معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا} (22)

قوله تعالى : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم } روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقال السيد - وكان يعقوبياً - : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقال العاقب - وكان نسطورياً - : كانوا خمسة سادسهم كلبهم ، وقال المسلمون : كانوا سبعة ثامنهم كلبهم ، فحقق الله قول المسلمين بعد ما حكى قول النصارى ، فقال : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب } ، أي : ظناً وحدساً من غير يقين ، ولم يقل هذا في حق السبعة ، فقال : { ويقولون } يعني المسلمين { سبعة وثامنهم كلبهم } . اختلفوا في الواو في قوله : { وثامنهم } قيل : تركها وذكرها سواء . وقيل : هي واو الحكم والتحقيق ، كأنه حكى اختلافهم ، وتم الكلام عند قوله ويقولون سبعة ، ثم حقق هذا القول بقوله { وثامنهم كلبهم } والثامن لا يكون إلا بعد السابع . وقيل : هذه واو الثمانية ، وذلك أن العرب تعد فتقول واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية ، لأن العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة ، نظيره قوله تعالى : { التائبون العابدون الحامدون } إلى قوله : { والناهون عن المنكر } [ التوبة – 112 ] ، وقال في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً } [ التحريم – 5 ] . { قل ربي أعلم بعدتهم } أي : بعددهم { ما يعلمهم إلا قليل } أي : إلا قليل من الناس . قال ابن عباس : أنا من القليل ، كانوا سبعة . وقال محمد بن إسحاق : كانوا ثمانية . قرأ : { وثامنهم كلبهم } أي : حافظهم ، والصحيح هو الأول . وروي عن ابن عباس أنه قال : هم مكسلمينا ، وتمليخا ، ومرطونس ، وبينونس ، وسارينونس ، وذونوانس ، وكشفيططنونس ، وهو الراعي ، والكلب قطمير . { فلا تمار فيهم } أي : لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم ، { إلا مراءً ظاهراً } ، إلا بظاهر ما قصصنا عليك ، يقول : حسبك ما قصصت عليك ، فلا تزد عليه ، وقف عنده { ولا تستفت فيهم منهم } من أهل الكتاب { أحداً } أي : لا ترجع إلى قولهم بعد أن أخبرناك .

/خ23

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا} (22)

ويسدل الستار على هذا المشهد . ثم يرفع لنسمع الجدل حول أصحاب الكهف - على عادة الناس يتناقلون الروايات والأخبار ، ويزيدون فيها وينقصون ، ويضيفون إليها من خيالهم جيلا بعد جيل ، حتى تتضخم وتتحول ، وتكثر الأقاويل حول الخبر الواحد أو الحادث الواحد كلما مرت القرون :

( سيقولون : ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون : خمسة سادسهم كلبهم - رجما بالغيب ، ويقولون : سبعة وثامنهم كلبهم . قل : ربي أعلم بعدتهم . ما يعلمهم إلا قليل . فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ، ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) . .

فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه . وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة ، أو أكثر . وأمرهم موكول إلى الله ، وعلمهم عند الله . وعند القليلين الذين تثبتوا من الحادث عند وقوعه أو من روايته الصحيحة . فلا ضرورة إذن للجدل الطويل حول عددهم . والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير . لذلك يوجه القرآن الرسول [ ص ] إلى ترك الجدل في هذه القضية ، وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم . تمشيا مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد . وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق . وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله ، فليترك إلى علم الله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا} (22)

الضمير في قوله { سيقولون } يراد به أهل التوراة ، من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص ، وقرأ الجمهور الجمهور «ثلاثة » ، وقرأ ابن محيصن «ثلاث » بإدغام التاء في الثاء ، وقرأ شبل عن ابن كثير «خمَسة » بفتح الميم إتباعاً لعشرة ، وقرأ ابن محيصن «خِمِسة » بكسر الخاء والميم ، وقوله { رجماً بالغيب } معناه ظناً ، وهو مستعار من الرجم ، كأن الإنسان يرمي الموضع المشكل المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة ، يرجمه به عسى أن يصيب ، ومن هذا هو الترجمان وترجمة الكتاب ، ومنه قول زهير : [ الطويل ]

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ . . . وما هو عنها بالحديث المرجم{[7774]}

والواو في قوله { وثامنهم } طريق النحويين فيها أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم ، لتفصل أمرهم ، وتدل على أن هذا نهاية ما قيل ، ولو سقطت لصح الكلام{[7775]} . وتقول فرقة منها ابن خالويه : هي واو الثمانية ، وذكر ذلك الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشاً كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية تسعة ، فتدخل الواو في الثمانية .

قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم شرحها{[7776]} ، وهي في القرآن في قوله { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر }{[7777]} [ التوبة : 112 ] وفي قوله { وفتحت }{[7778]} [ النبأ : 19 ] ، وأما قوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً }{[7779]} [ التحريم : 5 ] ، وقوله { سبع ليال وثمانية أيام }{[7780]} [ الحاقة : 7 ] فتوهم في هذين الموضعين أنها واو الثمانية وليست بها بل هي لازمة لا يستغني الكلام عنها{[7781]} ، وقد أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم «عدتهم » إليه عز وجل ، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل ، والمراد به قوم من أهل الكتاب ، وكان ابن عباس يقول : أنا من ذلك القليل ، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، ويستدل على هذا من الآية : بأن القرآن لما حكى قول من قال «ثلاثة وخمسة » قرن بالقول أنه رجم بالغيب فقدح ذلك فيها ، ثم حكى هذه المقالة ولم يقدح فيها بشيء ، بل تركها مسجلة ، وأيضاً فيقوي ذلك على القول بواو الثمانية لأنها إنما تكون حيث عدد الثمانية صحيح ، وقوله تعالى : { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً } معناه على بعض الأقوال ، أي بظاهر ما أوحيناه إليك ، وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى ، وقيل معنى «الظاهر » أن يقول ليس كما تقولون ، ونحو هذا ، ولا يحتج هو على أمر مقرر في ذلك فإن ذلك يكون مراء في باطن من الأمر ، وقال التبريزي : { ظاهراً } معناه ذاهباً ، وأنشد :

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها . . . . {[7782]} ولم يبح له في هذه الآية أن يماري ، ولكن قوله { إلا مراء } استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب ، سميت مراجعته لهم { مراء } ، ثم قيد بأنه ظاهر ، ففارق المراء الحقيقي المذموم .

و «المراء » مشتق من المرية ، وهو الشك ، فكأنه المشاككة ، والضمير في قوله { فيهم } عائد على أهل الكهف ، وفي قوله { منهم } عائد على أهل الكتاب المعاصرين ، وقوله { فلا تمار فيهم } يعني في عدتهم ، وحذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها .


[7774]:البيت من المعلقة، والعلم والذوق يكونان في الخبرة والتجربة، و (هو) في قوله: (وما هو عنها) يعود على مفهوم من الكلام، والمعنى: وما الخبر عنها بحديث يرجم بالظن، والمرجم: الذي يرمى فيه بالظن، وهو مرضع الاستشهاد هنا، يقول: ما الحرب إلا ما قد جربتم وخيرتم وذقتم، فإياكم أن تعودوا إليها، وما الحديث عنها بحديث يرجم فيه بالظن، ولكن هو حديث التجربة المرة والخبرة القاسية، فإياكم أن تغدروا وتعودوا إلى الحرب.
[7775]:ما بين العلامتين (ولو كانت . . . ) سقط من جميع النسخ، ولم نجده إلا في النسخة التونسية.
[7776]:راجع الجزء السابع (ص 57/58).
[7777]:من الآية (112) من سورة (التوبة).
[7778]:من الآية (73) من سورة (الزمر).
[7779]:من الآية (5) من سورة (التحريم).
[7780]:من الآية (7) من سورة (الحاقة).
[7781]:وقد سبق أن تحدثنا طويلا عن واو الثمانية في سورة التوبة، (جـ 7 ـ 58)، ورجحنا قول القشيري الذي يرى أن كلام ابن خالويه في مناظرة جرت بينه وبين أبي علي الفارسي، وكلام أبي بكر بن عياش، هذا الكلام تحكم منهما، وقد نقض القرآن الكريم هذه القاعدة في قوله تعالى:{هو الله الذي لا إله إلا هو ...} الآية، حيث لم يذكر الاسم الثامن من أسماء الله عز وجل بالواو. وإنما ذكرت الواو هنا كما قال ابن عطية لتفصل أمرهم، ولتدل على أن هذا نهاية ما قيل فيهم.
[7782]:هذا عجز بيت قاله أبو ذؤيب من قصيدة يرثي بها نشيبة بن محرث، والبيت بتمامه مع بيت قبله: أبى القلب إلا أم عمرو وأصبحت تحرق ناري بالشكاة ونـــارها وعيرها الواشون أني أحبهــــــــا وتلك شكاة ظاهر عنك عارها تحرق ناري: توقدها بالشكاة، يقول: أوقدت لي نارا فاشتهرنا بها، وانتشر أمري وأمرها لما لم أقلع عن حبها، وذلك التعبير ظاهر عنك، أي: لا يلحق بك عاره، ولا يلصق بك، يقال: ظهر عن الشيء: تباعد وذهب. وهذا موضع الاستشهاد.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا} (22)

{ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل }

لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي ، فكانت مثار تخرصات في معرفة عددهم ، وحصر مدة مكثهم في كهفهم ، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصاً ، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة ، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس ، ودل عَلَم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك .

وضمير « يقولون » عائد إلى غير مذكور لأنه معلوم من المقام ، أي يقول الناس أو المسلمون ، إذ ليس في هذا القول حرج ولكنهم نُبّهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه . ومعنى سين الاستقبال سارٍ إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين ، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر .

وقد أعلم الله أن قليلاً من الخلق يعلمون عدتهم وهم من أطلعهم الله على ذلك . وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم لأن قصتهم جاءت على لسانه فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم . وروي أن ابن عباس قال : أنا من القليل .

وكأن أقوال الناس تمالأت على أن عدتهم فردية تيمناً بعدد المفرد ، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره ، وقد سمى الله قولهم ذلك رجماً بالغيب .

والرجم حقيقته : الرمي بحجر ونحوه . واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت ، قال زهير :

وما هو عنها بالحديث المرجم

والباء في { بالغيب } للتعدية ، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به .

وكل من جملة { رابعهم كلبهم } وجملة { سادسهم كلبهم } في موضع الصفة لاسم العدد الذي قبلها ، أو موضع الخبر الثاني عن المبتدأ المحذوف .

وجملة { وثامنهم كلبهم } الواو فيها واو الحال ، وهي في موضع الحال من المبتدأ المحذوف ، أو من اسم العدد الذي هو خبر المبتدأ ، وهو وإن كان نكرة فإن وقوعه خبراً عن معرفةٍ أكسبه تعريفاً . على أن وقوع الحال جملة مقترنة بالواو قد عد من مسوغات مجيء الحال من النكرة . ولا وجه لجعل الواو فيه داخلة على جملة هي صفة للنكرة لقصد تأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما ذهب إليه في « الكشاف » لأنه غير معروف في فصيح الكلام : وقد رده السكاكي في المفتاح وغير واحد .

ومن غرائب فتن الابتكار في معاني القرآن قول من زعم : إن هذه الواو واو الثمانية ، وهو منسوب في كتب العربية إلى بعض ضعَفة النحاة ولم يُعين مبتكره . وقد عد ابن هشام في « مغني اللبيب » من القائلين بذلك الحريري وبعض ضعفة النحاة كابن خالويه والثعلبي من المفسرين .

قلت : أقدمُ هؤلاء هو ابن خالويه النحوي المتوفى سنة 370 فهو المقصود ببعض ضعفة النحاة . وأحسب وصفه بهذا الوصف أخذه ابن هشام من كلام ابن المنير في « الانتصاف على الكشاف » من سورة التحريم إذ روى عن ابن الحاجب : أن القاضي الفاضل كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى : { ثيبات وأبكارا } في سورة التحريم ( 5 ) هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية . وكان القاضي يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة ، أحدها : التي في الصفة الثامنة في قوله تعالى : { والناهون عن المنكر } في سورة براءة ( 112 ) . والثانية : في قوله : { وثامنهم كلبهم } . والثالثة : في قوله : { وفُتِّحَتْ أبوابها } في الزمر ( 73 ) . قال ابن الحاجب ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكَره يوماً بحَضرة أبي الجُود النحوي المُقْري ؛ فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد إلى آخره .

