قوله تعالى : { إن فرعون علا } استكبر وتجبر وتعظم ، { في الأرض } أرض مصر ، { وجعل أهلها شيعاً } . فرقاً وأصنافاً في الخدمة والتسخير ، { يستضعف طائفةً منهم } أراد بالطائفة بني إسرائيل ، ثم فسر الاستضعاف فقال : { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } . سمى هذا استضعافاً لأنهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم . { إنه كان من المفسدين* }
ثم قال : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ } أي : تكبر وتجبر وطغى . { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } أي : أصنافا ، قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته .
وقوله : { يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ } يعني : بني إسرائيل . وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم . هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال ، ويكُدُّهُم ليلا ونهارًا في أشغاله وأشغال رعيته ، ويقتل مع هذا أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، إهانة لهم واحتقارا ، وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته من أن يوجد منهم غلام ، يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه . وكانت القبط قد تلقوا هذا من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل ، حين ورد الديار المصرية ، وجرى له مع جبارها ما جرى ، حين أخذ سارة ليتخذها جارية ، فصانها الله منه ، ومنعه منها{[22218]} بقدرته وسلطانه . فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد من صلبه وذريته مَن يكون هلاك ملك مصر على يديه ، فكانت القبط تتحدث بهذا عند فرعون ، فاحترز فرعون من ذلك ، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل ، ولن ينفع حذر من قدر ؛ لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ، ولكل أجل كتاب ؛ ولهذا قال : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } .
يقول تعالى ذكره : إن فرعون تجبر في أرض مصر وتكبر ، وعلا أهلها وقهرهم ، حتى أقرّوا له بالعبودة . كما :
حدثنا محمد بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إنّ فِرْعَوْنَ عَلا في الأرْضِ يقول : تجبر في الأرض .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة إنّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ أي بغى في الأرض .
وقوله : وَجَعَلَ أهْلَها شِيَعا يعني بالشيع : الفِرَق ، يقول : وجعل أهلَها فِرقا متفرّقين . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَجَعَلَ أهْلَها شِيَعا : أي فرقا يذبح طائفة منهم ، ويستحيي طائفة ، ويعذّب طائفة ، ويستعبد طائفة . قال الله عزّ وجلّ : يُذَبّحُ أبْناءَهُمْ ، وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ، إنّهُ كانَ مِنَ المُفْسِدِينَ .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه ، أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر ، فأحرقت القبط ، وتركت بني إسرائيل ، وأحرقت بيوت مصر ، فدعا السحرة والكهنة والقافة والحازة ، فسألهم عن رؤياه ، فقالوا له : يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه ، يعنون بيت المقدس ، رجل يكون على وجهه هلاك مصر ، فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلاّ ذبحوه ، ولا تولد لهم جارية إلاّ تركت ، وقال للقبط : انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا ، فأدخلوهم ، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة ، فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، وأدخلوا غلمانهم ، فذلك حين يقول : إنّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أهْلَها شِيَعا يعني بني إسرائيل حين جعلهم في الأعمال القذرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَجَعَلَ أهْلَها شِيَعا قال : فرّق بينهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : وَجَعَلَ أهْلَها شِيَعا قال : فِرَقا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَجَعَلَ أهْلَها شِيَعا قال : الشيع : الفِرَق .
وقوله : يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ ذكر أن استضعافه إياها كان استعباده . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة : يستعبد طائفة منهم ، ويذبح طائفة ، ويقتل طائفة ، ويستحيي طائفة .
وقوله : إنّهُ كانَ مِنَ المُفْسِدِينَ يقول : إنه كان ممن يفسد في الأرض بقتله من لا يستحقّ منه القتل ، واستعباده من ليس له استعباده وتجبره في الأرض على أهلها ، وتكبره على عبادة ربه .
{ إن فرعون علا في الأرض } استئناف " مبين " لذلك البعض ، والأرض أرض مصر . { وجعل أهلها شيعا } فرقا يشيعونه فيما يريد ، أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه استعمل كل صنف في عمل ، أو أحزابا بأن أغرى بينهم العداوة كي لا يتفقوا عليه . { يستضعف طائفة منهم } وهم بنو إسرائيل ، والجملة حال من فاعل { جعل } أو صفة ل { شيعا } أو استئناف ، وقوله : { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم } بدل منها ، وكان ذلك لأن كاهنا قال له يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده ، وذلك كان من غاية حمقه فإنه لو صدق لم يندفع بالقتل وإن كذب فما وجهه . { إنه كان من المفسدين } فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد .
و { علا في الأرض } من علو الطغيان والتغلب ، وقوله { في الأرض } يريد في أرض مصر وموضع ملكه ، ومتى جاءت { الأرض } هكذا عامة فإنما يراد بها الأرض التي تشبه قصة القول المسوق لأن الأشياء التي تعم الأرض كلها قليلة والأكثر ما ذكرناه ، و «الشيع » الفرق ، وكان هذا الفعل من فرعون بأن جعل القبط ملوكاً مستخدِمين ، وجعل بني إسرائيل عبيداً مستخدَمين ، وهم كانوا الطائفة المستضعفة ، و { يذبح } مضعف للمبالغة والعبارة عن تكرار الفعل ، وقال قتادة كان هذا الفعل من فرعون بأنه قال له كهنته وعلماؤه إن غلاماً لبني إسرائيل يفسد ملكك ، وقال السدي : رأى في ذلك رؤيا - فأخذ بني إسرائيل يذبح الأطفال سنين فرأى أنه يقطع نسلهم ، فعاد يذبح عاماً ويستحيي عاماً ، فولد هارون في عام الاستحياء وولد موسى في عام الذبح ، وقرأ جمهور القراء «يُذبح » بضم الياء وكسر الباء على التكثير ، وقرأ أبو حيوة ، وابن محيصن بفتح الياء وسكون الذال ، قال وهب بن منبه : بلغني أن فرعون ذبح في هذه المحاولة سبعين ألفاً من الأطفال ، وقال النقاش ، جميع ما قتل ستة عشر طفلاً .
قال الفقيه الإمام القاضي : طمع بجهله أن يرد القدر{[9104]} وأين هذا المنزع من قول النبي عليه السلام «فلن تقدر عليه » يعني ابن صياد ، وباقي الآية بين .