البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا} (22)

والظاهر أن الضمير في { سيقولون } عائد على من تقدم ذكرهم وهم المتنازعون في حديثهم قبل ظهورهم عليهم ، فأخبر تعالى نبيه بما كان من اختلاف قومهم في عددهم وكون الضمير عائداً على ما قلنا ذكره الماوردي .

وقيل : يعود على نصارى نجران تناظروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في عددهم .

فقالت الملكانية : الجملة الأولى ، واليعقوبية الجملة الثانية ، والنسطورية الجملة الثالثة ، وهذا يروى عن ابن عباس .

وفي الكشاف أن السيد قال الجملة الأولى وكان يعقوبياً ، والعاقب قال الثانية وكان نسطورياً ، والمسلمون قالوا الثالثة وأصابوا وعرفوا ذلك بإخبار الرسول عن جبريل عليهما الصلاة والسلام ، فتكون الضمائر في { سيقولون } { ويقولون } عائداً بعضها على نصارى نجران ، وبعضها على المؤمنين .

وعن عليّ هم سبعة نفر أسماؤهم تمليخاً ، ومكشلبيناً ومشلبينا هؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره مرنوش ، ودبرنوش ، وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره ، والسابع الراعي الذي وافقهم ، هربوا من ملكهم دقيانوس واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير انتهى .

وقال ابن عطية الضمير في قوله { سيقولون } يراد به أهل التوراة من معاصري محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص انتهى .

قيل : وجاء بسين الاستقبال لأنه كأنه في الكلام طي وإدماج ، والتقدير فإذا أجبتهم عن سؤالهم وقصصت عليهم قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم إذا سألتهم { سيقولون } .

وقرأ ابن محيصن ثلاث بإدغام الثاء في التاء ، وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين ، لأن الساكن الذي قبل الثاء من حروف اللين فحسن ذلك ، ويقولون لم يأت بالسين فيه ولا فيما بعده لأنه معطوف على المستقبل فدخل في الاستقبال ، أو لأنه أريد به معنى الاستقبال الذي هو صالح له .

وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير بفتح ميم { خمسة } وهي لغة كعشرة .

وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين ، وعنه أيضاً إدغام التنوين في السين بغير غنة .

{ رجماً بالغيب } رمياً بالشيء المغيب عنهم أو ظناً ، استعير من الرجم كأن الإنسان يرمي الموضع المجهول عنده بظنه المرة بعد المرة يرجم به عسى أن يصيب ، ومنه الترجمان وترجمة الكتاب .

وقول زهير :

وما الحرب إلاّ ما علمتم وذقتم***وما هو عنها بالحديث المرجم

أي المظنون ، وأتت هذه عقب ما تقدم ليدل على أن قائلي تلك المقالتين لم يقولوا ذلك عن علم وإنما قالوا ذلك على سبيل التخمين والحدس ، وجاءت المقالة الثالثة خالية عن هذا القيد مشعرة أنها هي المقالة الصادقة كما تقدم ذكر ذلك عن عليّ .

وعن رسول الله عن جبريل عليهما الصلاة والسلام .

وانتصب { رجماً } على أنه مصدر لفعل مضمر أي يرجمون بذلك ، أو لتضمين { سيقولون } و { يقولون } معنى يرجمون ، أو لكونه مفعولاً من أجله أي قالوا ذلك لرميهم بالخبر الخفي أو لظنهم ذلك ، أي الحامل لهم على هذا القول هو الرجم بالغيب .

و { ثلاثة } خبر مبتدأ محذوف ، والجملة بعده صفة أي هم ثلاثة أشخاص ، وإنما قدرنا أشخاصاً لأن { رابعهم } اسم فاعل أضيف إلى الضمير ، والمعنى أنه ربعهم أي جعلهم أربعة وصيرهم إلى هذا العدد ، فلو قدر { ثلاثة } رجال استحال أن يصير ثلاثة رجال أربعة لاختلاف الجنسين ، والواو في { وثامنهم } للعطف على الجملة السابقة أي { يقولون } هم { سبعة وثامنهم كلبهم } فأخبروا أولاً بسبعة رجال جزماً ، ثم أخبروا إخباراً ثانياً أن { ثامنهم كلبهم } بخلاف القولين السابقين ، فإن كلاً منهما جملة واحدة وصف المحدث عنه بصفة ، ولم يعطف الجملة عليه .