وقال في « المغني » : سبق الثعلبي الفاضلَ إلى عدها من المواضع في تفسيره . وأقول : لعل الفاضل لم يطلع عليه . وزاد الثعلبي قوله تعالى : { سبع ليال وثمانية أيام حسوما } في سورة الحاقة ( 7 ) حيث قرن اسم عدد ( ثمانية ) بحرف الواو .

ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاقٌ بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن إما بلفظه كما هنا وآية الحاقة ، وإما بالانتهاء إليه كما في آية براءة وآية التحريم ، وإما بكون مسماه معدوداً بعدد الثمانية كما في آية الزمر . ولقد يعدُّ الانتباه إلى ذلك من اللطائف ، ولا يبلغ أن يكون من المعارف . وإذا كانت كذلك ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عد القاضي الفاضللِ منها آية سورة التحريم لأنها صادفت الثامنة في الذكر وإن لم تكن ثامنة في صفات الموصُوفين ، وكذلك لعد الثعلبي آية سورة الحاقة ؛ ومثل هذه اللطائف كالزهرةُ تُشم ولا تحك .

وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : { والناهون عن المنكر } في سورة براءة ( 112 ) .

وجملة { قل ربي أعلم بعدتهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً لما تثيره جملة { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم } إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم . فأجيب بأن يحال العلم بذلك على علام الغيوب . وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع وقد لا يصادفه .

وجملة { ما يعلمهم إلا قليل } كذلك مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا : هل يكون بعض الناس عالماً بعدتهم علماً غير كامل ، فأجيب بأن قليلاً من الناس يعلمون ذلك ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي وعلى كلّ حال فهم لا يوصفون بالأعلمية لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك .

{ فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا }

تفريع على الاختلاف في عدد أهل الكهف ، أي إذا أراد بعض المشركين المماراة في عدة أهل الكهف لأخبار تلقوها من أهل الكتاب أو لأجل طلب تحقيق عدتهم فلا تمارهم إذ هو اشتغال بما ليس فيه جدوى . وهذا التفريع وما عطف عليه مُعترض في أثناء القصة .

والتماري : تفاعل مشتق من المرية ، وهي الشك . واشتقاق المفاعلة يدل على أنها إيقاع من الجانبين في الشك ، فيؤول إلى معنى المجادلة في المعتقد لإبطاله وهو يفضي إلى الشك فيه ، فأطلق المراء على المجادلة بطريق المجاز ، ثم شاع فصار حقيقة لما ساوى الحقيقة . والمراد بالمراء فيهم : المراء في عدتهم كما هو مقتضى التفريع .

والمراء الظاهر : هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه . وذلك مثل قوله : { قل ربي أعلم بعدتهم } وقوله : { ما يعلمهم إلا قليل } ، فإن هذا مما لا سبيل إلى إنكاره وإبايتهِ لوضوح حجّته وما وراء ذلك محتاج إلى الحجة فلا ينبغي الاشتغال به لقلة جدواه .

والاستفتاء : طلب الفتوى ، وهي الخبر عن أمر علمي مما لا يعلمه كل أحد . ومعنى { فيهم } أي في أمرهم ، أي أمر أهل الكهف . والمراد من النهي عن استفتائهم الكناية عن جهلهم بأمر أهل الكهف ، فضمير { منهم } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { سيقولون ثلاثة } ، وهم أهل مكة الذين سألوا عن أمر أهل الكهف .

أو يكون كناية رمزية عن حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة أمرهم بحيث هو غني عن استفتاء أحد ، وأنه لا يُعلم المشركين بما علمه الله من شأن أهل الكهف ، وتكون ( من ) تعليلية ، والضمير المجرور بها عائداً إلى السائلين المتعنتين ، أي لا تسأل علم ذلك من أجل حرص السائلين على أن تعلمهم بيقين أمر أهل الكهف فإنك علِمته ولم تؤمر بتعليمهم إياه ، ولو لم يحمل النهي على هذا المعنى لم يتضح له وجه . وفي التقييد ب { منهم } مُحترز ولا يستقيم جعل ضمير { منهم } عائداً إلى أهل الكتاب ، لأن هذه الآيات مكية باتفاق الرواة والمفسرين .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا} (22)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: سيقول بعض الخائضين في أمر الفِتْية من أصحاب الكهف، هم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول بعضهم: هم خمسة سادسهم كلبهم "رجْما بالغَيْبِ": يقول: قذفا بالظنّ غير يقين علم...

