غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا} (22)

1

{ سيقولون } يعنى الخائضين في قصتهم من المؤمنين ومن أهل الكتاب المعاصرين وكان كما أخبر فكان معجزاً ، يروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبياً هم { ثلاثة رابعهم كلبهم } وقال العاقب وكان نسطورياً هم { خمسة وسادسهم كلبهم } فزيف الله قولهما بأن قال : { رجماً بالغيب } أي يرمون رمياً بالخبر الخفي يقال : فلان يرمي بالكلام رمياً أي يتكلم من غير تدبر . وكثيراً ما يقال رجم بالظن . مكان قولهم ظن . وقال المسلمون . هم سبعة ثامنهم كلبهم . قال العلماء : وهذا قول محقق عرفه المسلمون بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لسان جبرائيل عليه السلام . والذي يدل عليه أمور منها ما روي عن علي عليه السلام أنهم سبعة تقرأ أسماؤهم . يمليخا ومكشلينيا ومشلينيا - هؤلاء أصحاب يمين الملك - وكان عن يساره مرنوس ودبرنوش وشادنوش . وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره ، والسابع الراعي الذي وافقهم واسمه كفشططوش . واسم مدينتهم أفسوس ، واسم كلبهم قطمير . وقيل ريان . عن ابن عباس : أن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ، ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد ، وللحرث تكتب على القرطاس . وترفع على خشب منصوب في وسط الزرع ، وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه . والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ، ولعسر الولادة تشد على فخذها الأيسر ، ولحفظ المال والركوب في البحار والنجاة من القتل . ومنها قول صاحب الكشاف إن الواو في قوله { وثامنهم } هي التي تدخل على الجملة والواقعة صفة للنكرة في قولك " جاءني رجل ومعه آخر " كما تدخل على الجملة الواقعة حالاً من المعرفة في قولك " مررت بزيد ومعه سيف " وفائدته توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر لأن الواو مقتضاها الجمعية وكأنهم وصفوا بكونهم سبعة مرتين بخلاف القولين الأولين فإنهم وصفوا بما وصفوا مرة واحدة . ولقائل أن يقول : إن العاطف لا يوسط بين الوصف والموصوف ألبتة لشدة الاتصال بينهما ، ومقتضى الواو هو الحالة المتوسطة بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع . بل الواو للعطف عطف الجملة على الجملة وإما للحال وجاز لأنهم لم يسوغوا إذا الحال نكرة ، لا مكان التباس الحال بالصفة في نحو قولك " رأيت رجلاً راكباً " وههنا الالتباس مرتفع لمكان الواو . ومنها بعضهم إن الضمير في قوله : { ويقولون سبعة } لله تعالى والجمع للتعظيم . ومنها قول ابن عباس حين وقعت الواو انقطعت العدّة أي لم تبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات . ومنها أنه خص القولين الأولين بزيادة قوله : { رحيماً بالغيب } وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه ، فمن البعيد أن يذكر الله تعالى جملة الأقوال الباطلة ولا يذكر الحق على أنه سبحانه منعه عن المناظرة معهم وعن الاستفتاء منهم في هذا الباب ، وهذا المنع إنما يصح إذا علمه حكم هذه الواقعة . وأيضاً الله تعالى قال : { ما يعلمهم إلا قليل } ويبعد أن لا يحصل العلم بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ويحصل لغير النبي صلى الله عليه وسلم كعلي وابن عباس حسين قال : أنا من أولئك القليل . وقد عرفت قولهما في هذا الباب . وإذا حصل فالظاهر أنه حصل بهذا الوحي لأن الأصل فيما سواه العدم . وقيل : الضمير في { سيقولون } لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وقوله سبحانه في الموضعين الأخيرين و{ يقولون } بغير السين لا ريب أنهما للاستقبال أيضاً إلا أن ذلك يحتمل أن يكون لأجل الصيغة التي تصلح له ، وأن يكون لتقدير السين بحكم العطف كما تقول : قد أكرم وأنعم أي وقد أنعم . أما فائدة تخصيص الواو في قوله : { وثامنهم } فقد عرفت آنفاً وقد يقال : إن لعدد السبعة عند العرب تداولاً على الألسنة في مظان المبالغة من ذلك قوله تعالى : { إن تستغفر لهم سبعين مرة } [ التوبة : 8 ] لأن هذا العدد سبعة عقودٍ ، فإذا وصلوا إلى الثامنة ذكروا لفظاً يدل على الاستئناف كقوله في أبواب الجنة { وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] وكقوله ثيبات وأبكاراً } [ التحريم : 5 ] وزيف القفال هذا الوجه بقوله تعالى : { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } [ الحشر : 22 ] وذلك لم يذكر الواو في النعت الثامن . والانصاف أن هذا التزييف ليس في موضعه لأن وجود الواو هو الذي يفتقر إلى التوجيه ، وأما عدمه فعلى الأصل وبين التوجيه والإيجاب بون بعيد ، والقائل بصدد الأول دون الأخير . ثم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف ثم قال : { الأمراء ظاهراً } فقال جار الله : أي جد إلا غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل ولا تعنيف . وقال في التفسير الكبير : المراد أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف . ثم نهاه عن الاستفتاء منهم في شأنهم لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي وههنا الأمر بالعكس ولاسيما في باب واقعة أصحاب الكهف كما بينا . ولنذكر ههنا مسألة جواز الكرامات وما تتوقف هي عليه فنقول : الولي مشتق من الولي وهو القرب . فقيل : " فعيل " بمعنى " فاعل " كعليم وقدير وذلك أنه توالت طاعاته من غير تخلل معصية . وقيل : بمعنى " مفعول " كقتيل وذلك أن الحق سبحانه تولى حفظه وحراسته وقرب منه بالفضل والإحسان ، فإذا ظهر فعل خارق للعادة على إنسان فإن كان مقروناً بدعوى الإلهية كما نقل أن فرعون كانت تظهر على يده الخوارق ، وكما ينقل أن الدجال سيكون منه ذلك فهذا القسم جوزه الأشاعرة لأن شكله وخلقه يدل على كذبه فلا يفضي إلى التلبيس وإن كان مقروناً بدعوى النبوة . فإن كان صادقاً وجب أن لا يحصل له المعارض ، وإن كان كاذباً وجب . ويمكن أن يقال : إن الكاذب يستحيل أن يظهر منه الفعل الخارق وإليه ذهب جمهور المعتزلة ، وخالفهم أبو الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وجوزا ظهور خوارق العادات على من كان مردوداً على طاعة الله وسموه بالاستدراج . وقد يفرق بين النبي الصادق والساحر الخبيث بالدعاء إلى الخير والشر وإن كان مقروناً بدعوى الولاية فصاحبه هو الولي ، ومن المحققين من لم يجوّز للولي دعوى الولاية لأنه مأمور بالإخفاء كما أن النبي مأمور بالإظهار . ثم إن المعتزلة أنكروا كرامات الأولياء وأثبتها أهل السنة مستدلين بالقرآن والأخبار والآثار والمعقول . أما القرآن فكقصة مريم ونبأ أصحاب الكهف . قال القاضي : لا بد أن يكون في ذلك الزمان نبي تنسب إليه تلك الكرامات . وأجيب في التفسير الكبير بأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأحد ، وأما قيامهم من النوم بعد ثلثمائة سنة فهذا أيضاً لا يمكن جعله معجزة لأن الناس لا يصدقونهم في هذه الواقعة لأنهم لا يعرف كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلثمائة وتسع سنين ، وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء ، فلم يبق إلا أن تجعل كرامة لهم . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون نفس بعثهم معجز النبي هذا الزمان ؟ وأما أن ذلك البعث بعد نوم طويل فيعرف بأمارات أخر كما مر من حديث الدرهم وغيره . وأما الأخبار فمنها ما أخرج في الصحاح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصبي في زمان جريج وصبي آخر . أما عيسى فقد عرفتموه ، وأما جريج فكان رجلاً عابداً في بني إسرائيل وكانت له أم وكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت : يا جريج فقال : يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى . فدعته ثانياً مثل ذلك حتى كان ذلك ثلاث مرار . وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمة فقالت : اللَّهم لا تمته حتى تريه المومسات . وكانت في بني إسرائيل زانية فقالت لهم : أنا أفتن جريجاً حتى يزني فأتته فلم تقدر عليه شيئاً وكان هناك راع يأوى بالليل إلى أصل صومعته فأرادت الراعي على نفسها فأتاها فولدت غلاماً وقالت : ولدي هذا من جريج . فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام . قال أبو هريرة : كأنى أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين قال بيده يا غلام من أبوك ؟ فقال : فلان الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب وفضة فأبى عليهم وبناها كما كانت . وأما الصبي الآخر فإن امرأة كانت معها صبي ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة فقالت : اللَّهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي : اللَّهم لا تجعلني مثله . ثم مر بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت : اللَّهم لا تجعل ابني مثل هذه . فقال : اللَّهم اجعلني مثلها . فقالت له أمه في ذلك فقال : إن الراكب جبار من الجبابرة وإن هذه قيل لها سرقت ولم تسرق وزنيت ولم تزن هي تقول حسبي الله " ومنها ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا إنه والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوماً فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللَّهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه . ثم قال الآخر