معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا} (31)

قوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ، فقر ، { نحن نرزقهم وإياكم } ، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة فنهوا عنه ، وأخبروا أن رزقهم ورزق أولادهم على الله تعالى ، { إن قتلهم كان خطأ كبيرا } ، قرأ ابن عامر و أبو جعفر خطأ بفتح الخاء والطاء مقصوراً . وقرأ ابن كثير بكسر الخاء ممدوداً وقرأ الآخرون بكسر الخاء وجزم الطاء ، ومعنى الكل واحد ، أي : إثماً كبيراً . { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا} (31)

22

وكان بعض أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق ؛ فلما قرر في الآية السابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان المناسب من السياق . فما دام الرزق بيد الله ، فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل ؛ إنما الأمر كله إلى الله . ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس ، وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتفى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة :

( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ، إن قتلهم كان خطأ كبيرا ) . .

إن انحراف العقيدة وفسادها ينشيء آثاره في حياة الجماعة الواقعية ، ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية . وتصحيح العقيدة ينشيء آثاره في صحة المشاعر وسلامتها ، وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها . وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية . وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة ، وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة .

ثم نقف هنا لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة .

ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء : نحن نرزقهم وإياكم وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء : ( نحن نرزقكم وإياهم ) . وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين . فهذا النص : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم : والنص الآخر ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) .

هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد . وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلا . فقدم رزق الآباء . فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا} (31)

قرا الأعمش وابن وثاب «ولا تقتّلوا » بتضعيف الفعل ، وهذه الآية نهي عن الوأد الذي كانت العرب تفعله ، وهو قوله تعالى : { وإذا الموءودة سئلت }{[7539]} ، ويقال كان جهلهم يبلغ أن يغدو أحدهم كلبه ويقتل ولده ، و { خشية } نصب على المفعول من أجله ، و «الإملاق » الفقر وعدم الملك ، أملق الرجل لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس السود ، وقرأ الجمهور «خِطْئاً » بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز والقصر ، وقرأ ابن عامر «خطئاً » بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة ، وهي قراءة أبي جعفر ، وهاتان قراءتان مأخوذتان من خطىء إذا أتى الذنب على عمد ، فهي كحذر وحذر ومثل ومثل وشبه وشبه اسم ومصدر ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]

الخطء فاحشة والبر نافلة . . . كعجوة غرست في الأرض تؤتبر{[7540]}

قال الزجاج يقال خطىء الرجل يخطأ خطأً مثل أثم إثماً فهذا هو المصدر وخطأ اسم منه ، وقال بعض العلماء خطىء معناه واقع الذنب عامداً ، ومنه قوله تعالى : { لا يأكله إلا الخاطئون } [ الحاقة : 37 ] ، وأخطأ واقع الذنب عن غير تعمد ، ومنه قوله تعالى : { إن نسينا أو أخطأنا }{[7541]} ، وقال أبو علي الفارسي : وقد يقع هذا موضع هذا ، وهذا موضع هذا ، فأخطأ بمعنى تعمد في قول الشاعر : [ الوافر ]

عبادك يخطئون وأنت رب . . . كريم لا يليق بك الذموم{[7542]}

وخطىء بمعنى لم يتعمد في قول الآخر : [ الكامل ]

والناس يلحون الأمير إذا همُ . . . خطئوا الصواب ولا يلام المرشد{[7543]}

وقد روي عن ابن عامر «خَطأً » بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة ، وقرأ ابن كثير «خِطَاء » بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة ، وهي قراءة الأعرج بخلاف ، وطلحة وشبل والأعمش وعيسى وخالد بن إياس وقتادة والحسن بخلاف عنه ، قال النحاس ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً ، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً . قال أبو علي الفارسي : هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطَأ ولا كنا وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ ، فدلنا عليه ، فمنه قول الشاعر : [ المتقارب ]

تخاطأت النبْل أحشاءه . . . وخر يومي فلم أعجل{[7544]}

وقول الآخر في صفة كماة : [ الطويل ]

تَخَاطَأَه القنّاصُ حتى وجدته . . . وخرطومه في مَنْقَع الماء راسب{[7545]}

فكأن هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل ، وقرأ الحسن فيما روي عنه «خَطَاء » بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة قال أبو حاتم : لا يعرف هذا في اللغة ، وهو غلط غير جائز وليس كما قال أبو حاتم ، قال أبو الفتح : الخطاء من أخْطَأت بمنزلة العطاء من أعطيت ، هو اسم يعني المصدر ، وقرأ الحسن بخلاف «خَطاً » بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز ، وقرأ أبو رجاء والزهري «خِطاً » بكسر الخاء وفتح الطاء كالتي قبلها ، وهاتان مخففتان من خطأ وخطاء .


