في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡۚ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡـٔٗا كَبِيرٗا} (31)

22

وكان بعض أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق ؛ فلما قرر في الآية السابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان المناسب من السياق . فما دام الرزق بيد الله ، فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل ؛ إنما الأمر كله إلى الله . ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس ، وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتفى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة :

( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ، إن قتلهم كان خطأ كبيرا ) . .

إن انحراف العقيدة وفسادها ينشيء آثاره في حياة الجماعة الواقعية ، ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية . وتصحيح العقيدة ينشيء آثاره في صحة المشاعر وسلامتها ، وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها . وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية . وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة ، وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة .

ثم نقف هنا لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة .

ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء : نحن نرزقهم وإياكم وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء : ( نحن نرزقكم وإياهم ) . وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين . فهذا النص : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم : والنص الآخر ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) .

هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد . وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلا . فقدم رزق الآباء . فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك .