ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال : { أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله } فيهما .
قوله تعالى : { من شيء } ، أي : وينظروا إلى ما خلق الله من شيء ليستدلوا بها على وحدانيته .
قوله تعالى : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } أي : لعل أن يكون قد اقترب أجلهم فيموتوا قبل أن يؤمنوا ، ويصيروا إلى العذاب .
قوله تعالى : { فبأي حديث بعده يؤمنون } ، أي : بعد القرآن يؤمنون ، يقول : بأي كتاب غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون ، وليس بعده نبي ولا كتاب .
ثم ( أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ؟ ) . .
وهي هزة أخرى أمام هذا الكون العجيب . . والنظر بالقلب المفتوح والعين المبصرة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم ، يكفي وحده لانتفاض الفطرة من تحت الركام ؛ وتفتح الكينونة البشرية لإدراك الحق الكامن فيه ، والإبداع الذي يشهد به ، والإعجاز الذي يدل على البارىء الواحد القدير . . والنظر إلى ما خلق الله من شيء - وكم في ملكوت السماوات والأرض من شيء - يدهش القلب ويحير الفكر ، ويلجىء العقل إلى البحث عن مصدر هذا كله ، وعن الإرادة التي أوجدت هذا الخلق على هذا النظام المقصود المشهور .
لماذا كانت الخلائق على هذا النحو الذي كانت به ؛ ولم تكن على أي نحو آخر من الإمكانيات التي لا حصر لها في الكينونة ؟ لماذا سارت في هذا الطريق ولم تسر في أي طريق آخر من الطرق الممكنة الأخرى ؟ لماذا استقامت على طريقها هذا ومن الذي يمسكها على نشأتها ؟ ما سر هذه الوحدة السارية في طبيعتها إن لم يكن هذا هو الناموس الواحد ، الصادر عن الإرادة الواحدة ، التي يجري بها قدر مطرد مقصود ؟
إن الجسم الحي . لا بل الخلية الحية . لمعجزة لا ينقضي منها العجب . . وجودها . تركيبها . تصرفها . عمليات التحول الدائمة التي تتم فيها كل لحظة مع محافظتها على وجودها ؛ وتضمنها كذلك لوسيلة التجدد في أنسال منها ؛ ومعرفتها لوظيفتها ولامتداد هذه الوظيفة في أنسالها ! . . فمن ذا الذي ينظر إلى هذه الخلية الواحدة ، ثم يطمئن عقله - بل فطرته وضميره - إلى أن هذا الكون بلا إله ، أو أن هناك آلهة مع الله ؟
إن امتداد الحياة عن طريق الزوجية والنسل ليقوم شاهداً يهتف لكل قلب وكل عقل بتدبير الخالق الواحد المدبر . . وإلا فمن ذا الذي يضمن للحياة وجود الذكر والأنثى دائماً في نسلها بالمقادير التي يتم بها هذا التزاوج ؟ لماذا لا يأتي زمن على الحياة تنسل ذكوراً فقط أو إناثاً فقط . . ولو حدث هذا لا نقطع النسل عند هذا الجيل . . فمن ذا الذي يمسك بعجلة التوازن دائما في الأجيال جميعاً ؟
إن التوازن ملحوظ في ملكوت السماوات والأرض جميعاً -لا في هذه الظاهرة الحيوية وحدها - إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة ! وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء . . ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائماً لحظة ! فمن الذي يمسك بعجلة التوازن الكبرى في السماوات والأرض جميعاً ؟
وعرب الجزيرة الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ما كانوا يدركون بعلومهم مدى هذا التوازن والتناسق في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء . . ولكن الفطرة الإنسانية بذاتها تلتقي مع هذا الكون في أعماقها ؛ وتتجاوب معه بلغة غير منطوقة إلا في هذه الأعماق . ويكفي أن ينظر الإنسان بالقلب المفتوح والعين المبصرة إلى هذا الكون حتى يتلقى إيقاعاته وإيحاءاته تلقياً موحياً هادياً .
ولقد اهتدى الإنسان بفطرته - وهو يتلقى إيقاعات هذا الوجود في حسه - إلى أن له إلهاً . ولم تغب عن حسه قط هذه الحقيقة . إنما كان يخطىء في تحديد صفة الإله الحق ، حتى تهديه الرسالات إلى الرؤية الصحيحة . . فأما الملحدون الجدد - أصحاب " الاشتراكية العلمية " ! - فهم أمساخ شائهو الفطرة . بل إنهم إنما ينكرون الفطرة ، ويعاندون ما يجدونه في أنفسهم من إلحاحها . . وعندما صعد أحدهم إلى الفضاء الجوي ، ورأى ذلك المشهد الباهر - مشهد الأرض كرة معلقة في الفضاء - هتفت فطرته : ما الذي يمسكها هكذا في الفضاء ؟ ولكنه حين هبط إلى الأرض ، وتذكر إرهاب الدولة ، قال : إنه لم يجد الله هناك ! وكتم إلحاح فطرته وصراخها في أعماقه ، أمام شيء من ملكوت السماوات والأرض !
إن الله الذي يخاطب الإنسان بهذا القرآن لهو الذي خلق هذا الإنسان ، والذي يعلم فطرة هذا الإنسان !
وأخيراً يلمس قلوبهم بطائف الموت الذي قد يكون مخبأ لهم - من قريب - في عالم المجهول المغيب ؛ وهم عنه غافلون :
( وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ) . .
فما يدريهم أن أجلهم قريب ؟ وما يبقيهم في غفلتهم سادرين ؛ وهم عن غيب الله محجوبون ؟ وهم في قبضته لا يفلتون ؟
إن هذه اللمسة بالأجل المغيب - الذي قد يكون قد اقترب - لتهز القلب البشري هزة عميقة ! لعله أنيستيقظ ويتفتح ويرى . والله منزل هذا القرآن وخالق هذا الإنسان يعلم أن هذه اللمسة لا تبقي قلباً غافلاً . . ولكن بعض القلوب قد يعاند بعد ذلك ويكابر !
وما بعد هذا الحديث من حديث تهتز له القلوب أو تلين . .
إن هذه اللمسات التي تعددت في الآية الواحدة ؛ لتكشف لنا عن منهج هذا القرآن في خطاب الكينونة البشرية . . إنه لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه ، ولا يدع وتراً منها واحداً لا يوقع عليه ؛ إنه لا يخاطب الذهن ولكنه لا يهمله ؛ ففي الطريق - وهو يهز الكيان البشري كله - يلمسه ويوقظه . إنه لا يسلك إليه طريق الجدل البارد ، ولكنه يستحييه لينظر ويتفكر وحرارة الحياة تسري فيه وتيارها الدافق . . وهكذا ينبغي أن يتجه منهج الدعوة إلى الله دائماً . . فالإنسان هو الإنسان لم يتبدل خلقاً آخر . والقرآن هو القرآن كلام الله الباقي ، وخطاب الله لهذا الإنسان الذي لا يتغير . . مهما تعلم ومهما " تطور ! " . .
{ أوَ لم ينظروا } نظر استدلال . { في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها ، ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ، ومتولي أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه . { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى : أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم ، قبل مغافصة الموت ونزول العذاب . { فبأي حديث بعده } أي بعد القرآن . { يؤمنون } إذا لم يؤمنوا به ، وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر . وقيل هو متعلق بقوله : عسى أن يكون ، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن ، وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به .
