قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } اعلم أن أهل السنة{[28076]} استدلوا على أنه تعالى لا يسأل عما يفعل بأمور :
أحدها : أنه لو كان كل شيء معللاً بعلة كانت تلك العلة{[28077]} معللة بعلة أخرى ولزم التسلسل ، فلا بد في قطع التسلسل من الانتهاء إلى ما يكون غنياً عن العلة ، وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى ، وصفاته مبرأة من الافتقار إلى المبدع المخصص ، فكذا فاعليته يجب أن يجب أن تكون مقدسة عن{[28078]} الاستناد إلى الموجب والمؤثر .
وثانيها : أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة إما أن تكون واجبة ممكنة ، فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونها فاعلاً ، وحينئذ يكون موجباً بالذات لا فاعلاً باختيار . وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلاً لله تعالى فيفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال .
وثالثها : أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة ، فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقرت{[28079]} إلى علة أخرى ولزم التسلسل .
ورابعها : أنه إن فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون متمكناً من تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة ، أو لا يكون متمكناً منه . فإن كان متمكناً منه كان توسط تلك الواسطة عبثاً . وإن لم يكن متمكناً منه كان عاجزاً ، والعجز على الله تعالى محال ، وأما العجز علينا فغير ممتنع ، فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض وذلك في حق الله تعالى{[28080]} محال .
وخامسها : لو كان فعلاً معللاً بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العباد ، والأول محال ، لأنه منزه عن النفع والضر ، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وان يكون عائداً إلى العباد ، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذة وعدم حصول الآلام ، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء{[28081]} من غير واسطة ، وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئاً لأجل شيء .
وسادسها : أن الموجودات ملكه ، ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له : لم فعلت ذلك ؟
وسابعها : أن من قال لغيره : لم فعلت ذلك ؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يكون للسائل على المسؤول حكم على فعله ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك بأن يهدده بالعقاب ؟ فذلك على الله محال ، وإن هذه باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والاتصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة فذلك أيضاً محال ، لأنه مستحق للمدح والاتصاف بصفات الحكمة والجلال . فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله : لم فعلت ؟ وإنّ كل شيء صنعه لا علة لصنعه{[28082]} . وأما المعتزلة فإنهم{[28083]} سلموا أنه يجوز أن يقال : الله عالم بقبح القبيح ، وعالم بكونه غنياً عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح ، وإذا عرفنا ذلك عرفنا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله{[28084]} : لم فعلت هذا{[28085]} ؟ ثم قال تعالى : «وهُمْ يُسْأَلُونَ » وهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم . واعلم أن منكري التكليف احتجوا على قولهم بوجوه{[28086]} :
أحدها : قالوا : التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك ، أو حال رجحان أحدهما على الآخر ، والأول محال ، لأن حال الاستواء يمنع الترجيح ، وحال امتناع الترجيح يكون تكليفاً بالمحال . والثاني محال ، لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع ، وإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف ما لا يطاق .
وثانيها{[28087]} : قالوا : كل ما علم الله وقوعه فهو واجب ، فيكون التكليف به عبثاً ، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع ، فيكون التكليف به تكليفاً لا يطاق .
وثالثها : قالوا : سؤال العبد إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة{[28088]} فإن عادت إلى العبد فهو محال ، لأن سؤاله لما كان سبباً للعقاب{[28089]} لم يكن نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرر عائد إليه . وإن لم يكن في سؤاله فائدة كان عبثاً ، وهو غير جائز على الحكيم ، بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم .
الأول : أن غرضكم{[28090]} من إيراد هذه الشبه النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم كلفتمونا بنفي التكليف ، وهذا متناقض .
والثاني : أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد ، وهو أن التكاليف{[28091]} كلها تكليف ( بما لا يطاق ){[28092]} فلا يجوز من الحكيم أن يوجهها على العباد ، فيرجح حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال لله{[28093]} تعالى : لِمَ كلفت عبادك ، إلا أنَّا قد بيَّنا أنه سبحانه { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } ، فظهر بهذا أن قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } أصل لقوله : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } فتأمل هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن . فإن قيل : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } متأكد بقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }{[28094]} وبقوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }{[28095]} إلا أَنَّهُ يناقضه قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }{[28096]} .
فالجواب : أن يوم القيامة طويل وفيه مقامات ، فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام دفعاً للتناقض{[28097]} .
فصل{[28098]}
أحدها ){[28099]} : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن{[28100]} والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل ، بل كان يذم بما من حقه الذم ، كما يحمد بما{[28101]} من حقه الحمد .
وثانيها : أنه يجب أن يسأل{[28102]} عن المأمور به إذ لا فاعل{[28103]} سواء .
وثالثها : أنه لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم .
ورابعها : أن علمهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنه من حيث إنه خلقه وأوجده فيهم .
وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع أنه يقبل حجة العباد لقوله : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل }{[28104]} .
وهذا يقضي أن لهم عليه حجة قبل بعثة الرسل ، وقال : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً }{[28105]} ونظائر هذه الآيات كثيرة ، وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى .
والجواب هو{[28106]} المعارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه المتقدمة التي بينا فيها أنه يستحيل طلب عِلِّيَّة أفعال الله تعالى .
فصل{[28107]}
في تعلق هذه الآية بما قبلها ، وهو أن كل{[28108]} من أثبت الله تعالى{[28109]} شريكاً ليس عمدته إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى ، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى ، قالوا : رأينا في العالم خيراً وشراً ، ولذة وألماً ، وحياة وموتاً ، وصحة وسقماً ، وغنى وفقراً ، وفاعل خير وفاعل شر ، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشرّيراً معاً ، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً ( للخير والآخر للشر ){[28110]} ، فرجع حاصل هذه القسمة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً فلم خصَّ هذا بالحياة والصحة والغنى ، وخصَّ هذا بالموت والألم والفقر . فيرجع حاصلة إلى طلب اللمية . لا جرم أنه تعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك ، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يبتدأ بذكر الدليل المثبت للمطلوب ، ثم يذكر بعده الجواب عن شبهة الخصم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.