على حد ُجُنب ونحوه ، لكن فلك للواحد كسر على فُلك للجميع فضمة الفاء في الواحد ليست هي في الجمع وفعل بناء تكسير مثل أسد وأسد ، ويدل على ذلك قولهم في التثنية فلكان .
وفي التفسير : أن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رجلاً ، وقيل ثمانون ، وقيل عشرة ، فهم أولاده يافث وسام وحام ، وفي كثر من كتب الحديث للترمذي وغيره : أن جميع الخلق الآن من ذرية نوح عليه السلام ، وقال الزهري في كتاب النقاش : وفي القرآن { ذرية من حملنا مع نوح } .
قال القاضي أبو محمد : فيحتمل أن يكون سائر العشرة أو الأربعين حسب الخلاف حفدة لنوح ومن ذريته فتجتمع الآية والحديث ، ويحتمل أن من كان في السفينة غير بنيه لم ينسل ، وقد روي ذلك ، وإلا لكان بين الحديث والآية تعارض ، وقوله : { كذبوا بآياتنا } يقتضي أن نوحاً عليه السلام كانت له آيات ومعجزات ، وقوله : { عمين } وزنه فعلين وهو جمع عم وزنه فعل ، ويريد عمى البصائر ، وروي عن ابن عباس أن نوحاً بعث ابن أربعين سنة ، قال ابن الكلبي : بعد آدم بثمانمائة سنة ، وجاء بتحريم البنات والأخوات والأمهات والخالات والعمات ، وقال وهب بن منبه بعث نوح وهو ابن أربعمائة سنة ، وقيل بعث ابن ثلاثمائة سنة ، وقيل ابن خمسين سنة ، وروي أنه عمر بعد الغرق ستين سنة ، وروي أن الطوفان كان سنة ألف وستمائة من عمره صلى الله عليه وسلم ، وأتى في حديث الشفاعة وغيره : أن نوحاً أول نبي بعث إلى الناس ، وأتى أيضاً أن إدريس قبل نوح ومن آبائه وذلك يجتمع بأن تكون بعثة نوح مشتهرة لإصلاح الناس وحملهم بالعذاب والإهلاك على الإيمان ، فالمراد أنه أول نبي بعث على هذه الصفة .
وقع التّكذيب من جميع قومه : من قادتهم ، ودهمائهم ، عدا بعضَ أهل بيته ومن آمَن به عقب سماع قول نوح ، فعُطف على كلامه بالفاء أي صدر منهم قول يقتضي تكذيب دعوى أنّه رسول من ربّ العالمين يبلِّغ وينصَح ويعلَم ما لا يعلمون ، فصار تكذيباً أعم من التّكذيب الأوّل ، فهو بالنّسبة للملأ يَؤول إلى معنى الاستمرار على التّكذيب ، وبالنّسبة للعامة تكذيب أنُف ، بعد سماع قول قَادتهم وانتهاء المجادلة بينهم وبين نوح ، فليس الفعل مستعملاً في الاستِمرار كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله } [ النساء : 136 ] إذ لا داعي إليه هنا ، وضمير الجمع عائد إلى القوم ، والفاء في قوله : { فأنجيناه } للتّعقيب ، وهو تعقيب عُرفي : لأنّ التّكذيب حصل بعده الوَحْيُ إلى نوح بأنّه لن يؤمن من قومه إلاّ مَن قد آمن ، ولا يُرجى زيادة مؤمن آخر ، وأمرُه بأن يدخل الفلك ويحملَ معه مَن آمن إلى آخر ما قصّه الله في سورة هود .
وقدم الإخبار بالإنجاء على الإخبار بالإغراق ، مع أنّ مقتضى مقام العبرة تقديم الإخبار بإغراق المنكرين ، فقدم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلاً لمسرة السّامعين من المؤمنين بأنّ عادة الله إذا أهلك المشركين أن ينجي الرّسول والمؤمنين ، فذلك التّقديم يفيد التّعريض بالنّذارة ، وإلاّ فإنّ الإغراق وقع قبل الإنجاء ، إذ لا يظهر تحقّق إنجاء نوح ومن معه إلاّ بعد حصول العذاب لمن لم يؤمنوا به ، فالمعقّب به التّكذيب ابتداءً هو الإغراق ، والإنجاء واقع بعده ، وليتأتى هذا التّقديم عطف فعل الإنجاء بالواو المفيدة لمطلق الجمع ، دون الفاء .