وقوله تعالى : { أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء } الآية ، هذا أيضاً توبيخ للكفار وتقرير ، والنظر هنا بالقلب عبرة وفكراً ، و { ملكوت } بناء عظمة ومبالغة ، وقوله : { وما خلق الله من شيء } لفظ يعم جميع ما ينظر فيه ويستدل به من الصنعة الدالة على الصانع ومن نفس الإنس وحواسه ومواضع رزقه ، و «الشيء » واقع على الموجودات ، وقوله : { وإن عسى } عطف على قوله : { في ملكوت } و { أن } الثاني في موضع رفع ب { عسى } ، والمعنى توقيفهم على أن لم يقع لهم نظر في شيء من هذا ولا في أنه قربت آجالهم فماتوا ففات أوان ا?ستدراك ووجب عليهم المحذور ، ثم وقفهم بأي حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذا لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر : [ الطويل ]
وعن أي نفس بعد نفسي أقاتل*** والضمير في قوله : { بعده } يراد به القرآن ، وقيل المراد به محمد صلى الله عليه وسلم وقصته وأمره أجمع ، وقيل هو عائد على الأجل بعد الأجل إذ لا عمل بعد الموت .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
...ثم وعظهم ليعتبروا في صنيعه فيوحدوه، فقال: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض و} إلى {وما خلق الله من شيء} من الآيات التي فيها، فيعتبروا أن الذي خلق ما ترون لرب واحد لا شريك له، {وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم}، يعني يكون قد دنا هلاكهم... {فبأي حديث بعده}، أي بعد هذا القرآن {يؤمنون}، يعني يصدقون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أو لم ينظر هؤلاء المكذّبون بآيات الله في مُلك الله وسلطانه في السموات وفي الأرض وفيما خلق جلّ ثناؤه من شيء فيهما، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به ويعلموا أن ذلك ممن لا نظير له ولا شبيه، ومن فعل من لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلاّ له، فيؤمنوا به ويصدّقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته ويخلعوا الأنداد والأوثان ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه.
وقوله:"فَبِأيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ" يقول: فبأيّ تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه يصدّقون، إن لم يصدّقوا بهذا الكتاب الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} هذا يتوجه وجهين: أحدهما: أنكم ممن تقبلون الأخبار والحديث. فإذا لم تقبلوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره، ولم تصدّقوه، فبأي حديث بعده تقبلون؟ وتصدّقون؟ ومعه حجج وبراهين، والله أعلم.
والثاني: أن يكون قوله: {فبأي حديث بعده يؤمنون} بعد القرآن، وهو كما وصفه: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} الآية: [فصلت: 42] وقال {لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] فإذا لم تقبلوا هذا، ولم تصدّقوه وهو بالوصف الذي ذكر، وأنتم ممن تقبلون الحديث {فبأي حديث بعده يؤمنون} تقبلون؟...
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ والأَرْضِ وَمَا خَلَقَ الله مِنْ شَيْءٍ} فيه حَثٌّ على النظر والاستدلال والتفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره، فإنه يدل عليه وعلى حكمته وجُودُه وعدلُه، وأخبر أن في جميع ما خلقه دليلاً عليه وداع إليه، وحذّرهم التفريط بترك النظر إلى وقت حلول الموت وفوات ما كان يمكنه الاستدلال به على معرفة الله تعالى وتوحيده، وذلك قوله تعالى: {وأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فبأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ} نظر استدلال {فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} فيما تدلاّن عليه من عظم الملك. والملكوت: الملك العظيم، {وَمَا خَلَقَ الله مِن شيء} وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء ومن أجناس لا يحصرها العدد ولا يحيط بها الوصف، {وَأَنْ عسى} أن مخففة من الثقيلة، والأصل: أنه عسى، على أن الضمير ضمير الشأن. والمعنى: أو لم ينظروا في أنّ الشأن والحديث عسى {أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} ولعلهم يموتون عما قريب، فيسارعوا إلى النظر وطلب الحق وما ينجيهم قبل مغافصة الأجل وحلول العقاب ويجوز أن يراد باقتراب الأجل: اقتراب الساعة...