[7539]:الآية (8) من سورة (التكوير).
[7540]:يستشهد ابن عطية بهذا البيت على أن الِخْطَء بكسر الخاء وسكون الطاء قد وردت في اللغة مثل الخطأ بفتح الخاء والطاء، وقال: إنهما في ذلك مثل: شبه وسبه، وحذر وحذر، ومثل ومثل. والفاحشة: القبيح الشنيع من قول أو فعل، والنافلة: ما زاد على النصيب أو الحق، والعجوة: نوع جيد من تمر المدينة، وتؤتبر: تلقح، يقال: أبر النخل وأبره: لقحه. والبر هو الخير، وقد جعله الشاعر مقابلا للخطـأ، وجعل الخير مصدرا للمنفعة.
[7541]:من الآية (286) آخر آية في سورة (البقرة).
[7542]:هذا شاهد يذكره ابن عطية نقلا عن الفارسي دليلا على أن (أخطأ) قد تأتي إذا فعل الإنسان الذنب مع التعمد، أي: تأتي في موضع (خطىء) ، والبيت في اللسان، وقد ذكره شاهدا على أن (خطىء) بمعنى: أثم، وضبط الفعل بفتح الياء والطاء (يخطئون) على أنها مضارع (خطىء)، كذلك ذكره ابن جني في المحتسب، والرواية فيه "وأنت رب بكفيك المنايا والحتوم" وهي جمع حتم، وهو القضاء وإيجابه، أما أبو علي الفارسي فيجعلها مضارع (أخطأ)، وتبعه ابن عطية، وعلى كلا الفهمين فإن الخطأ في البيت بمعنى الإثم، والذموم: العيوب، وقد أنشد سيبويه لأمية بن أبي الصلت: سلامك ربنا في كل فجر بريئا ما تغنثك الذمـــــوم أي: ما تنسب إليك العيوب. ومعنى بيتنا هنا: إن عبادك يارب يرتكبون الآثام وأنت رب رحيم كريم لا تلحق بك العيوب.
[7543]:سبق الاستشهاد بهذا البيت في هذه السورة عند تفسير قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها}، وكان شاهدا على أن كلمة (الأمير) تأتي بمعنى المرشد والناصح، وهو هنا شاهد على أن (خطىء) قد تأتي بمعنى مواقعة الذنب دون تعمد على خلاف المشهور في اللغة.
[7544]:هذا بيت قاله أوفى بن ممطر المازني، قال ذلك في اللسان (خطأ) ، وذكره مع بيت قبله، قال: "وتخاطأه وتخطاه أي أخذأه، قال أوقى بن مطر المازني: ألا أبلغا خلتي جابرا بأن خليلك لم يقتـــــل تخطأت النبل أحشاءه وأخر يومي فلم يعجل هكذا بلفظ (تخطأت)، وعلى هذا فلا شاهد فيه لأبي علي الفارسي، فقد ذكره شاهدا على أن (تخاطأ) مضارع (خاطأ) قد سمع عن العرب، وأنه دليل لنا على أن (خاطأ) موجودة، ومصدرها (خطاء) التي قرأ بها ابن كثير وغيره. أما كلمة (أخر) فمعناها: تأخر ، ويجوز ضبطها (أخر) بضم الهمزة وكسر الخاء المشددة، ورواية اللسان (يعجل) يريد اليوم، ورواية ابن عطية (أعجل) يريد نفيه، يبشر خليله بأن النبال قد أخطأته أو تخطته فلم تصبه، وأن يومه قد تأجل.
[7545]:و هذا أيضا شاهد على أن (تخاطأ) موجودة، وهي مضارع (خاطأ)، وعلى هذا جاءت قراءة ابن كثير [خطاء] التي هي مصدر خاطأ. والقناص: الصائد، والخرطوم: الأنف، أو طرفه، وقيل: الوجه كله. ومنقع الماء: المكان الذي اجتمع فيه الماء وثبت. والرسوب: الذهاب في الماء سفلا. وقد ذكر ابن عطية هنا وأبو حيان في البحر أن البيت في صفة كمأة، وهي اسم للجمع من الكمء، وهو فطر من فصيلة أرضية تنتفخ في باطن الأرض، وتجمع وتؤكل مطبوخة، ويختلف حجمها بحسب الأنواع، وقال في القرطبي إن البيت في وصف مهاة.