قوله : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ } : قيل : إنَّما أتي بالسِّين في هذا ؛ لأنَّ في الكلام طيًّا وإدماجاً ، تقديره : فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصَّة أهل الكهف ، فسلهم عن عددهم ، فإنهم سيقولون . ولم يأت بها في باقية الأفعال ؛ لأنها معطوفة على ما فيه السين ، فأعطيت حكمه من الاستقبال .
وقرأ ابن محيصن{[20939]} " ثلاثٌ " بإدغام الثاء المثلثة في تاء التأنيث ؛ لقرب مخرجيهما ، ولأنهما مهموسان ، ولأنهما بعد ساكن معتل .
{ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } الجملة في محل رفع صفة ل " ثَلاثَة " .
قوله : { وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ } قرأ ابن كثير{[20940]} في رواية بفتح الميم ، وهي لغة كعشرةٍ ، وقرأ ابن محيصن{[20941]} بكسر الخاء والميم ، وبإدغام التاء في السين ، يعني تاء " خمسةٌ " في سين " سادسهم " وهي قراءة ثقيلة جداً ؛ لتوالي كسرتين وثلاث سيناتٍ ، قال شهاب الدين : ولا أظن مثل هذا إلا غلطاً على مثله ، وروي عنه إدغام التنوين في السين من غير غنَّة .
و " ثَلاثةٌ " و " خَمسةٌ " و " سَبعةٌ " إخبار لمبتدأ محذوف مضمرٍ ، أي : هم ثلاثة ، وهم خمسة ، وهم سبعة ، وما بعد " ثلاثة " و " خمسة " من الجملة صفة لهما ، كما تقدَّم ، ولا يجوز أن تكون الجملة حالاً ، لعدم عامل فيها ، ولا يجوز أن يكون التقدير : هؤلاء ثلاثة ، وهؤلاء خمسةٌ ، ويكون العامل اسم الإشارة أو التنبيه ، قال أبو البقاء{[20942]} : لأنَّها إشارةٌ إلى حاضر ، ولم يشيروا إلى حاضر " .
قوله : { رَجْماً بالغيب } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه مفعولٌ من أجله ؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغيب .
والثاني : أنه في موضع الحال ، أي : ظانِّين .
والثالث : أنه منصوب ب " يَقُولونَ " لأنه بمعناه .
والرابع : أنه منصوب بمقدر من لفظه ، أي : يرجمون بذلك رجماً .
والرَّجمُ في الأصل : الرَّميُ بالرِّجامِ ، وهي الحجارة الصِّغارُ ، ثم عبِّر به عن الظنِّ ، قال زهير : [ الطويل ]
ومَا الحَربُ إلاَّ ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم *** ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ{[20943]}
قوله : " وثامنُهم " في هذه الواو أوجهٌ :
أحدها : أنها عاطفة ، عطفت هذه الجملة على جملة قوله " هُم سَبْعةٌ " فيكونون قد أخبروا بخبرين ، الأول : أنهم سبعة رجالٍ على البتِّ . والثاني أنَّ ثامنهم كلبهم ، وهذا يؤذنُ بأن جملة قوله { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } من كلام المتنازعين فيهم .
الثاني : أن الواو للاستئناف ، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك ، قال هذا القائل : وجيء بالواو ؛ لتعطي انقطاع هذا ممَّا قبله .
الثالث : أنها الواو الداخلة على الصفة ؛ تأكيداً ، ودلالة على لصق الصفة بالموصوف ، وإليه ذهب الزمخشري ، ونظره بقوله : { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] .
وردَّ أبو حيَّان عليه : بأنَّ أحداً من النحاة لم يقله ، وقد تقدَّم الكلام عليه في ذلك .
الرابع : أنَّ هذه تسمَّى واو الثمانية ، وأنَّ لغة قريشٍ ، إذا عدُّوا يقولون : خمسةٌ ستَّة سبعة ، وثمانية تسْعةٌ ، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة ، ذكر ذلك ابن خالويه ، وأبو بكر راوي عاصم ، قلت : وقد قال ذلك بعضهم في قوله تعالى : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] في الزمر ، فقال : دخلت في أبواب الجنة ؛ لأنها ثمانية ، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنَّم ؛ لأنها سبعة ، وسيأتي هذا ، إن شاء الله .
قال أصحاب هذا القول : إنَّ السبعة عند العرب أمثل في المبالغة في العدد ؛ قال تعالى : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } [ التوبة : 80 ] .
ولما كان كذلك ، فلما وصلوا إلى الثَّمانية ، ذكروا لفظاً يدلُّ على الاستئناف فقالوا : وثمانية ، فجاء هذا الكلام على هذا القانون ، قالوا : ويدلُّ عليه قوله تعالى : { والناهون عَنِ المنكر } [ التوبة : 112 ] ؛ لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة .
وقوله : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] لأن أبواب الجنة ثمانيةٌ ، وأبواب النَّار سبعة ، فلم يأتِ بالواو فيها .
وقوله : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] هو العدد الثامن مما تقدَّم .
قال القفال{[20944]} : وهذا ليس بشيء ؛ لقوله تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر } [ الحشر : 23 ] ولم يذكر الواو في النَّعت الثامن .
وقرئ : " كَالبُهمْ " {[20945]} أي : صاحب كلبهم ، ولهذه القراءةِ قدَّر بعضهم في قراءة العامة : وثامنهم صاحب كلبهم .
وثلاثةٌ وخمسةٌ وسبعةٌ : مضافة لمعدودٍ محذوف ، فقدَّره أبو حيان : ثلاثة أشخاص ، قال : " وإنَّما قدَّرنا أشخاصاً ؛ لأنَّ رابعهم اسم فاعل أضيف إلى الضمير ، والمعنى : أنه ربعهم ، أي : جعلهم أربعة ، وصيَّرهم إلى هذا العدد ، فلو قدَّرناه رجالاً ، استحال أن يصيِّر ثلاثة رجالٍ أربعة ؛ لاختلافِ الجنسين " وهو كلامٌ حسنٌ .
وقال أبو البقاء{[20946]} : " ولا يعمل اسم الفاعل هنا ؛ لأنه ماض " قلت : يعني أنَّ رابعهم فيما مضى ، فلا يعمل النصب تقديراً ، والإضافة محضة ، وليس كما زعم ، فإنَّ المعنى على : يصير الكلب لهم أربعة ، فهو ناصبٌ تقديراً ، وإنما عمل ، وهو ماضٍ ؛ لحكاية الحال ك " بَاسِطٌ " .
روي أن السيِّد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران ، كانوا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف ، فقال السيِّد - وكان يعقوبياً - : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم .
وقال العاقبُ - وكان نُسطوريًّا- : كانوا خمسة سادسهم كلبهم .
وقال المسلمون : كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ، فحقَّق الله قول المسلمين بعدما حكى قول النصارى ، فقال : " سَيقُولونَ ثَلاثةٌ رابعهُم كَلْبهُم ، ويَقُولونَ خَمسَةٌ سَادسهُمْ كَلبُهمْ رجماً بالغيب ويَقُولونَ : سَبْعةٌ وثَامنهُمْ كَلبُهمْ " {[20947]} .
قوله : { رَجْماً بالغيب } أي : ظنًّا وحدساً من غير يقينٍ ، ولم يقل هذا في السبعة ، فقال : { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } .
قال أكثر المفسرين : هذا هو الحقُّ ؛ ويدلُّ عليه وجوهُ{[20948]} :
الأول : أنَّ الواو في قوله : { وَثَامِنُهُمْ } هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنَّكرة ، كما تدخل على الجملة الواقعة حالاً عن المعرفة في قولك : " جَاءنِي رجلٌ ، ومَعهُ آخَرُ " ومررت بزيدٍ ، ومعه سيفٌ ، ومنه قوله :
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] .
وفائدتها : تأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أنَّ اتصافه به أمرٌ ثابتٌ مستقرٌّ ، فكانت هذه الواو دالة على أنَّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم .
الثاني : أنه تعالى خصَّ هذا الموضع بهذا الحرف الزَّائد وهو الواو ؛ فوجب أن يحصل به فائدة زائدة ؛ صوناً للفظ عن التعطيل ، وليس الفائدة إلاَّ تخصيص هذا القول بالإثبات والتَّصحيح .
الثالث : أنه تعالى أتبع القولين بقوله : { رَجْماً بالغيب } ولم يقله في السَّبعة ، وتخصيص الشيء بالوصف يدلُّ على أنَّ الحال في الباقي بخلافه ، وأنه مخالف لهما في كونه " رجْماً بالغَيْب " .
