فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا} (22)

{ سيقولون } هؤلاء القائلون بأنهم ثلاثة أو خمسة أو سبعة وهم المتنازعون في عددهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمسلمين ، وقيل هم أهل الكتاب خاصة ، قال السدي : هم اليهود ، وعلى كل تقدير فليس المراد أنهم جميعا قالوا جميع ذلك بل قال بعضهم بكذا وبعضهم بكذا .

قيل إنما أتى بالسين في هذا لأن في الكلام طيا وإدماجا تقديره فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم سيقولون ، ولم يأت بها في باقي الأفعال لأنها معطوفة على ما فيه السين فأعطيت حكمه من الاستقبال ، والمعنى يقولون لك يا محمد ويخبرونك على ثلاثة أقوال :

الأولان : للنصارى . والثالث : للمؤمنين .

{ ثلاثة رابعهم كلبهم } أي هم ثلاثة أشخاص حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم { ويقولون خمسة سادسهم كلبهم } الكلام فيه كالكلام فيما قبله قاله السدي : هم النصارى ، وقيل اليهود كما في البيضاوي .

قال أبو علي الفارسي : قوله رابعهم كلبهم وسادسهم كلبهم جملتان استغنيا عن حرف العطف فيهما بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى وهي قوله ثلاثة والتقدير هم ثلاثة . هكذا حكاه الواحدي .

{ رجما بالغيب } أي راجمين أو يرجمون رجما والرجم بالغيب هو القول بالظن والحدس من غير يقين و دليل ولا برهان كما قاله الطيبي وغيره والموصوفون بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين القائلون بأنهم ثلاثة والقائلون بأنهم خمسة ، قال قتادة : رجما قذفا بالظن ، ولم يقل هذا في السبعة وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه ، والرجم بمعنى الرمي وهو استعارة للتكلم بما لم يطلع عليه لخفائه عنه تشبيها له بالرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضا والباء فيه للتعدية على تشبيه الظن بالحجر المرمي على طريق الكناية . { ويقولون } أي المؤمنون يعني قالوه بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليه السلام { سبعة وثامنهم كلبهم } وكان قول هذه الفرقة أقرب إلى الصواب بدليل عدم إدخالهم في سلك الراجمين بالغيب ، قيل وإظهار الواو في هذه الجملة يدل على أنها مرادة في الجملتين الأوليين ، وعلى رأي الأخفش والكوفيين الواو زائدة لأن وجودها في الكلام كالعدم في عدم إفادة أصل معناها . قاله الكرخي .

وقيل زائدة لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت ، وهذا ما جنح إليه الزمخشري وصرح به البيضاوي واختاره ابن هشام ، وقيل إنها واو العطف كأنه قيل هم سبعة وثامنهم كلبهم ، وقيل واو الحال فيؤول المعنى إلى أنهم يقولون ذلك مع هذا الحال وهو كون ثامنهم كلبهم واقعا لا محالة ويلزم منه أن يكونوا سبعة .

قال ابن هشام : وقول جماعة الأدباء كالحريري ومن النحويين كابن خالويه ومن المفسرين كالثعلبي أنها واو الثمانية لا يرضاه نحوي لأنه لا يتعلق به حكم إعرابي ولا سر معنوي . قال الكرخي : هي في التحقيق واو العطف ، لكن لما اختص استعمالها بمحل مخصوص تضمنت أمرا غريبا واعتبارا لطيفا ناسب أن تسمى باسم غير جنسها فسميت بواو الثمانية لمناسبة بينها وبين السبعة ، وذلك لأن السبعة عندهم عقد تام كعقود العشرات لاشتمالها على أكثر مراتب أصول الأعداد ، والثمانية عقد مستأنف فكان بينهما اتصال من وجه وانفصال من وجه ، وهذا هو المقتضي للعطف . وهذا المعنى ليس موجودا بين السبعة والستة . انتهى ملخصا من الكرخي .

ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المختلفين في عددهم بما يقطع التنازع بينهم فقال : { قل ربي أعلم } أي أقوى علما وأزيد في الكيفية { بعدتهم } منكم أيها المختلفون ، فإن مراتب اليقين متفاوتة في القوة ، وهذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل العالم والكائنات فيه في الماضي والمستقبل لا يكون إلا لله تعالى أومن أخبرهم الله سبحانه . ثم أثبت العلم على ذلك لقليل من الناس فقال : { ما يعلمهم } أي ما يعلم ذواتهم فضلا عن عددهم ، أو ما يعلم عددهم على حذف المضاف { إلا قليل } من الناس عن ابن مسعود قال : أنا من القليل كانوا سبعة . وعن ابن عباس قال السيوطي بسند صحيح أنا من أولئك القليل كانوا سبعة ، ثم ذكر أسماءهم .

وذكر بعض المفسرين لأسمائهم خواص ومنافع ليست من التفسير في شيء ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف فقال :

{ فلا تمار فيهم } أي لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم ، و المراء في اللغة الجدال ، يقال مارى يماري مماراة ومراء أي جادل . قال ابن عباس : يقول حسبك ما قصصت عليك ، ثم استثنى سبحانه من المراء ما كان ظاهرا واضحا فقال : { إلا مراء ظاهرا } أي غير متعمق فيه ، وهو أن يقص عليهم ما أوحى الله إليه فحسب من غير تجهيل لهم ومن غير رد عليهم .

وقال الرازي : هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد ، بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف .

ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شانهم فقال : { ولا تستفت فيهم } أي في شأنهم { منهم } أي من الخائضين فيهم { أحدا } منهم لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي . وهاهنا الأمر بالعكس ولا سيما في واقعة أهل الكهف ، وفيما قص الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له .

قال ابن عباس : يعني اليهود ، وقال القرطبي : النصارى وهو الأولى ، قال البيضاوي : لا تسأل سؤال مسترشد ولا سؤال متعنت ، يريد فضيحة المسئول وتزييف ما عنده فإنه يخل بمكارم الأخلاق ، وفي الآية دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم .