وختام هذا الدرس جولة مع هذا النوع من الشرك والافتراء تبدأ بالحجة في الدنيا وتنتهي بالعذاب في الآخرة على طريقة القرآن :
( قالوا : اتخذ اللّه ولداً ، سبحانه هو الغني ، له ما في السماوات وما في الأرض ، إن عندكم من سلطان بهذا ، أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? قل : إن الذين يفترون على اللّه الكذب لا يفلحون . متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) . .
وعقيدة أن للّه - سبحانه - ولداً ، عيقدة ساذجة ، منشؤها قصور في التصور ، يعجز عن إدراك الفارق الهائل بين الطبيعة الإلهية الأزلية الباقية ، والطبيعة البشرية المخلوقة الفانية ؛ والقصور كذلك عن إدراك حكمة السنة التي جرت بتوالد أبناء الفناء ، وهو التكملة الطبيعية لما فيهم من نقص وقصور لا يكونان للّه .
فالبشر يموتون ، والحياة باقية إلى أجل معلوم ، فإلى أن ينقضي هذا الأجل فحكمة الخالق تقتضي امتداد البشر ، والولد وسيلة لهذا الامتداد .
والبشر يهرمون ويشيخون فيضعفون . والولد تعويض عن القوة الشائخة بقوة فتية ، تؤدي دورها في عمارة الأرض - كما شاء اللّه - وتعين الضعفاء والشيوخ على بقية الحياة .
والبشر يكافحون فيما يحيط بهم ، ويكافحون أعداءهم من الحيوان والناس . فهم في حاجة إلى التساند ،
والولد أقرب من يكون إلى العون في هذه الأحوال .
والبشر يستكثرون من المال الذي يجلبونه لأنفسهم بالجهد الذي يبذلونه ، والولد يعين على الجهد الذي يجلب المال . . .
وهكذا إلى سائر ما اقتضته حكمة الخالق لعمارة هذه الأرض ، حتى ينقضي الأجل ، ويقضي اللّه أمراً كان مفعولاً .
وليس شيء من ذلك كله متعلقاً بالذات الإلهية ، فلا الحاجة إلى الامتداد ، ولا الحاجة إلى العون عند الشيخوخة ، ولا الحاجة إلى النصير ، ولا الحاجة إلى المال . ولا الحاجة إلى شيء ما مما يخطر أو لا يخطر على البال متعلقة بذات اللّه تعالى . .
ومن ثم تنتفي حكمة الولد ، لأن الطبيعة الإلهية لا يتعلق بها غرض خارج عن ذاتها ، يتحقق بالولد . وما قضت حكمة اللّه أن يتوالد البشر إلا لأن طبيعتهم قاصرة تحتاج إلى هذا النوع من التكملة . فهي تقتضي الولد اقتضاء . وليست المسألة جزافاً .
ومن ثم كان الرد على فرية : ( قالوا اتخذ اللّه ولداً ) . . هو :
( سبحانه ! هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض ) .
( سبحانه ! . . ) تنزيها لذاته العلية عن مستوى هذا الظن أو الفهم أو التصور . ( هو الغنى ) . بكل معاني الغنى ، عن الحاجات التي أسلفنا وعن سواها مما يخطر ومما لا يخطر على البال . مما يقتضي وجود الولد . والمقتضيات هي التي تسمح بوجود المقتضيات ، فلا يوجد شيء عبثاً بلا حاجة ولا حكمة ولا غاية . ( له ما في السماوات وما في الأرض ) . فكل شيء ملكه . ولا حاجة به - سبحانه - لأن يملك شيئاً بمساعدة الولد . فالولد إذن عبث . تعالى اللّه سبحانه عن العبث
ولا يدخل القرآن الكريم في جدل نظري حول الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسوتية ، مما جد عند المتكلمين ، وفي الفلسفات الأخرى . لأنه يلمس الموضوعات في واقعها القريب إلى الفطرة . ويتعامل مع الموضوع ذاته لا مع فروض جدلية قد تترك الموضوع الحاضر نهائياً وتصبح غرضاً في ذاتها !
فيكتفي هنا بهذه اللمسة التي تمس واقعهم ، وحاجتهم إلى الولد ، وتصورهم لهذه الحاجة ، وانتفاء وجودها بالقياس إلى اللّه الغني الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض ، ليبلغ من نفوسهم موضع الاقتناع أو موضع الإفحام ، بلا جدل نظري يضعف أثر اللمسة النفسية التي تستجيب لها الفطرة في يسر وهوادة .