وقوله : { في الفلك } متعلّق بمعنى قوله : { معه } لأنّ تقديره : استقرّوا معه في الفلك ، وبهذا التّعليق عُلم أنّ الله أمره أن يحمل في الفلك معشراً ، وأنّهم كانوا مصدّقين له ، فكان هذا التّعليق إيجازاً بديعاً .
والفُلك تقدّم في قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض } في سورة البقرة ( 164 ) .
{ والذين معه } هم الذين آمنوا به ، وسنذكر تعيينهم عند الكلام على قصّته في سورة هود .
والإتيان بالموصول في قوله : { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } دون أن يقال : وأغرقنا سائرهم ، أو بقيتهم ، لما تؤذن به الصّلة من وجه تعليل الخبر في قوله : { وأغرقنا } أي أغرقناهم لأجل تكذيبهم .
وجملة : { إنهم كانوا قوماً عمين } تتنزل منزلة العلّة لجملة { أغرقنا } كما دلّ عليه حرف ( إن ) لأنّ حرف ( إن ) هنا لا يقصد به ردّ الشكّ والتَّرَدّد ، إذ لا شكّ فيه ، وإنّما المقصود من الحرف الدّلالة على الاهتمام بالخبر ، ومن شأن ( إن ) إذا جاءت للاهتمام أن تقوم مقام فَاء التّفريع ، وتفيدَ التّعليل وربط الجملة بالتي قبلها . ففصل هذه الجملة كَلاَ فَصْل .
و { عَمِين } جمع عَمٍ جمع سلامة بواو ونون . وهو صفة على وزن فَعِل مثل أشِر ، مشتق من العمَى ، وأصله فقدان البصر ، ويطلق مجازاً على فقدان الرأي النّافع ، ويقال : عَمَى القَلْبِ ، وقد غلب في الكلام تخصيص الموصوف بالمعنى المجازي بالصّفة المشبَّهة لدلالتها على ثبوت الصّفة ، وتمكّنها بأن تكون سجية وإنّما يصدّق ذلك في فقد الرّأي ، لأنّ المرء يخلق عليه غالباً ، بخلاف فقد البصر ، ولذلك قال تعالى هنا { عَمِين } ولم يقل عُمْياً كما قال في الآية الأخرى { عُمْياً وبكماً وصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] ومثله قول زهير :
ولكنّني عن عِلْمِ مَا فِي غدٍ عَمِ
والذين كذّبوا كانوا عمين لأنّ قادتهم دَاعون إلى الضّلالة مؤيّدونها ، ودهماؤهم متقبّلون تلك الدّعوة سمَّاعون لها .
وقد دلّت هذه القصّة على معنى عظيم في إرادة الله تعالى تطوّرَ الخلق الإنساني : فإنّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وخلق له الحسّ الظاهر والحِسّ الباطن ، فانتفع باستعمال بعض قواه الحسيَّة في إدراك أوائل العلوم ، ولكنّه استعمل بعض ذلك فيما جلَب إليه الضرّ والضّلال ، وذلك باستعمال القواعد الحِسّية فيما غاب عن حسِّه وإعانتها بالقوى الوهميّة والمخيَّلة ، ففكّر في خالقه وصفاته فتوهّم له أنداداً وأعواناً وعشيرة وأبناء وشركاءَ في مُلكه ، وتفاقم ذلك في الإنسان مع مرور الأزمان حتّى عاد عليه بنسيان خالقه ، إذ لم يَدخل العلمُ به تحت حواسه الظّاهرة ، وأقبل على عبادة الآلهة الموهومة حيث اتّخذ لها صُوراً محسوسة ، فأراد الله إصلاح البشر وتهذيبَ إدراكهم ، فأرسل إليهم نوحاً فآمن به قليل من قومه وكفر به جمهورهم ، فأراد الله انتخاب الصّالحين من البشر الذين قبلت عقولهم الهدى ، وهم نوح ومن آمن به ، واستيصال الذين تمكّنت الضّلالة من عقولهم ليُنشىء من الصّالحين ذرّية صالحة ويَكْفِيَ الإنسانيّة فساد الضّالين ، كما قال نوح : { إنَّك إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلوا عبادَك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفَّارا } [ نوح : 27 ] ، فكانت بعثة نوح وما طرأ عليها تجديداً لصلاح البشر وانتخاباً للأصْلَح .