اللَّهم إنه كانت في ابنة عم وكانت أحب الناس إليّ فأردتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالاً عظيماً على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت لا آذن لك أن تفك الخاتم إلا بحقه فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللَّهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه . فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم قال الثالث اللَّهم إني استأجرت أجراء أعطيتهم أجورهم غير رجل واحد منهم ترك الذي له وذهب فثمرت أجرته حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدّ إليّ أجرتي فقلت له كل ما ترى من الإبل والغنم والرقيق من أجرتك فقال يا عبد الله لا تستهزىء بي فقلت إني لا أستهزىء بأحد فأخذ ذلك كله اللَّهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون " وهذا حديث صحيح متفق عليه . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره " ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله . ومنها رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا التفتت البقرة وقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس : سبحان الله ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر " ومنها رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " بينا رجل سمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال فغدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له : ما اسمك ؟ قال : فلان ابن فلان . فقلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها ؟ قال : ولم تسأل عن ذلك ؟ قلت : لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان . قال : أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً " وأما الآثار فمن كرامات أبي بكر الصديق أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد فتح فإذا هاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب .

ومن كرامات عمر ما روي أنه بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية بن حصين . فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته يا سارية الجبل الجبل . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : وكتبت تاريخ هذه الكلمة . فقدم رسول ذلك الجيش . فقال : يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فدعمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة . قال بعض العلماء : كان ذلك بالحقيقة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قال لأبي بكر وعمر : أنتما مني بمنزلة السمع والبصر . فلما كان عمر بمنزلة البصر لا جرم قدر على رؤية الجيش من بعد . ومنها ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه فيه جارية حسناء . فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الحالة إلى عمر . فكتب عمر على الخزف : من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا فيك ، وإن كنت تجري بأمر الله فاجر على بركة الله . وأمر أن يلقى الخزف في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك . ووقعت الزلزلة بالمدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال : اسكني بإذن الله فسكنت . ووقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة : يا نار اسكني بإذن الله تعالى فألقوها في النار فانطفأت في الحال . ويروى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا : ليس له ذلك إنما هو في الصحراء يضرب اللبن . فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر واضعاً درته تحت رأسه وهو نائم على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال في نفسه : أهل الشرق والغرب يخافون منه وهو على هذه الصفة فسل سيفه ليقتله فأخرج الله أسدين من الأرض فقصداه فخاف فألقى السيف فانتبه عمر وأسلم الرجل . قال أهل السير : لم يتفق لأحد من أول عهد إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ، ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات . وأما عثمان فعن أنس قال : مررت في طريق فوقعت عيني على امرأة ثم دخلت على عثمان فقال : ما لي أراكم تدخلون عليّ وآثار الزنا عليكم ؟ ! فقلت : أوحي نزل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا ولكن فراسة صادقة . وقيل : لما طعن بالسيف فأول قطرة سقطت من دمه سقطت على المصحف على قوله : { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [ البقرة : 137 ] . ويروى أن جهجاهاً الغفاري انتزع العصا من يده وكسرها في ركبته فوقعت الآكلة في ركبته .