ثم يجبههم بالواقع ، وهو أنهم لا يملكون برهاناً على ما يدعون . ويسمي البرهان سلطاناً ، لأن البرهان قوة ، وصاحب البرهان قوي ذو سلطان :
( إن عندكم من سلطان بهذا ) . .
ما عندكم من حجة ولا برهان على ما تقولون .
أتقولون على اللّه ما لا تعلمون ? . .
وقول الإنسان ما لا يعلم منقصة لا تليق . فكيف إذا كان هذا القول بلا علم على اللّه - سبحانه - ! إنه جريمة إذن أكبر من كل جريمة . فهو أولاً ينافي ما يستحقه اللّه من عباده من تنزيه وتعظيم ، لأنه وصف له بمقتضيات الحدوث والعجز والنقص والقصور . تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً . ولأنه ضلال في تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق ، ينشأ عنه ضلال في تصور كل علاقات الحياة والناس والمعاملات . فكلها فرع من تصور هذه العلاقة . وكل ما ابتدعه الكهنة لأنفسهم في الوثنيات من سلطان ؛ وكل ما ابتدعته الكنيسة لها من سلطان ، إنما نشأ عن تصور العلاقة بين اللّه تعالى وبناته الملائكة !
أو بين اللّه تعالى وعيسى بن مريم من صلة الأبوة والنبوة ، وحكاية الخطيئة ، ومنها نشأت مسألة الاعتراف ، ومسألة قيام كنيسة المسيح بتوصيل الناس بأبي المسيح [ بزعمهم ] . . إلى نهاية السلسلة التي متى بدأت الحلقة الأولى فيها بفساد تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق فسدت الحلقات التالية كلها في كل ضروب الحياة .
فليست المسألة مجرد فساد في التصور الاعتقادي ، ولكنه مسألة الحياة برمتها . وكل ما وقع بين الكنيسة وبين العلم والعقل من عداء ، انتهى إلى تخلص المجتمع من سلطان الكنيسة بتخلصه من سلطان الدين نفسه ! إنما نشأ من هذه الحلقة . حلقة فساد تصور العلاقة بين اللّه وخلقه . وجر في ذيوله شراً كثيراً تعاني البشرية كلها ويلاته في التيارات المادية وما وراءها من بلايا وأرزاء .
ومن ثم كان حرص العقيدة الإسلامية على تجلية هذه العلاقة تجلية كاملة لا لبس فيها ولا إبهام . . اللّه خالق أزلي باق ، لا يحتاج إلى الولد . والعلاقة بينه وبين الناس جميعاً هي علاقة الخالق بخلقه دون استثناء . وللكون والحياة والأحياء سنن ماضية لا تتخلف ولا تحابي . فمن اتبع هذه السنن أفلح وفاز ، ومن حاد عنها ضل وخسر . . الناس في هذا كلهم سواء . وكلهم مرجعهم إلى اللّه . وليس هنالك من شفعاء ولا شركاء . وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً . ولكل نفس ما عملت . ولا يظلم ربك أحداً .
عقيدة بسيطة واضحة ، لا تدع مجالاً لتأويل فاسد ، ولا تنحني أو تنحرف بالقلب في دروب ومنحنيات ، ولا في سحب وضباب !
ومن ثم يقف الجميع سواء أمام اللّه وكلهم مخاطب بالشريعة ، وكلهم مكلف بها ، وكلهم حفيظ عليها . وبذلك تستقيم العلاقات بين الناس بعضهم وبعض ، نتيجة استقامة العلاقة بينهم وبين اللّه
{ قالوا اتخذ الله ولدا } أي تبناه . { سبحانه } تنزيه له عن التبني فإنه لا يصح إلا ممن يتصور له الولد وتعجب من كلمتهم الحمقاء { هو الغني } علة لتنزيهه فإن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة . { له ما في السماوات وما في الأرض } تقرير لغناه . { إن عندكم من سلطان بهذا } نفي لمعارض ما أقامه من البرهان مبالغة في تجهيلهم وتحقيقا لبطلان قولهم ، و{ بهذا } متعلق ب { سلطان } أو نعت له أو ب { عندكم } كأنه قيل : إن عندكم في هذا من سلطان . { أتقولون على الله ما لا تعلمون } توبيخ وتقريع على اختلافهم وجهلهم . وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لابد لها من قاطع وأن التقليد فيها غير سائغ .
والضمير في { قالوا } للكفار العرب وذلك قول طائفة منهم : الملائكة بنات الله ، والآية بعد تعم كل من قال نحو هذا القول كالنصارى ومن يمكن أن يعتقد ذلك من الكفرة ، و { سبحانه } : مصدر معناه تنزيهاً له وبراءة من ذلك ، فسره بهذا النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { هو الغني } صفة على الإطلاق أي لا يفتقر إلى شيء من الجهات ، و «الولد » جزء مما هو غني عنه ، والحق هو قول الله تعالى { أنتم الفقراء إلى الله }{[6164]} ، وقوله { ما في السماوات } ، أي بالملك والإحاطة والخلق ، و { إن } نافية ، و «السلطان » الحجة ، وكذلك معناه حيث تكرر من القرآن{[6165]} ، ثم وقفهم موبخاً بقوله { أتقولون على الله ما لا تعلمون } ، .
بيان لجملة { ألا إن لله مَن في السماوات ومَن في الأرض } [ يونس : 66 ] إلى آخرها ، وفي هذا البيان إدماج بحكاية فن من فنون كفرهم مغاير لادعاء شركاء لله ، لأن هذا كفر خفي من دينهم ، ولأن الاستدلال على إبطاله مغاير للاستدلال على إبطال الشركاء .
فضمير { قالوا } عائد إلى { الذين يدعون من دون الله شركاء } [ يونس : 66 ] أي قال المشركون { اتخذ الله ولداً } . وليس المراد من الضمير غيرَهم من النصارى لأن السورة مكية والقرآن المكي لم يتصد لإبطال زيغ عقائد أهل الكتاب ، ذلك أن كثيراً منهم كانوا يزعمون أن لله بنات هم الملائكة ، وهم بناته من سَروات نساء الجن ، ولذلك عَبَدت فرق من العرب الجن قال تعالى : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت وَليُّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } [ سبأ : 40 ، 41 ] .
والاتخاذ : جعل شيء لفائدة الجاعل ، وهو مشتق من الأخذ لأن المتخذ يأخذ الشيء الذي يصطفيه . وقد تقدم في قوله تعالى : { أتتخذ أصناماً آلهة } في سورة [ الأنعام : 74 ] ، وقوله : { وإن يَروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً } في [ الأعراف : 146 ] ، فالاتخاذ يصدق على أخذ شيء موجود للاستئثار به ، ويصدق على تكوين شيء للانتفاع به . وهو هنا صالح للمعنيين لأن منهم مَن يعتقد تولد الولد عن الله تعالى ، ومنهم مَن يعتقد أن الله تبنَّى بعض مخلوقاته .
والولد : اسم مصوغ على وزن فَعَل مثل عَمَد وعرب . وهو مأخوذ من الولادة ، أي النتاج . يقال : ولدت المرأة والناقة ، ولعل أصل الولد مصدر ممات على وزن فعل مثل الفَرح . ومن أجل ذلك أطلق على الواحد والجمع كما يوصف بالمصدر . يقال : هؤلاء ولد فلان . وفي الحديث أنا سيد ولَدِ آدمِ والمراد هنا الجمع لأنهم قالوا : الملائكة بنات الله استولدها من سروات الجن قال تعالى : { ويجعلون لله البنات سبحانه } [ النحل : 57 ] .
وجملة : { سبحانه } إنشاء تنزيه للرد عليهم ، فالجملة جواب لذلك المقال ولذلك فصلت عن التي قبلها . وهو اسم مصدر ل ( سَبَّح ) إذا نزّه ، نائب عن الفعل ، أي نسبحه . وتقدم عند قوله تعالى : { قالوا سبحانك لا علم لنا } في سورة [ البقرة : 32 ] ، أي تنزيهاً لله عن هذا لأن ما قالوه يستلزم تنقيص الله تعالى ، ولذلك بُينت جملةُ التنزيه بجملة : هو { الغني } بياناً لوجه التنزيه ، أي هو الغني عن اتخاذ الولد ، لأن الإلهية تقتضي الغنى المطلق عن كل احتياج إلى مُكمِل نقص في الذات أو الأفعال ، واتخاذ الولد إما أن ينشأ عن اندفاع طبيعي لقضاء الشهوة عن غير قصدِ التوليد وكونُها نقصاً غير خفي ، وإما أن ينشأ عن القصد والتفكير في إيجاد الولد ، وذلك لا يكون إلا لسد ثلمة نَقص من حاجة إلى معنى في الحياة أو خَلَف بعد الممات .
