اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡـَٔلُونَ} (23)

قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } اعلم أن أهل السنة{[28076]} استدلوا على أنه تعالى لا يسأل عما يفعل بأمور :

أحدها : أنه لو كان كل شيء معللاً بعلة كانت تلك العلة{[28077]} معللة بعلة أخرى ولزم التسلسل ، فلا بد في قطع التسلسل من الانتهاء إلى ما يكون غنياً عن العلة ، وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى ، وصفاته مبرأة من الافتقار إلى المبدع المخصص ، فكذا فاعليته يجب أن يجب أن تكون مقدسة عن{[28078]} الاستناد إلى الموجب والمؤثر .

وثانيها : أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة إما أن تكون واجبة ممكنة ، فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونها فاعلاً ، وحينئذ يكون موجباً بالذات لا فاعلاً باختيار . وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلاً لله تعالى فيفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال .

وثالثها : أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة ، فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقرت{[28079]} إلى علة أخرى ولزم التسلسل .

ورابعها : أنه إن فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون متمكناً من تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة ، أو لا يكون متمكناً منه . فإن كان متمكناً منه كان توسط تلك الواسطة عبثاً . وإن لم يكن متمكناً منه كان عاجزاً ، والعجز على الله تعالى محال ، وأما العجز علينا فغير ممتنع ، فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض وذلك في حق الله تعالى{[28080]} محال .

وخامسها : لو كان فعلاً معللاً بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائداً إلى الله تعالى أو إلى العباد ، والأول محال ، لأنه منزه عن النفع والضر ، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وان يكون عائداً إلى العباد ، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذة وعدم حصول الآلام ، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء{[28081]} من غير واسطة ، وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئاً لأجل شيء .

وسادسها : أن الموجودات ملكه ، ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له : لم فعلت ذلك ؟

وسابعها : أن من قال لغيره : لم فعلت ذلك ؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يكون للسائل على المسؤول حكم على فعله ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك بأن يهدده بالعقاب ؟ فذلك على الله محال ، وإن هذه باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والاتصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة فذلك أيضاً محال ، لأنه مستحق للمدح والاتصاف بصفات الحكمة والجلال . فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله : لم فعلت ؟ وإنّ كل شيء صنعه لا علة لصنعه{[28082]} . وأما المعتزلة فإنهم{[28083]} سلموا أنه يجوز أن يقال : الله عالم بقبح القبيح ، وعالم بكونه غنياً عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح ، وإذا عرفنا ذلك عرفنا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله{[28084]} : لم فعلت هذا{[28085]} ؟ ثم قال تعالى : «وهُمْ يُسْأَلُونَ » وهذا يدل على كون المكلفين مسؤولين عن أفعالهم . واعلم أن منكري التكليف احتجوا على قولهم بوجوه{[28086]} :

أحدها : قالوا : التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك ، أو حال رجحان أحدهما على الآخر ، والأول محال ، لأن حال الاستواء يمنع الترجيح ، وحال امتناع الترجيح يكون تكليفاً بالمحال . والثاني محال ، لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع ، وإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف ما لا يطاق .

وثانيها{[28087]} : قالوا : كل ما علم الله وقوعه فهو واجب ، فيكون التكليف به عبثاً ، وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع ، فيكون التكليف به تكليفاً لا يطاق .

وثالثها : قالوا : سؤال العبد إما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة{[28088]} فإن عادت إلى العبد فهو محال ، لأن سؤاله لما كان سبباً للعقاب{[28089]} لم يكن نفعاً عائداً إلى العبد بل ضرر عائد إليه . وإن لم يكن في سؤاله فائدة كان عبثاً ، وهو غير جائز على الحكيم ، بل كان إضراراً وهو غير جائز على الرحيم .

والجواب من وجهين :

الأول : أن غرضكم{[28090]} من إيراد هذه الشبه النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم كلفتمونا بنفي التكليف ، وهذا متناقض .