وقوله: "وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامنُهُمْ كَلْبُهُمْ "يقول: ويقول بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم.

"قُلْ رَبيّ أعْلَمُ بِعِدّتِهِمْ" يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لقائلي هذه الأقوال في عدد الفتية من أصحاب الكهف رجما منهم بالغيب: "رَبّي أعْلَمُ بِعِدّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ" يقول: ما يعلم عددهم "إلاّ قَلِيلٌ" من خلقه... عن ابن عباس "ما يَعْلَمُهُمْ إلاّ قَلِيلٌ" قال: أنا من القليل؛ كانوا سبعة...

وقوله: "فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إلاّ مِرَاءً ظاهِرا" يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "فلا تمار" يا محمد: يقول: لا تجادل أهل الكتاب "فيهم"، يعني في عدّة أهل الكهف، وحُذِفت العِدّة اكتفاء بذكرهم فيها لمعرفة السامعين بالمراد... وقوله: "إلاّ مِرَاءً ظاهِرا" اختلف أهل التأويل في معنى المِراء الظاهر الذي استثناه الله، ورخص فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم؛

فقال بعضهم: هو ما قصّ الله في كتابه أبيح له أن يتلوه عليهم، ولا يماريهم بغير ذلك... وقال آخرون: المِراء الظاهر هو أن يقول: ليس كما تقولون، ونحو هذا من القول...

وقوله: "وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أحَدا" يقول تعالى ذكره: ولا تستفت في عدّة الفتية من أصحاب الكهف "منهم"، يعني من أهل الكتاب، أحدا، لأنهم لا يعلمون عدتهم، وإنما يقولون فيهم رجما بالغيب، لا يقينا من القول...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم}: قال بعضهم: كان عددهم سبعة، والثامن الكلب، لأنه ذكر في الثلاث والخمس {رجما بالغيب}... ولم يذكر في قوله: {سبعة وثامنهم كلبهم}... وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه وقال: أنا من القليل الذين استثناهم الله، وكانوا سبعة، والثامن الكلب. لعل ابن عباس قال: أنا من القليل ظنا واستدلالا بالذي ذكر، أو كان سماعا من رسول الله ذلك...

وقال الحسن وأبو بكر وغيرهما: إن الله تعالى قال: {قل ربي أعلم بعدتهم} ثم استثنى قليلا من عباده، فلا نعلم بأن أولئك القليل من الملائكة أو من البشر أو منهم، فلا ندري من هم؟ ولا كم عددهم؟ وبه نقول نحن، وهو ما قال {فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت منهم أحدا} نهى رسوله أن يستفتي فيهم منهم أحدا لما يحتمل أن يكون ذلك غير مبين في كتبهم فلا يطلع رسوله خوف التكذيب...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{سَيَقُولُونَ} الضمير لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمؤمنين، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم، فنزلت إخباراً بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم، وأنّ المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ذكر تعالى تنازع أولئك الذين هداهم الله بهم، ذكر ما يأتي من إفاضة من علم قريشاً أن تسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم في الفضول الذي ليس لهم إليه سبيل، ولا يظفرون فيه بدليل علماً من أعلام النبوة فقال تعالى: {سيقولون} أي أهل الكتاب ومن وافقهم في الخوض في ذلك بعد اعترافهم بما قصصت عليك من نبأهم بوعد لا خلف فيه: هم {ثلاثة} أشخاص {رابعهم كلبهم} ولا علم لهم بذلك، ولذلك أعراه عن الواو فدل إسقاطها على أنهم ليسوا ثلاثة وليس الكلب رابعاً {ويقولون} أي وسيقولون أيضاً: {خمسة سادسهم كلبهم}. ولما تغير قولهم حسن جداً قوله تعالى: {رجماً بالغيب} أي رمياً بالأمر الغائب عنهم الذي لا اطلاع لهم عليه بوجه {ويقولون} أيضاً دليلاً على أنه لا علم لهم بذلك: {سبعة وثامنهم كلبهم} وتأخير هذا عن الرجم -وإن كان ظناً- مشعر بأنه حق، ويؤيده هذه الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل الواو حالاً عن المعرفة في نحو

{إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: 4] فإن فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصاف الموصوف بالصفة أمر ثابت مستقر، فدلت هذه الواو على أن أهل هذا القول قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن، وفي براءة، كلام نفيس عن اتباع الوصف تارة بواو وتارة مجرداً عنها. فلما ظهر كالشمس أنه لا علم لهم بذلك كان كأنه قيل: ماذا يقال لهم؟ فقيل: {قل ربي} أي المحسن إليّ بإعلامي بأمرهم وغيره {أعلم بعدتهم} أي التي لا زيادة فيها ولا نقص، فكان كأنه قيل: قد فهم من صيغة "أعلم "أن من الخلق من يعلم أمرهم فقيل: {ما يعلمهم إلا قليل} أي من الخلق وهو مؤيد لأنهم أصحاب القول الغالب، وهو، قول ابن عباس رضي الله عنهما، وكان يقول: أنا من ذلك القليل. {فلا} أي فتسبب عن ذلك أن يقول لك على سبيل البت الداخل تحت النهي عن قفو ما ليس لك به علم: لا {تمار} أي تجادل وتراجع {فيهم} أحداً ممن يتكلم بغير ما أخبرتك به {إلا مرآء ظاهراً} أدلته، وهو ما أوحيت إليك به ولا تفعل فعلهم من الرجم بالغيب {ولا تستفت} أي تسأل سؤال مستفيد {فيهم} أي أهل الكهف {منهم} أي من الذين يدعون العلم من بني إسرائيل أو غيرهم {أحداً}.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فهذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه. وإنه ليستوي أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو سبعة، أو أكثر. وأمرهم موكول إلى الله، وعلمهم عند الله. وعند القليلين الذين تثبتوا من الحادث عند وقوعه أو من روايته الصحيحة. فلا ضرورة إذن للجدل الطويل حول عددهم. والعبرة في أمرهم حاصلة بالقليل وبالكثير. لذلك يوجه القرآن الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى ترك الجدل في هذه القضية، وإلى عدم استفتاء أحد من المتجادلين في شأنهم. تمشيا مع منهج الإسلام في صيانة الطاقة العقلية أن تبدد في غير ما يفيد. وفي ألا يقفو المسلم ما ليس له به علم وثيق. وهذا الحادث الذي طواه الزمن هو من الغيب الموكول إلى علم الله، فليترك إلى علم الله...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي، فكانت مثار تخرصات في معرفة عددهم، وحصر مدة مكثهم في كهفهم، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصاً، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس، ودل عَلَم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك.

وضمير « يقولون» عائد إلى غير مذكور لأنه معلوم من المقام، أي يقول الناس أو المسلمون، إذ ليس في هذا القول حرج ولكنهم نُبّهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه. ومعنى سين الاستقبال سارٍ إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر.

وقد أعلم الله أن قليلاً من الخلق يعلمون عدتهم وهم من أطلعهم الله على ذلك. وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم لأن قصتهم جاءت على لسانه فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم. وروي أن ابن عباس قال: أنا من القليل.

وكأن أقوال الناس تمالأت على أن عدتهم فردية تيمناً بعدد المفرد، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره، وقد سمى الله قولهم ذلك رجماً بالغيب.

والرجم حقيقته: الرمي بحجر ونحوه. واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت...

والباء في {بالغيب} للتعدية، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به...

وجملة {قل ربي أعلم بعدتهم} مستأنفة استئنافاً بيانياً لما تثيره جملة {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم} إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم. فأجيب بأن يحال العلم بذلك على علام الغيوب. وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع وقد لا يصادفه.

وجملة {ما يعلمهم إلا قليل} كذلك مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا: هل يكون بعض الناس عالماً بعدتهم علماً غير كامل، فأجيب بأن قليلاً من الناس يعلمون ذلك ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي وعلى كلّ حال فهم لا يوصفون بالأعلمية لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك.

{فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا}

تفريع على الاختلاف في عدد أهل الكهف، أي إذا أراد بعض المشركين المماراة في عدة أهل الكهف لأخبار تلقوها من أهل الكتاب أو لأجل طلب تحقيق عدتهم فلا تمارهم إذ هو اشتغال بما ليس فيه جدوى. وهذا التفريع وما عطف عليه مُعترض في أثناء القصة.