وكل ذلك مناف للإلهية التي تقتضي الاتصاف بغاية الكمال في الذات والصفات والأفعال .
والغَنِيُّ : الموصوف بالغِنى ، فعيل للمبالغة في فعل ( غَنِيَ ) عن كذا إذا كان غير محتاج ، وغنى الله هو الغنى المطلق ، وفسر في أصول الدين الغنى المُطلق بأنه عدم الافتقار إلى المُخَصِّص وإلى المحل ، فالمخصص هو الذي يُعين للممكن إحدى صفتي الوجود أو العدم عوضاً عن الأخرى ، فبذلك ثبت للإله الوجودُ الواجب ، أي الذي لا يتصور انتفاؤه ولذلك انتفى عنه التركيب من أجزاء وأبعاض ومن أجل ذلك امتنع أن ينفصل عنه شيء منه ، والولد ينشأ من جزء منفصل عن الوالد ، فلا جرم أنْ كان الغَنِيُّ منزّهاً عن الولد من جهة الانفصال ، ثم هو أيضاً لا يجوز أن يتخذ بعض المخلوقات ولداً له بالتبني لأجل كونه غنياً عن الحاجات التي تبعث على اتخاذ الولد من طلب معونة أو إيناس أو خلَف ، قال تعالى : { وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل عباد مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] وقال : { بديع السماوات والأرض أنَّى يكون له ولد } [ الأنعام : 101 ] .
وجملة : { له ما في السماوات وما في الأرض } مقررة لوصف الغنى بأن ما في السماوات وما في الأرض ملكه ، فهو يسخر كل موجود لما خلقه لأجله ، فلا يحتاج إلى إعانة ولد ، ولا إلى ترفيع رتبة أحد استصناعاً له كما يفعل الملوك لقواد جيوشهم وأمراء أقطارهم وممالكهم لاكتساب مودتهم وإخلاصهم . وهذا مساو للاستدلال على نفي الشريك في قوله آنفاً { ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يَتبع الذين يَدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن } [ يونس : 66 ] ودل قوله : { له ما في السماوات وما في الأرض } على أن صفة العبودية تنافي صفة البُنُوة وذلك مثل قوله : { وقالوا اتخذ الرحمان ولداً سبحانه بل عباد مُكرمون } [ الأنبياء : 26 ] .
ويؤخذ من هذا أن الولد لا يُسترقُّ لأبيه ولا لأمّه ولذلك يعتق الولد على من يملكه من أب أو أم وإن عَلَيَا .
وجملة : { إنْ عندكم من سلطان بهذا } جواب ثان لقولهم : { اتَّخذ الله ولداً } فلذلك فُصلت كما فصلت جملة { سبحانه } ، فبعد أن استدل على إبطال قولهم ، سجل عليهم أنهم لا حجة لهم في قولهم ذلك .
و { إن } حرف نفي . و { مِن } مزيدة لتأكيد النفي بالاستغراق ، أي استغراق نفي جميع أنواع الحجة قويِّها وضعيفها ، عقليِّها وشرعيِّها .
و ( عند ) هنا مستعملة مجازاً . شُبِّه وجودُ الحجة للمحتج بالكون في مكانه ، والمعنى : لا حجَّة لكم .
و { سلطان } محله رفع بالابتداء ، وخبره { عِندكم } واشتغل آخر المبتدأ عن الضمة بكسرة حرف الجر الزائدة .
والسلطان : البرهان والحجة ، لأنه يكسب المستدل به سلطة على مخالفه ومجادله . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ما نزل الله بها من سلطان } في سورة [ الأعراف : 71 ] .
والباء للملابسة ، وهي في موضع صفة لسلطان } ، أي سلطان ملابس لهذا . والإشارة إلى المقول .
والمعنى : لا حجة لكم تصاحب مَقولكم بأن الله اتخذ ولداً .
وجملة : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } جواب ثالث ناشيء عن الجوابين لأنهم لما أُبطل قولهم بالحجة . ونُفي أن تكون لهم على قولهم حجة كانوا أحرياء بالتوبيخ والتشنيع بأنهم يجترئون على جناب الله فيصفون الله بما لا يعلمون ، أي بما لا يوقنون به ، ولكونها جواباً فصلت . فالاستفهام مستعمل في التوبيخ ، لأن المذكور بعده شيء ذميم ، واجتراء عظيم وجهل كبير مركب .