والثاني : أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد ، وهو أن التكاليف{[28091]} كلها تكليف ( بما لا يطاق ){[28092]} فلا يجوز من الحكيم أن يوجهها على العباد ، فيرجح حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال لله{[28093]} تعالى : لِمَ كلفت عبادك ، إلا أنَّا قد بيَّنا أنه سبحانه { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } ، فظهر بهذا أن قوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } أصل لقوله : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } فتأمل هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن . فإن قيل : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } متأكد بقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }{[28094]} وبقوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }{[28095]} إلا أَنَّهُ يناقضه قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }{[28096]} .

فالجواب : أن يوم القيامة طويل وفيه مقامات ، فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام دفعاً للتناقض{[28097]} .

فصل{[28098]}

قالت المعتزلة : ( فيه وجوه :

أحدها ){[28099]} : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن{[28100]} والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل ، بل كان يذم بما من حقه الذم ، كما يحمد بما{[28101]} من حقه الحمد .

وثانيها : أنه يجب أن يسأل{[28102]} عن المأمور به إذ لا فاعل{[28103]} سواء .

وثالثها : أنه لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم .

ورابعها : أن علمهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنه من حيث إنه خلقه وأوجده فيهم .

وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع أنه يقبل حجة العباد لقوله : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل }{[28104]} .

وهذا يقضي أن لهم عليه حجة قبل بعثة الرسل ، وقال : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً }{[28105]} ونظائر هذه الآيات كثيرة ، وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى .

والجواب هو{[28106]} المعارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه المتقدمة التي بينا فيها أنه يستحيل طلب عِلِّيَّة أفعال الله تعالى .

فصل{[28107]}

في تعلق هذه الآية بما قبلها ، وهو أن كل{[28108]} من أثبت الله تعالى{[28109]} شريكاً ليس عمدته إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى ، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى ، قالوا : رأينا في العالم خيراً وشراً ، ولذة وألماً ، وحياة وموتاً ، وصحة وسقماً ، وغنى وفقراً ، وفاعل خير وفاعل شر ، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيراً وشرّيراً معاً ، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلاً ( للخير والآخر للشر ){[28110]} ، فرجع حاصل هذه القسمة إلى أن مدبر العالم لو كان واحداً فلم خصَّ هذا بالحياة والصحة والغنى ، وخصَّ هذا بالموت والألم والفقر . فيرجع حاصلة إلى طلب اللمية . لا جرم أنه تعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك ، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يبتدأ بذكر الدليل المثبت للمطلوب ، ثم يذكر بعده الجواب عن شبهة الخصم .


[28076]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/155-156.
[28077]:في الأصل: الصلة. وهو تحريف.
[28078]:في ب: إلى.
[28079]:في ب: افتقر.
[28080]:تعالى: سقط من ب.
[28081]:ابتداء: سقط من ب.
[28082]:في الأصل: صنعه. وهو تحريف.
[28083]:في ب: فإن.
[28084]:في ب: له.
[28085]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/155-156.
[28086]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/156-157.
[28087]:في ب: وثانيهما. وهو تحريف.
[28088]:في ب: الفائدة. وهو تحريف.
[28089]:في ب: للعذاب.
[28090]:في النسختين: أن عرضه. والتصويب من الفخر الرازي.
[28091]:في ب: التكليف. وهو تحريف.
[28092]:ما بين القوسين سقط من ب.
[28093]:في ب: الله.
[28094]:[الحجر: 92].
[28095]:[الصافات: 24].
[28096]:[الرحمان: 39].
[28097]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/156-157.
[28098]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/157-158.
[28099]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[28100]:في ب: المحسن. وهو تحريف.
[28101]:بما: سقط من الأصل.
[28102]:في الأصل: أنه لا يجب أن يسأل.
[28103]:في ب: فاعلي. وهو تحريف.
[28104]:[النساء: 165].
[28105]:[طه: 134].
[28106]:في ب: هي. وهو تحريف.
[28107]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/155.
[28108]:كل: سقط من ب.
[28109]:تعالى: سقط من الأصل.
[28110]:ما بين القوسين سقط من ب.