وأما علي صلوات الله عليه فيروى أن واحداً من أصحابه سرق وكان عبداً أسود فأتي به إلى علي عليه السلام فقال : أسرقت ؟ قال : نعم . فقطع يده فانصرف من عند علي رضي الله عنه فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء فقال ابن الكواء : من قطع يدك ؟ قال : أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول . فقال : قطع يدك وتمدحه . قال : ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار . فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً رضي الله عنه فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات ، فسمعنا صوتاً من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعنا الرداء فإذا اليد كما كانت بإذن الله تعالى . وأما سائر الصحابة فعن محمد بن المنذر أنه قال : ركبت البحر فانكسرت السفينة التي كنت فيها فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة فيها أسد ، فخرج إليّ أسد فقلت : يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعني ورجع . وروى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار خرجاً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذهب من الليل قطع ، وكانت ليلة مظلمة وفي يد كل واحد منهما عصاه فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها ، فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه حتى مشى في ضوئها وبلغ منزله . وقيل لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلاً فطاف في العسكر فرأى رجلاً على فرس ومعه زق من خمر فقال : ما هذا ؟ فقال : خل . فقال خالد : اللَّهم اجعله خلاً . فذهب الرجل إلى أصحابه وقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها . فلما فتحوا فإذا هي خل . فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل . فقال : هذه والله دعوة خالد . ومن الوقائع المشهورة أن خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وما ضره . وعن ابن عمر أنه كان في بعض أسفاره فلقي جماعة على طريق خائفين من السبع فطرد السبع عن طريقهم ثم قال : إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينه وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم فمشوا على الماء . وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات كثيرة ولاسيما في كتاب تذكرة الأولياء ومن أرادها فليطالعها .

وأما المعقول فهو أن الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب لقوله { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] فإذا بلغ العبد في طاعته مع عجزه إلى حيث يفعل كل ما أمره الله . فأي بعد في أن يفعل الرب مع غاية قدرته وسعة جوده مرة واحدة ما يريد العبد . وأيضاً لو امتنع إظهار الكرامة فذلك إما لأجل أن الله تعالى ليس أهلاً له فذلك قدح في قدرته ، وإما لأن المؤمن ليس أهلاً له وهو بعيد لأن معرفة الله والتوفيق على طاعته أشرف العطايا وأجزلها ، وإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلأن لا يبخل بالأدون أولى ومن هنا قالت الحكماء : إن النفس إذا قويت بحسب قوتها العلمية والعملية تصرفت في أجسام العالم السفلي كما تتصرف في جسده . قلت : وذلك أن النفس نور ولا يزال يتزايد نوريته وإشراقه بالمواظبة على العلم والعمل وفيضان الأنوار الإلهية عليه حتى ينبسط ويقوى على إنارة غيره والتصرف فيه ، والوصول إلى مثل هذا المقام هو المعني بقول علي بن أبي طالب صلوات الله عليه . والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية . حجة المنكرين للكرامات أن ظهور الخوارق دليل على النبوة ، فلو حصل لغير النبي لبطلت هذه الدلالة . وأجيب بالفرق بين المعجز والكرامة بأن المعجز مقرون بدعوى النبوة والكرامة مقرونة بدعوى الولاية . وأيضاً النبي يدعي المعجزة ويقطع بها . والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها ، وأيضاً أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة . جميع هذا عند من يجوّز للولي دعوى الولاية ، وأما من لا يجوّز ذلك من حيث إن النبي مأمور بالإظهار لضرورة الدعوة والولي ليس كذلك ولكن إظهاره يوجب طلب الإشهار والفخر المنهي عنهما ، فإنه يفرق بينهما بأن المعجز مسبوق بدعوى النبوة ، والكرامة غير مسبوقة بشيء