فإن قلت: بم يتعلق قوله: {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}؟ قلت: بقوله: {عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} كأنه قيل: لعلّ أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقِّ، وبأيّ حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...هذا أيضاً توبيخ للكفار وتقرير، والنظر هنا بالقلب عبرة وفكراً، و {ملكوت} بناء عظمة ومبالغة، وقوله: {وما خلق الله من شيء} لفظ يعم جميع ما ينظر فيه ويستدل به من الصنعة الدالة على الصانع ومن نفس الإنس وحواسه ومواضع رزقه، و «الشيء» واقع على الموجودات.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِي آيَاتِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فِي أَعْدَادٍ كَثِيرَةٍ من آيِ الْقُرْآنِ؛ أَرَادَ بِذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْيَقِينِ، وَقَوْلًا فِي الْإِيمَانِ، وَتَثْبِيتًا لِلْقُلُوبِ عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ؛ قَالَ: قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ: مَا كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِهِ التَّفَكُّرَ. قِيلَ لَهُ: أَفَتَرَى الْفِكْرَ عَمَلًا من الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ. هُوَ الْيَقِينُ.
وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. فَقَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَةً؛ إنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَالْفِكْرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ من قِيَامِ لَيْلَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ: حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ هُنَا تَرْدِيدُ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ بِالْخَبَرِ عَنْهُ.
وَالْكَلَامُ حَقِيقَةً هُوَ مَا يَجْرِي فِي النَّفْسِ، وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَأَقَلُّ مَا يَحْضُرُ فِي الْقَلْبِ من الْعِلْمِ عِلْمَانِ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا نَسَقُ الْآخَرِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَنَّةَ مَطْلُوبَةٌ، وَأَنَّ الْمُوَصِّلَ إلَيْهَا آكَدُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَحِينَئِذٍ يَجْتَهِدُ فِي الْعَمَلِ؛ وَآكَدُ من هَذَا أَنْ تَعْلَمَ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَلَكُوتِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ؛ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَهِيَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً؛ وَأُمَّهَاتُهَا السَّمَاوَاتُ، فَتَرَى كَيْفَ بُنِيَتْ وَزُيِّنَتْ من غَيْرِ فُطُورٍ وَرُفِعَتْ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَخُولِفَ مِقْدَارُ كَوَاكِبِهَا، وَنُصِبَتْ سَائِرَةً شَارِقَةً وَغَارِبَةً نَيِّرَةً، وَمَمْحُوَّةً؛ كُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ.
وَالْأَرْضَ؛ فَانْظُرْ إلَيْهَا كَيْفَ وُضِعَتْ فِرَاشًا، وَوُطِئَتْ مِهَادًا، وَجُعِلَتْ كِفَاتًا، وَأَنْبَتَتْ مَعَاشًا، وَأُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ، وَزُيِّنَتْ بِالنَّبَاتِ، وَكُرِّمَتْ بِالْأَقْوَاتِ، وَأُرْصِدَتْ لِتَصَرُّفِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَعَاشِهَا؛ وَكُلُّ جُزْءٍ من ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةٌ تَسْتَغْرِقُ الْفِكْرَةَ.
وَالْحَيَوَانُ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالثَّانِي الْجَمَادَاتُ؛ فَانْظُرْ فِي أَصْنَافِهَا، وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَجْنَاسِهَا، وَانْقِيَادِهَا وَشَرَسِهَا، وَتَسْخِيرِهَا فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، زِينَةً وَقُوتًا، وَتَقَلُّبًا فِي الْأَرْضِ.
وَالْبِحَارُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عِبْرَةً، وَأَدَلُّهَا عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ فِي سَعَتِهَا، وَاخْتِلَافِ خَلْقِهَا، وَتَسْيِيرِ الْفُلْكِ فِيهَا، وَخُرُوجِ الرِّزْقِ مِنْهَا، وَالِانْتِفَاعِ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِالْأَثْقَالِ الْوَئِيدَةِ بِهَا.
وَالْهَوَاءُ؛ فَإِنَّهُ خَلْقٌ مَحْسُوسٌ بِهِ قِوَامُ الرُّوحِ فِي الْآدَمِيِّ وَحَيَوَانِ الْبَرِّ، كَمَا أَنَّ الْمَاءَ قِوَامٌ لِرُوحِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ، فَإِذَا فَارَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِوَامَهُ هَلَكَ، وَانْظُرْ إلَى رُكُودِهِ ثُمَّ اضْطِرَابِهِ، وَهُوَ بِالرِّيحِ.
