وقوله : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي : هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد ، لعظمته وجلاله وكبريائه ، وعلوه وحكمته وعدله ولطفه ، { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي : وهو سائل خلقه عما يعملون ، كقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] وهذا كقوله تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } [ المؤمنون : 88 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يُسْأَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : لا سائل يسأل ربّ العرش عن الذي يفعل بخلقه من تصريفهم فيما شاء من حياة وموت وإعزاز وإذلال وغير ذلك من حكمه فيهم لأنهم خلقه وعبيده ، وجميعهم في ملكه وسلطانه ، والحكم حكمه ، والقضاء قضاؤه ، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل فيقول له لم فعلت ؟ ولمَ لم تفعل ؟ وَهُمْ يُسْئَلُونَ يقول جلّ ثناؤه : وجميع من في السموات والأرض من عباده مسؤولون عن أفعالهم ، ومحاسبون على أعمالهم ، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه لأنه فوقهم ومالكهم ، وهم في سلطانه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ يقول : لا يسئل عما يفعل بعباده ، وهم يُسئلون عن أعمالهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قوله : لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ قال : لا يسئل الخالق عن قضائه في خلقه ، وهو يسأل الخلق عن عملهم .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَل وَهُمْ يُسْئَلُونَقال : لا يسئل الخالق عما يقضي في خلقه ، والخلق مسؤولون عن أعمالهم .
ثم وصف نفسه تعالى بأنه { لا يسأل عما يفعل } وهذا وصف يحتمل معنيين : إما أن يريد أنه بحق ملكه وسلطانه لا يعارض ولا يسأل عن شيء يفعله إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء ، وإما أن يريد أنه محكم الأفعال واضع كل شيء موضعه فليس في أفعاله موضع سؤال ولا اعتراض ، وهؤلاء من البشر يسألون لهاتين العلتين لأنهم ليسوا مالكين ولأنهم في أفعالهم خلل كثير{[8205]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا يسأل عما يفعل}: لا يسأل الله تعالى عما يفعله في خلقه.
{وهم يسئلون}، يقول سبحانه، يسأل الله الملائكة في الآخرة: {أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل} [الفرقان:17] ويسألهم، ويقول للملائكة: {... أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} [سبأ:40]
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لا سائل يسأل ربّ العرش عن الذي يفعل بخلقه من تصريفهم فيما شاء من حياة وموت وإعزاز وإذلال وغير ذلك من حكمه فيهم لأنهم خلقه وعبيده، وجميعهم في ملكه وسلطانه، والحكم حكمه، والقضاء قضاؤه، لا شيء فوقه يسأله عما يفعل فيقول له لم فعلت؟ ولمَ لم تفعل؟. "وَهُمْ يُسْئَلُونَ "يقول جلّ ثناؤه: وجميع من في السموات والأرض من عباده مسؤولون عن أفعالهم، ومحاسبون على أعمالهم، وهو الذي يسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه لأنه فوقهم ومالكهم، وهم في سلطانه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا يحتمل وجوها: أحدها: أنه لا يُسأل، لأن ما يَفعلُ يَفْعَلُ في ملكه وسلطانه، وإنما يُسأل من فعل في سلطان غيره وملك غيره...
والثاني: لا يُسأل عما يفعل لأنه حكيم بذاته، لا يخرج فعله عن الحكمة، فإنما يسأل من يحتمل فعله السفه. فأما من لا يحتمل فعله إلا الحكمة فإنه لا يحتمل السؤال لم فعلت؟ ولماذا فعلت؟
والثالث: لو احتمل السؤال عما يفعل لاحتمل الأمر النهي أن افعل كذا، ولا تفعل كذا، وذلك محال. ولو ثبت الأمر فيه لكان يخرج سؤاله سؤال حاجة، لأن من يأمر من فوقه بأمر فإنما يكون أمره سؤال حاجة، ومن يأمر من دونه فيكون أمره أمرا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وصف نفسه تعالى بأنه {لا يسأل عما يفعل} وهذا وصف يحتمل معنيين: إما أن يريد أنه بحق ملكه وسلطانه لا يعارض ولا يسأل عن شيء يفعله إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء، وإما أن يريد أنه محكم الأفعال واضع كل شيء موضعه فليس في أفعاله موضع سؤال ولا اعتراض، وهؤلاء من البشر يسألون لهاتين العلتين لأنهم ليسوا مالكين ولأنهم في أفعالهم خلل كثير.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للإلهية.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلوه وحكمته وعدله ولطفه، {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي: وهو سائل خلقه عما يعملون،
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لا يسأل} أي من سائل ما {عما يفعل} أي لا يعترض عليه لأنه لا كفوء له في علم ولا حكمة ولا قدرة ولا عظمة ولا غير ذلك، فليس في شيء من أفعاله لإتقانها موضع سؤال، فمهما أراد كان ومهما قال فالحسن الجميل، فلو شاء لعذب أهل سماواته وأهل أرضه، وكان ذلك منه عدلاً حسناً... {وهم يسألون} من كل سائل لما في أفعالهم من الاختلال بل يمنعون عن أكثر ما يريدون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإن الخلق ليستبد بهم الغرور أحيانا فيسألون سؤال المنكر المتعجب: ولماذا صنع الله كذا. وما الحكمة في هذا الصنيع؟ وكأنما يريدون ليقولوا: إنهم لا يجدون الحكمة في ذلك الصنيع! وهم يتجاوزون في هذا حدود الأدب الواجب في حق المعبود، كما يتجاوزون حدود الإدراك الإنساني القاصر الذي لا يعرف العلل والأسباب والغايات وهو محصور في حيزه المحدود.. إن الذي يعلم كل شيء، ويدبر كل شيء، ويسيطر على كل شيء، هو الذي يقدر ويدبر ويحكم. (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والسؤال هنا بمعنى المحاسبة، وطلب بيان سبب الفعل، وإبداء المعذرة عن فعل بعض ما يُفعل، وتخلّص من ملام أو عتاب على ما يفعل. وهو مثل السؤال في الحديث « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته». فكونهم يسألون كناية عن العبودية لأن العبد بمظنة المؤاخذة على ما يَفعل وما لا يفعل، وبمظنة التعرض للخطأ في بعض ما يفعل. وليس المقصود هنا نفي سؤال الاستشارة أو تطلب العلم كما في قوله تعالى {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30]، ولا سؤالَ الدعاء، ولا سؤال الاستفادة والاستنباط مثل أسئلة المتفقهين أو المتكلمين عن الحِكَم المبثوثة في الأحكام الشرعية أو في النظم الكونية؛ لأن ذلك استنباط وتتبع وليس مباشرةً بسؤال الله تعالى، ولا لتطلب مخلص من ملام.
فالله تعالى لا يسأل عما يفعل؛ لأن السائل له مراتب مع المسؤول، والعادة أن يكون المسؤول في مرتبة أدنى من السائل، لذلك لا أحد يسأل الله تعالى عما يفعل، أما هو سبحانه فيسأل الناس.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبعد أن ثبت بالاستدلال الذي ورد في الآية توحيد مدبّر ومدير هذا العالم، فتقول الآية التالية: إنّه قد نظّم العالم بحكمة لا مجال فيها للإشكال والانتقاص ولا أحد يعترض عليه في خلقه: (لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون).
وبالرغم من أنّ المفسّرين قد تكلّموا كثيراً حول تفسير هذه الآية، إلاّ أنّ ما ذكرناه أعلاه يبدو هو الأقرب.
وتوضيح ذلك: أنّ لدينا نوعين من الأسئلة:
الأوّل: السؤال التوضيحي، وهو أن يكون الإنسان جاهلا ببعض المسائل، ويرغب في أن يدرك حقيقتها، وحتى إذا علم وآمن بأنّ هذا العمل الذي تمّ كان صحيحاً، فإنّه يريد أن يعلم النقطة الأصليّة والهدف الحقيقي منه، ومثل هذا السؤال جائز حتّى حول أفعال الله، بل إنّ هذا السؤال يعتبر أساس ومصدر الفحص والتحقيق في عالم الخلقة والمسائل العلميّة، وقد كان لأصحاب النّبي والأئمّة كثير من هذه الأسئلة سواء فيما يتعلّق بعالم التكوين أو التشريع.
أمّا النوع الثّاني: فهو السؤال الاعتراضي، والذي يعني أنّ العمل الذي تمّ كان خطأً، كأن ينقض إنسان عهده بلا سبب، فنقول: لماذا نقضت عهدك؟ فليس الهدف طلب التوضيح، بل الهدف الاعتراض والتخطئة.
من المسلّم أنّ هذا النوع من السؤال لا معنى له حول أفعال الله الحكيم، وإذا ما اعترض أحد أحياناً فلجهله، إلاّ أنّ مجال هذا السؤال حول أفعال الآخرين واسع...
ويمكن أن تُستخلص نتيجة من هذا الكلام، وهي: إنّ أحداً إذا سأل سؤالا من النوع الثّاني، فهو دليل على أنّه لم يعرف الله معرفة صحيحة لحدّ الآن، وهو جاهل بكونه حكيماً.