من الدعاوى قالوا : قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله سبحانه : " لن يتقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم " لكن المتقرب إلى الله بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات ، فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى بأن لا يحصل له ذلك . وأجيب بأن الكلام في المتقرب إليه بأداء الفرائض والنوافل جميعاً . قالوا : قال تعالى : { وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس } [ النحل : 7 ] فالقول بطيّ الأرض للأولياء طعن في الآية وطعن في محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يصل من المدينة إلى مكة إلا في أيام . وأجيب بأن الآية وردت على ما هو المعهود المتعارف وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة من ذلك العموم ، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن قاصراً عن رتبة بعض الأولياء ولكنه لم يتفق له ذلك ، أو لعله اتفق له في غير ذلك السفر قالوا : إذا ادعى الولي على إنسان درهماً فإن لم يطالبه بالبينة كان تاركاً لقوله : " البينة على المدعي . " وإن طالبه كان عبثاً لأن ظهور الكرامة عليه دليل قاطع على أنه لا يكذب ومع الدليل القاطع لا يجوز العمل بالظن . والجواب مثل ما مر من أن النادر لا يحكم به . قالوا : لو جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء لجاز على كلهم ، وإذا كثرت الكرامات انقلب خرق لعادة وفقاً لها . وأجيب بأن المطيعين فيهم قلة لقوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ :13 ] والولي فيهم أعز من الكبريت الأحمر ، واتفاق الكرامة للولي أيضاً على سبيل الندرة فكيف يصير ما يظهر عليه معتاداً ؟ ! في الفرق بين الكرامات والاستدراج هو أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وقد يسمى مكراً وكيداً وضلالاً وإملاء ، والفرق أن صاحب الكرامة لا يستأنس بها ولكنه يخاف سوء الخاتمة ، وصاحب الاستدراج يسكن إلى ما أوتي ويشتغل به ، وإنما كان الاستئناس بالكرامات قاطعاً للطريق لأنه حينئذ اعتقد أنه مستحق لذلك وأن له حقاً على الخالق فيعظم شأنه في عينه ويفتخر بها لا بالمكرم ، ولا ريب أن الإعجاب مهلك ولهذا وقع إبليس فيما وقع ، والعبد الصالح هو الذي يزداد تذلله وتواضعه بين يدي مولاه بازدياد آثار الكرامة والولاية عليه ، قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبى علي الدقاق { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر : 10 ] فقال : علامة رفع العمل أن لا يبقى منه في نظرك شيء ، فإن بقي فهو غير مرفوع . واختلف في أن الولي هل يعرف كونه ولياً ؟ . قال الأستاذ أبو بكر بن فورك : لا يجوز لأن ذلك يوجب الأمن { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] والأمن ينافي اعتقاد قهارية الله تعالى ويقتضي زوال العبودية الموجب لسخط الله . وكيف يأمن الولي وقد وصف الله عباده المخلصين بقوله : { ويدعوننا رغباً ورهباً } [ الأنبياء : 90 ] وأيضاً إن طاعة العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأنها محدثة متناهية وصفاته قديمة غير متناهية ، والمحدث المتناهي لا يغلب القديم غير المتناهي . فقد يكون العبد في عين المعصية ونصيبه في الأزل هو المحبة وقد يكون في عين الطاعة ونصيبه المبغضية ، ولهذا لا يحصل الجزم بكيفية الخاتمة . قيل : من هنا قال سبحانه : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] ولم يقل من عمل حسنة . ومن كانت محبته لا لعلة امتنع أن يصير عدوّاً لعلة المعصية وبالعكس ، ومحبة الحق وعداوته من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا الله أو من أطلعه عليها الله . وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري : إن للولاية ركنين : أحدهما انقياد للشريعة في الظاهر ، والثاني كونه في الباطن مستغرقاً في نور الحقيقة فإذا حصل هذان الأمران وعرف الإنسان ذلك عرف لا محالة كونه ولياً ، وعلامته أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله . قلت : لا ريب أن مداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة ، ودون الوصول إلى عالم الربوبية حجب وأستار من نيران وأنوار ، فالجزم بالولاية خطر والقضاء بالمحبة عسر والله تعالى أعلم .

/خ26