وَالْإِنْسَانُ أَقْرَبُهَا إلَيْهَا نَظَرًا، وَأَكْثَرُهَا إنْ بَحَثَ عِبْرًا، فَلْيَنْظُرْ إلَى نَفْسِهِ من حِينِ كَوْنِهَا مَاءً دَافِقًا إلَى كَوْنِهِ خَلْقًا سَوِيًّا، يُعَانُ بِالْأَغْذِيَةِ، وَيُرَبَّى بِالرِّفْقِ، وَيُحْفَظُ بِاللَّبَنِ حَتَّى يَكْتَسِبَ الْقُوَى، وَيَبْلُغَ الْأَشُدَّ؛ فَإِذَا بِهِ قَدْ قَالَ أَنَا وَأَنَا، وَنَسِيَ حِينَ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ من الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَسَيَعُودُ مَقْبُورًا. وَهَذَا زَمَانٌ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا، فَيَا وَيْحَه إنْ كَانَ مَحْسُورًا فَيَنْظُرُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، مُكَلَّفٌ مَخُوفٌ بِالْعَذَابِ إنْ قَصَّرَ، مُرْجًى بِالثَّوَابِ إنْ ائْتَمَرَ، فَيُقْبِلُ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ يَرَاهُ، وَلَا يَخْشَى النَّاسَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَخْشَاهُ، وَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَى أَحَدٍ من عِبَادِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ مُؤَلَّفٌ من أَقْذَارٍ، مَشْحُونٌ من أَوْضَارٍ، صَائِرٌ إلَى جَنَّةٍ إنْ أَطَاعَ، أَوْ إلَى نَارٍ..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على تقرير أدلة التوحيد، وكان المقصود من الإنذار الرجوع عن الإلحاد، قال منكراً عليهم عدم النظر في دلائل التوحيد الراد عن كل حال سيئ: {أولم} ولما كان الأمر واضحاً قال: {ينظروا} أي نظر تأمل واعتبار، ودل على أنه بالبصيرة لا البصر بالصلة، فقال إشارة إلى كل ذرة فيها دلائل جمة {في ملكوت} وعظم الأمر بقوله: {السماوات والأرض} أي ملكهما البالغ من حد العظمة أمراً باهراً بظاهره الذي يعرفونه وباطنه الذي يلوح لهم ولا يدركونه. ولما كانت أدلة التوحيد تفوت الحصر، ففي كل ذرة برهان قاهر ودليل ساطع باهر، قال؛ {وما} أي وفيما {خلق الله} أي على ما له من الجلال والجمال {من شيء} أي غيرهما، ليعلموا أنه لا يقدر على شيء من ذلك فضلاً عن ذلك غيره، ويتحققوا أن كتابه سبحانه مباين لجميع مخلوقاته فيعلموا أنه صفته سبحانه وكلامه، فلا يلحدوا في أسمائه فلا يسموا بشيء منها غيره لما ظهر لهم من تمام قدرته وتمام عجز غيره عن كل شيء ومن شمول علمه وتناهي جهل غيره بكل شيء إلى غير ذلك حتى يعلموا بعظمة هذا الكون أنه سبحانه عظيم، وبقهره لكل شيء أنه قهار شديد، وبعجزه كل شيء عن كل شيء من أمره أنه عزيز، وبإسباغه النعمة أنه رحيم كريم إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العلى التي تنطق الأشياء بها بألسنة الأحوال وتتحدث بها صدور الكائنات وإن لم يكن لها مقال، ويشرحها كلام التدبير بما له من الكمال {وأن عسى} أي وينظروا في الإشفاق والخوف من أنه ممكن وخليق وجدير {أن يكون قد اقترب} أي دنا دنوّاً عظيماً {أجلهم} أي الذي لا شك عندهم في كونه بموتة من موتات هذه الأمم التي أسلفنا أخبارها كنفس واحدة أو بالتدريج فيبادروا بالإيمان به خشية انخرام الأجل للنجاة من أعظم الوجل، فإن كل عاقل إذا جوز خطراً ينبغي له أن ينظر في عاقبته ويجتهد في الخلاص منه. ولما كان قد تقدم في أول السورة النهي عن التحرج من الإنذار بهذا الكتاب، وبان بهذه الآيات أنه صلى الله عليه وسلم اتصف بالإنذار به حق الاتصاف...تسبب عن ذلك الإنكار على من يتوقف عن الإيمان به، والتخويف من إحلال أجله قبل ذلك فيقع فيما لا يمكنه تداركه، وذلك في أسلوب دال على أن الإيمان بعد هذا البيان مما لا يسوغ التوقف فيه إلا لانتظار كلام آخر فقال: {فبأي حديث} أي كلام يتجدد له في كل واقعة بيان المخلص منها {بعده} أي بعد هذه الرتبة العظيمة {يؤمنون*}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم إنه دعاهم بعد هذا إلى النظر والاستدلال العقلي فقال:
{أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم} الملكوت الملك العظيم كما تدل عليه صيغة (فعلوت) والمراد بملكوت السماوات والأرض مجموع العالم لأن الاستدلال به على قدرة الله تعالى وصفاته ووحدانيته أظهر، فإن العالم في جملته لا يمكن أن يكون قديما أزليا ولا نزاع بين علماء الكون في إمكانه ولا في حدوث كل شيء منه وإنما يختلفون في مصدره ومم وجد. وهو لا يمكن أن يكون من عدم محض لأن العدم المحض لا حقيقة له في الخارج بل هو أمر فرضي فلا يعقل أن يصدر عنه وجود- ولا يمكن أن يكون بعضه قد أوجد البعض الآخر وهذا بديهي ولذلك لم يقل به أحد، فلا بد إذا من أن يكون صادرا عن وجود آخر غيره وهو الله واجب الوجود. ثم إن هذا النظام العام في الملكوت الأعظم يدل على أن مصدره واحد وتدبيره راجع إلى علم عليم واحد وحكمة حكيم واحد، سبحانه وتعالى {أم خلقوا من غير شيء؟ أم هم الخالقون؟ أم خلقوا السماوات والأرض؟ بل لا يوقنون} [الطور: 35، 36].
ومعنى الآية أكذبوا الرسول المشهور بالأمانة والصدق، وقالوا: إنه لمجنون وهو المعروف عندهم بالروية والعقل، وحتى جعلوا تحكيمه في تنازعهم على رفع الحجر الأسود هو الحكم الفصل – ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال في مجموع ملكوت السماوات والأرض على عظمته، والنظام العام الذي قام بجملته، وما خلق الله من شيء في كل منهما وإن دق وصغر، وخفي واستتر، ففي كل شيء من خلقه له آية تدل على علمه وقدرته، ومشيئته وحكمته، وفضله ورحمته، وكونه لم يخلق شيئا عبثا، ولا يترك الناس سدى، تدل على ذلك بوجود ذلك الشيء بعد أن لم يكن، وبترجيح كل وصف من أوصافه على ما يقابله، وبما فيها من فائدة ومنفعة، فكيف بالملكوت الأعظم في جملته، والنظام البديع الذي قام هو به؟ أكذبوا وقالوا ما قالوا ولم ينظروا في العالم الأكبر، ولا في ذرات العالم الأصغر، نظر تأمل واعتبار، وتفكر واستدلال، ولا فيما عسى أن يكون عليه الشأن من اقتراب أجلهم، وقدومهم على الله تعالى بسوء عملهم، فأجل الأفراد مهما يطل قصير، ومهما يبعد أملهم فيه فهو في الحق والواقع قريب، ولو نظروا في الملكوت أو في شيء ما منه، واعتبروا بخلق الله تعالى إياه، لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ولو نظروا في توقع قرب أجلهم لاحتاطوا لأنفسهم ورأوا أن من العقل والروية أن يقبلوا إنذاره صلى الله عليه وسلم لهم، لأن خيريته لهم في الدنيا ظاهرة لم يكونوا ينكرونها، وأما خيريته في الآخرة فهي أعظم إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء وهو صدق وحق، وإن صح إنكارهم له- وما هو بصحيح- فلا ضرر عليهم من الاحتياط له...فالمجنون إذا من يترك ما فيه سعادة الدنيا باعترافه، وسعادة الآخرة ولو على احتمال لا ضرر في تخلفه، لا من يدعو إلى السعادتين، أو إلى شيئين يجزمون بأن أحدهما نافع قطعا والآخر إما نافع وإما غير ضار. هذا ما دعاهم إليه صاحبهم بكتاب ربهم مؤيدا بالبراهين العقلية والعلمية، لعلهم يعقلون ويعلمون.