والتماري: تفاعل مشتق من المرية، وهي الشك. واشتقاق المفاعلة يدل على أنها إيقاع من الجانبين في الشك، فيؤول إلى معنى المجادلة في المعتقد لإبطاله وهو يفضي إلى الشك فيه، فأطلق المراء على المجادلة بطريق المجاز، ثم شاع فصار حقيقة لما ساوى الحقيقة. والمراد بالمراء فيهم: المراء في عدتهم كما هو مقتضى التفريع.

والمراء الظاهر: هو الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا يطول الخوض فيه. وذلك مثل قوله: {قل ربي أعلم بعدتهم} وقوله: {ما يعلمهم إلا قليل}، فإن هذا مما لا سبيل إلى إنكاره وإبايتهِ لوضوح حجّته وما وراء ذلك محتاج إلى الحجة فلا ينبغي الاشتغال به لقلة جدواه.

والاستفتاء: طلب الفتوى، وهي الخبر عن أمر علمي مما لا يعلمه كل أحد. ومعنى {فيهم} أي في أمرهم، أي أمر أهل الكهف. والمراد من النهي عن استفتائهم الكناية عن جهلهم بأمر أهل الكهف، فضمير {منهم} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {سيقولون ثلاثة}، وهم أهل مكة الذين سألوا عن أمر أهل الكهف.

أو يكون كناية رمزية عن حصول علم النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة أمرهم بحيث هو غني عن استفتاء أحد، وأنه لا يُعلم المشركين بما علمه الله من شأن أهل الكهف، وتكون (من) تعليلية، والضمير المجرور بها عائداً إلى السائلين المتعنتين، أي لا تسأل علم ذلك من أجل حرص السائلين على أن تعلمهم بيقين أمر أهل الكهف فإنك علِمته ولم تؤمر بتعليمهم إياه، ولو لم يحمل النهي على هذا المعنى لم يتضح له وجه. وفي التقييد ب {منهم} مُحترز ولا يستقيم جعل ضمير {منهم} عائداً إلى أهل الكتاب، لأن هذه الآيات مكية باتفاق الرواة والمفسرين.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل}: فلم يبين لنا الحق سبحانه عددهم الحقيقي، وأمرنا أن نترك هذا لعلمه سبحانه، ولا نبحث في أمر لا طائل منه، ولا فائدة من ورائه، فالمهم أن يثبت أصل القصة وهو: الفتية الأشداء في دينهم والذين فروا به وضحوا في سبيله حتى لا يفتنهم أهل الكفر والطغيان، وقد لجأوا إلى الكهف ففعل الله بهم ما فعل، وجعلهم آية وعبرة ومثلاً وقدوة...

أما فرعيات القصة فهي أمور ثانوية لا تقدم ولا تؤخر؛ ... لذلك أبهمهم الله لتتحقق الفائدة المرجوة من القصة، أبهمهم زماناً، أبهمهم مكاناً، وأبهمهم عدداً، وأبهمهم أشخاصاً ليشيع خبرهم بهذا الوصف في الدنيا كلها لا يرتبط بزمان ولا مكان ولا أشخاص، فحمل راية الحق، والقيام به أمر واجب وشائع في الزمان والمكان والأشخاص، وهذا هو عين البيان للقصة، وهذا هو المغزى من هذه القصة...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} لا تجادل إلا بطريقةٍ سريعةٍ يفرضها الواقع الذي من حولك... من وحي القصة... نستطيع أن نأخذ منها الفكرة التي تفرض على الإنسان الالتزام بالعقيدة، مهما كانت الضغوط كبيرةً وقاسيةً، كما تفرض عليه الهرب من مواقع الضغط الذي يسقط أمامه، إلى مواقع أكثر حريةً وانفتاحاً وثباتاً، ولكن لا ليستغرق في ذاته، بل ليعيش إيمانه، ويستعد لجولة جديدة في ساحة الصراع، من أجل اكتشاف آفاقٍ جديدةٍ، في مواقع عملٍ جديدٍ...

وبذلك يكون الثبات متصلاً بنهايات الأمور لا ببداياتها. فقد تنسحب من معركة، لا لتنهزم منها، ولكن لتأخذ موقعاً أكثر قدرةً على المواجهة، أو أوسع حريةً في مجال الحركة، لتربح المعركة بطريقة أفضل، فإن هذا يمثل الإصرار على الثبات في الموقف، أكثر مما يمثله الاندفاع الانفعالي المتهور في ساحة الصراع.