الرابع : أنه قال بعده : { رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } فدلَّ على أن هذا القول ممتازٌ عن القولين الأوَّلين بمزيد القوَّة والصَّحة .
الخامس : أنه تعالى قال : { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } فدلَّ على أنَّه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل ، وكلُّ من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب ، قال : إنهم كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ؛ فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول ، وكان عليٌّ - رضي الله عنه - يقول : كانوا سبعة ، وثامنهم كلبهم ، وأسماؤهم : يمليخا ، مكسلمينا ، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك ، وعن يساره : مرنوس ، ديرنوس ، سادنوس ، وكان الملكُ يستشير هؤلاء الستَّة ، يتصرَّفون في مهمَّاته ، والسَّابع هو الرَّاعي الذي وافقهم ، لمَّا هربوا من ملكهم ، واسم كلبهم{[20949]} قطميرٌ ، وروي عن ابن عباس أنه قال : مكسلمينا ، ويلميخا ، ومرطوس وبينويس ، وسارينوس ، وذونوانس ، وكشفيطيطونونس وهو الراعي ، وكان ابن عباس يقول : أنا من أولئك العدد القليل{[20950]} .
السادس : أنه تعالى ، لما قال : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } قال : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } .
والظاهر أنَّه لما حكى الأقوال ، فقد حكى كلَّ ما قيل من الحقِّ والباطل ، ويبعد أنَّه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ، ولم يذكر ما هو الحقُّ ، فثبت أن جملة الأقوال الحقَّة والباطلة ليست إلاَّ هذه الثَّلاثة ، ثم خصَّ الأولين بأنه رجمٌ بالغيب ؛ فوجب أن يكون الحق هو الثالث .
السابع : أنه قال لرسوله - عليه الصلاة والسلام- : { فَلا تُمارِ فِيهمْ إلاَّ مِراءً ظَاهِراً ، ولا تَسْتفْتِ فِيهم مِنهُمْ أحَداً } فمنعه من المناظرة معهم في هذا الباب ، وهذا إنما يكون ، لو علم حكم هذه الواقعة ، ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا يحصل للنبيِّ - عليه السلام - فعلمنا أنَّ العلم بهذه الواقعة حصل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والظاهر أنه لم يحصل ذلك إلاَّ بهذا الوحي ؛ لأنَّ الأصل فيما سواهُ العدم ، فيكون الأمر كذلك ، ويكون الحقُّ قوله : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وهذه الوجوه ، وإن كان فيها بعض الضعف إلاَّ أنه لما تقوَّى بعضها ببعضٍ ، حصل فيها تمامٌ وكمالٌ .
في هذه الآية محذوفٌ ، وتقديره : سيقولون : هم ثلاثة ، فحذف المبتدأ ؛ لدلالة الكلام عليه ، ثم قال تعالى : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } أي : بعددهم { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } ، وهذا هو الحق ؛ لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم ، وحوادثه في الماضي والمستقبل ، لا يحصل إلاَّ عند الله ، أو عند من أخبره الله تعالى ، ثم لمَّا ذكر تعالى هذه القصَّة ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراءِ والاستفتاء ، فقال : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } ، أي لا تجادل ، ولا تقل في عددهم وشأنهم إلاَّ مراء ظاهراً إلا بظاهر ما قصصنا عليك ، فقف عنده ، { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } أي من أهل الكتاب ، أي : لا ترجع إلى قولهم بعد أن أخبرناك ؛ لأنَّه ليس عندهم علمٌ في هذا الباب إلاَّ رجماً بالغيب .
واعلم أنَّ نفاة القياس تمسَّكوا بهذه الآية ، قالوا : لأن قوله : { رَجْماً بالغيب } قيل : كان ظنًّا بالغيب ؛ لأنَّهم أكثروا أن يقولوا رجماً بالظنِّ ، مكان قولهم : " ظنَّ " حتى لم يبق عندهم فرقٌ بين العبارتين ، كما قال : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . *** ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ{[20951]}
أي : المظنون ، ثم إنه تعالى ، لمَّا ذم هذه الطريقة ، رتَّب عليها المنع من استفتاء هؤلاء الظانِّين ، فدلَّ على أن الفتوى بالمظنون غير جائزٍ عند الله تعالى ، وتقدَّم جوابهم .