مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ وَهُمۡ يُسۡـَٔلُونَ} (23)

أما قوله تعالى : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } فاعلم أنه مشتمل على بحثين : أحدهما : أن الله تعالى لا يسأل عن شيء من أفعاله ولا يقال له لم فعلت . والثاني : أن الخلائق مسئولون عن أفعالهم ، أما البحث الأول ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن عمدة من أثبت لله شريكا ليست إلا طلب اللمية في أفعال الله تعالى ، وذلك لأن الثنوية والمجوس وهم الذين أثبتوا الشريك لله تعالى قالوا : رأينا في العالم خيرا وشرا ولذة وألما وحياة وموتا وصحة وسقما وغنى وفقرا ، وفاعل الخير خير وفاعل الشر شرير ، ويستحيل أن يكون الفاعل الواحد خيرا وشريرا معا ، فلا بد من فاعلين ليكون أحدهما فاعلا للخير والآخر فاعلا للشر . ويرجع حاصل هذه الشبهة إلى أن مدبر العالم لو كان واحدا لما خص هذا بالحياة والصحة والغنى ، وخص ذلك بالموت والألم والفقر . فيرجع حاصله إلى طلب اللمية في أفعال الله تعالى . فلما كان مدار أمر القائلين بالشريك على طلب اللمية لا جرم أنه سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الدليل على التوحيد ذكر ما هو النكتة الأصلية في الجواب عن شبهة القائلين بالشريك ، لأن الترتيب الجيد في المناظرة أن يقع الابتداء بذكر الدليل المثبت للمطلوب . ثم يذكر بعده ما هو الجواب عن شبهة الخصم .

المسألة الثانية : في الدلالة على أنه سبحانه : { لا يسأل عما يفعل } أما أهل السنة فإنهم استدلوا عليه بوجوه : أحدها : أنه لو كان كل شيء معللا بعلة لكانت علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ويلزم التسلسل فلا بد في قطع التسلسل من الانتهاء إلى ما يكون غنيا عن العلة وأولى الأشياء بذلك ذات الله تعالى وصفاته ، وكما أن ذاته منزهة عن الافتقار إلى المؤثر والعلة ، وصفاته مبرأة عن الافتقار إلى المبدع والمخصص فكذا فاعليته يجب أن تكون مقدسة عن الاستناد إلى الموجب والمؤثر . وثانيها : أن فاعليته لو كانت معللة بعلة لكانت تلك العلة ، إما أن تكون واجبة أو ممكنة فإن كانت واجبة لزم من وجوبها وجوب كونه فاعلا ، وحينئذ يكون موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار ، وإن كانت ممكنة كانت تلك العلة فعلا لله تعالى أيضا فتفتقر فاعليته لتلك العلة إلى علة أخرى ولزم التسلسل وهو محال . وثالثها : أن علة فاعلية الله تعالى للعالم إن كانت قديمة لزم أن تكون فاعليته للعالم قديمة فيلزم قدم العالم وإن كانت محدثة افتقر إلى علة أخرى ولزم التسلسل . ورابعها : أن من فعل فعلا لغرض ، فإما أن يكون متمكنا من تحصل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة أو لا يكون متمكنا منه . فإن كان متمكنا منه كان توسط تلك الواسطة عبثا وإن لم يكن متمكنا منه كان عاجزا والعجز على الله تعالى محال ، أما العجز علينا فغير ممتنع فلذلك كانت أفعالنا معللة بالأغراض ، وكل ذلك في حق الله تعالى محال . وخامسها : أنه لو كان فعله معللا بغرض لكان ذلك الغرض إما أن يكون عائدا إلى الله تعالى أو إلى العباد والأول محال لأنه منزه عن النفع والضر ، وإذا بطل ذلك تعين أن الغرض لا بد وأن يكون عائدا إلى العباد ، ولا غرض للعباد إلا حصول اللذات وعدم حصول الآلام ، والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداء من غير شيء من الوسائط . وإذا كان كذلك استحال أن يفعل شيئا لأجل شيء . وسادسها : هو أنه لو فعل فعلا لغرض لكان وجود ذلك الغرض وعدمه بالنسبة إليه إما أن يكون على السواء أو لا يكون ، فإن كان على السواء استحال أن يكون غرضا ، وإن لم يكن على السواء لزم كونه تعالى ناقصا بذاته كاملا بغيره وذلك محال ، فإن قلت وجود ذلك الغرض وعدمه وإن كان بالنسبة إليه على السواء . أما بالنسبة إلى العباد فالوجود أولى من العدم ، قلنا : تحصيل تلك الأولوية للعبد وعدم تحصيلها له إما أن يكون بالنسبة إليه على السوية أو لا على السوية ، ويعود التقسيم الأول . وسابعها : وهو أن الموجود إما هو سبحانه أو ملكه وملكه ومن تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت ذلك . وثامنها : وهو أن من قال لغيره لم فعلت ذلك ؟ فهذا السؤال إنما يحسن حيث يحتمل أن يقدر السائل على منع المسئول منه عن فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال ، فإنه لو فعل أي فعل شاء فالعبد كيف يمنعه عن ذلك ؟ إما بأن يهدده بالعقاب والإيلام وذلك على الله تعالى محال ، أو بأن يهدده باستحقاق الذم والخروج عن الحكمة والإنصاف بالسفاهة على ما يقوله المعتزلة وذلك أيضا محال ، لأن استحقاقه للمدح واتصافه بصفات الحكمة والجلال أمور ذاتية له ، وما ثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات العرضية الخارجية ، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز أن يقال لله في أفعاله لم فعلت هذا الفعل ؟ فإن كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، وأما المعتزلة فإنهم سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت هذا الفعل ولكنهم بنوا ذلك على أصل آخر ، وهو أنه تعالى عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عنها ، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح ، وإذا عرفنا ذلك عرفنا إجمالا أن كل ما يفعله الله تعالى فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك لم يجز للعبد أن يقول لله لم فعلت هذا .

أما البحث الثاني : وهو قوله تعالى : { وهم يسألون } فهذا يدل على كون المكلفين مسئولين عن أفعالهم وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : أن الكلام في هذا السؤال إما في الإمكان العقلي أو في الوقوع السمعي ، أما الإمكان العقلي فالخلاف فيه مع منكري التكاليف ، واحتجوا على قولهم بوجوه . أحدها : قالوا : التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك ، أو حال رجحان أحدهما على الآخر . والأول محال لأن حال الاستواء يمتنع الترجيح وحال امتناع الترجيح يكون التكليف بالترجيح تكليفا بالمحال ، والثاني محال لأن حال الرجحان يكون الراجح واجب الوقوع والمرجوح ممتنع الوقوع . والتكليف بإيقاع ما يكون واجب الوقوع عبث ، وبإيقاع ما هو ممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق . وثانيها : قالوا كل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع فيكون التكليف به عبثا ، وكل ما علم الله تعالى عدمه كان ممتنع الوقوع ، فيكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق . وثالثها : قالوا : سؤال العبد ما أن يكون لفائدة أو لا لفائدة فإن كان لفائدة فتلك الفائدة إن عادت إلى الله تعالى كان محتاجا وهو محال ، وإن عادت إلى العبد فهو محال ، لأن سؤاله لما كان سببا لتوجيه العقاب عليه ، لم يكن هذا نفعا عائدا إلى العبد بل ضررا عائدا إليه ، وإن لم يكن في السؤال فائدة كان عبثا وهو غير جائز على الحكيم ، بل كان إضرارا وهو غير جائز على الرحيم . والجواب عنها من وجهين : الأول : أن غرضكم من إيراد هذه الشبهة النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم تكلفونا بنفي التكليف وهو متناقض . والثاني : وهو أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد وهو أن التكاليف كلها تكاليف بما لا يطاق فلا يجوز من الحكيم أن يوجبها على العباد فيرجع حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال له تعالى : لم كلفت عبادك ، إلا أن قد بينا أنه سبحانه : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } فظهر بهذا أن قوله : { لا يسأل عما يفعل } كالأصل والقاعدة لقوله : { وهم يسألون } فتأمل في هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن ، وأما الوقوع السمعي فلقائل أن يقول إن قوله : { وهم يسألون } وإن كان متأكدا بقوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين } وبقوله : { وقفوهم إنهم مسئولون } إلا أنه يناقضه قوله : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } والجواب : أن يوم القيامة يوم طويل وفيه مقامات فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام آخر دفعا للتناقض .

المسألة الثانية : قالت المعتزلة فيه وجوه : أحدها : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل ، بل كان يذم بما حقه الذم ، كما يحمد بما حقه المدح . وثانيها : أنه كان يجب أن لا يسأل عن الأمور إذا كان لا فاعل سواه . وثالثها : أنه كان لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم . ورابعها : أن أعمالهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنها من حيث خلقها وأوجدها فيهم . وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع بأنه يقبل حجة العباد عليه كقوله : { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وهذا يقتضي أن لهم عليه الحجة قبل بعثة الرسل ، وقال : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } ونظائر هذه الآيات كثيرة وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على الله تعالى . وسادسها : قال ثمامة إذا وقف العبد يوم القيامة فيقول الله تعالى : ما حملك على معصيتي ؟ فيقول على مذهب الجبر : يا رب إنك خلقتني كافرا وأمرتني بما لا أقدر عليه وحلت بيني وبينه ، ولا شك أنه على مذهب الجبر يكون صادقا ، وقال الله تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } فوجب أن ينفعه هذا الكلام فقيل له ، ومن يدعه يقول : هذا الكلام أو يحتج ؟ فقال ثمامة : أليس إذا منعه الله الكلام والحجة فقد علم أنه منعه مما لو لم يمنعه منه لانقطع في يده ، وهذا نهاية الانقطاع . والجواب عن هذه الوجوه : أنها معارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه الثمانية التي بينا فيها أنه يستحيل طلب لمية أفعال الله تعالى وأحكامه .