وذكر عن أبي بكر بن عياش وابن خالويه أنها واو الثمانية ، وأن قريشاً إذا تحدثت تقول ستة سبعة وثمانية تسعة فتدخل الواو في الثمانية ، وكونهما جملتين معطوف إحداهما على الأخرى مؤذن بالتثبيت في الإخبار بخلاف ما تقدم فإنهم أخبروا بشيء موصوف بشيء لم يتأخر عن الإخبار ، ولذلك جاء فيه { رجماً بالغيب } ولم يجيء في هاتين الجملتين بشيء يقدح فيهما .

وقرئ وثامنهم كالبهم أي صاحب كلبهم ، وزعم بعضهم أنهم ثمانية رجال ، واستدل بهذه القراءة وأول قوله وكلبهم على حذف مضاف ، أي وصاحب كلبهم .

وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله { وثامنهم } ليس داخلاً تحت قولهم بل لقولهم هو قوله : { ويقولون سبعة } ثم أخبر تعالى بهذا على سبيل الاستئناف ، وإذا كان استئنافاً من الله دل ذلك على أنهم ثمانية بالكلب ، وأما { رابعهم كلبهم } و { سادسهم كلبهم } فهو من جملة المحكي من قولهم ، لأن كلاً من الجملتين صفة ، وإلى أن العدة ثمانية بالكلب ذهب الأكثرون من الصحابة والتابعين وأئمة التفسير .

وقال الزمخشري : فإن قلت : فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولتين ؟ قلت : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف .

ومنه قوله عز وعلا { وما أهلكنا من قرية إلاّ ولها كتاب معلوم } وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على اتصافه أمر ثابت مستقر ، وهي الواو التي آذنت بأن الذين قالوا { سبعة وثامنهم كلبهم } قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم انتهى .

وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون ، بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلاّ إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالاً على المغايرة ، وأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف هذا في الأسماء المفردة ، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها ، وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه ، وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل هو على أن وليس باسم ولا فعل صفة لقوله لمعنى ، وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة .

وأما قوله تعالى { إلاّ ولها } فالجملة حالية ويكفي رداً لقول الزمخشري : إنّا لا نعلم أحداً من علماء النحو ذهب إلى ذلك ، ولما أخبر تعالى عن مقالتهم واضطرابهم في عددهم أمره تعالى أن يقول { قل ربي أعلم بعدتهم } أي لا يخبر بعددهم إلا من يعلمهم حقيقة وهو الله تعالى { ما يعلمهم إلا قليل } والمثبت في حق الله تعالى هو الأعلمية وفي حق القليل العالمية فلا تعارض .

قيل : من الملائكة .

وقيل : من العلماء وعلم القليل لا يكون إلاّ بإعلام الله .

وقال ابن عباس : أنا من القليل ،

ثم نهاه تعالى عن الجدال فيهم أي في عدتهم ، والمراء وسمى مراجعته لهم { مراء } على سبيل المقابلة لمماراة أهل الكتاب له في ذلك ، وقيده بقوله ظاهراً أي غير متعمق فيه وهو إن نقص عليهم ما أوحي إليك فحسب من غير تجهيل ولا تعنيف كما قال { وجادلهم بالتي هي أحسن } وقال ابن زيد : { مراء ظاهراً } هو قولك لهم ليس كما تعلمون .

وحكي الماوردي إلاّ بحجة ظاهرة .

وقال ابن الأنباري : إلاّ جدال متيقن عالم بحقيقة الخبر ، والله تعالى ألقى إليك ما لا يشوبه باطل .

وقال ابن بحر : { ظاهراً } يشهده الناس .

وقال التبريزي : { ظاهراً } ذاهباً بحجة الخصم .

وأنشد :

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها . . .

أي ذاهب ، ثم نهاه أن يسأل أحداً من أهل الكتاب عن قصتهم لا سؤال متعنت لأنه خلاف ما أمرت به من الجدال بالتي هي أحسن ، ولا سؤال مسترشد لأنه تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم ،