محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيۡنَٰهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمًا عَمِينَ} (64)

[ 64 ] { فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين ( 64 ) } .

{ فكذبوه } أي أصروا على تكذيبه مع طول مدة إقامته فيهم ولم يؤمن معه منهم إلا قليل { فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين } أي عن الحق ، فلم يستبصروا الحق ولم يستنيروا بنور الوحي الذي هو كالشمس ، ولا بظهور الآيات ، ولا بآية الطوفان المغرق لهم ، بعد إنذاره به ، على تكذيبهم . والعمى ذهاب بصر العينين ، وبصر القلب . يقال : عمي فهو أعمى وعَمٍ . كما في ( القاموس ) .

وكان من أمر نوح عليه السلام ، أن قومه ، لما أعرضوا عن الإيمان ، وتمادوا على العصيان ، وعبادة الأوثان ، وطال عليه أمرهم ، شكاهم إلى الله تعالى ، فأوحى الله إليه أنه { لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن }{[4058]} وهم ناس قليل ، فحينئذ دعا عليهم فقال : { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا }{[4059]} . فأوحى الله إليه أن يصنع السفينة ، وصار قومه يسخرون منه ، ويقولون : يا نوح  ! قد صرت نجارا بعد النبوة  ! فقال : { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ، فسوف تعلمون من يأتيه/ عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم }{[4060]} . فلما فرغ من صنع السفينة ، أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين من أنواع الحيوانات ، حتى لا ينقطع نسلها . وحشرها إليه من كل جهة . ولما رأى فوران التنور ، وكان هو من العلامة بينه وبين الله تعالى في ابتداء الطوفان ، ركب في الفلك هو ومن آمن معه ، وحمل من كل زوجين اثنين . وأمر الله تعالى السماء أن تمطر . والأرض أن تتفجر عيونا ، وارتفع الماء في هذا الطوفان فوق رؤوس الجبال ، فهلك جميع ما على الأرض من جنس الحيوان ، ولم يبق حيا غير أهل السفينة .

وفي التوراة : أن الأمطار هطلت أربعين يوما وليلة دون انقطاع ، حتى غمرت المياه وجه الأرض ، وعلت خمسة عشر ذراعا فوق الجبال الشامخة ، وهلك بالطوفان كل جسم حي . ثم أرسل الله ريحا عاصفة ، فانقطعت الأمطار ونقصت المياه شيئا فشيئا ، وقضى نوح سنة كاملة داخل الفلك . وحين خروجه منه بنى مذبحا للقرابين ، شكرا لله تعالى ، وتناسلت الناس من أولاد نوح الثلاثة : سام وحام ويافث . وتوطن سام بلاد آسية ، وأقام حام بنواحي إفريقية ، وسكن يافث الديار الأوربية- والله أعلم .

تنبيه :

قال الجشمي : في الآيات فوائد . منها : أن نوحا دعاهم أولا إلى التوحيد . والرسول وإن حمل الشرائع ، فلا طريق له إلى بيان الشرائع إلا بعد العلم بالتوحيد . ولأنهم لا ينتفعون بذلك إلا بعد اعتقاد التوحيد ، فلذلك بدأ به . وجميع الرسل بدءوا بالتوحيد ثم بالشرائع . ولذلك كان أكثر حجاج نبينا عليه السلام ، بمكة ، في التوحيد- انتهى .

وقال ابن كثير : بين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه ، وأنجى رسوله / والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم الكافرين ، كقوله : { إنا لننصر رسلنا }{[4061]} . الآية- وهذه سنة الله في عباده ، في الدنيا والآخرة ، أن العاقبة للمتقين ، والظفر والغلب لهم ، كما أهلك قوم نوح بالغرق ، نجى نوحا وأصحابه المؤمنين . قال مالك عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم ، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز .


[4058]:- [11/ هود/ 36] ونصها: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36)}.
[4059]:- [81/ نوح/ 26].
[4060]:- [11/ هود/ 38 و39] ونصهما: {ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال...}
[4061]:- [40/ غافر/ 51] {والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (51)...}.