{فبأي حديث بعده يؤمنون} وردت هذه الآية بنصها في آخر سورة المرسلات (77) التي أقيمت فيها الدلائل على البعث والجزاء وتهديد المكذبين بالويل والهلاك بعد تقرير كل نوع منها. وورد في الآية الخامسة من سورة الجاثية (45) بعد التذكير بآيات الله للمؤمنين وآياته لقوم يوقنون وآياته لقوم يعقلون قوله: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} [الجاثية: 6]؟ والحديث في الجميع كلام الله الذي هو القرآن، يدل عليه هنا قوله تعالى في رسوله {إن هو إلا نذير مبين} [الأعراف: 184] وفي آية المرسلات القرينة في تهديد المكذبين له. وفي آية الجاثية افتتاح السورة بذكر الكتاب فيكون معناها فبأي حديث بعد كتاب الله المذكور في الآية الأولى وآياته المشار إليها بعدها يؤمنون؟
والمراد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم نذير مبين عن الله تعالى وإنما أنذر الناس بهذا الحديث أي القرآن كما أمره أن يقول: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} [الأنعام: 19] وهو أكمل كتب الله بيانا، وأقواها برهانا، وأقهرها سلطانا، فمن لم يؤمن به فلا مطمع في إيمانه بغيره، ومن لم يرو ظمأه الماء النقاح المبرد فأي شيء يرويه؟ ومن لم يبصر في نور النهار ففي أي نور يبصر؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؟).. وهي هزة أخرى أمام هذا الكون العجيب.. والنظر بالقلب المفتوح والعين المبصرة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم، يكفي وحده لانتفاض الفطرة من تحت الركام؛ وتفتح الكينونة البشرية لإدراك الحق الكامن فيه، والإبداع الذي يشهد به، والإعجاز الذي يدل على البارئ الواحد القدير.. والنظر إلى ما خلق الله من شيء -وكم في ملكوت السماوات والأرض من شيء- يدهش القلب ويحير الفكر، ويلجئ العقل إلى البحث عن مصدر هذا كله، وعن الإرادة التي أوجدت هذا الخلق على هذا النظام المقصود المشهور.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وبعد أن دعاهم الله تعالى إلى التفكير في أمر النبي الصادق الأمين، دعاهم إلى النظر في الكون ليؤمنوا بالله وحده، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}.
عقيدة الإيمان الإسلامية شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه الصادق الأمين، وقد بين سبحانه في الآية السابقة أن صدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثابت عند المشركين لصحبته لهم قبل أن ينادي بأنه رسول رب العالمين، ولم تتغير حاله بعد الدعوة وليس به جنون كما ادعيتم ولكنه حمل الرسالة بالإنذار والتبشير لكم فلا مسوغ لكم في تكذيبه؛ وقد علمتم من ماضيه فيكم أنه الصادق، وتأيد صدقه بالمعجزة الباهرة القاهرة فيكون كل ما جاء به حق.
وإنه إذا ثبتت المعجزة، وإنها ثابتة لا محالة، فقد ثبت كل ما جاء به ودعا إليه من التوحيد، وألا يشركوا بالله شيئا.
وقد أخذ – سبحانه وتعالى – يثبته بالأدلة الكونية، وقد دعاهم – سبحانه – إلى النظر في الكون، وما خلق من شيء فقال تعالى: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} الملكوت صيغة مبالغة في الملك، وهي تدل على كمال السلطان وقوة الملك، وأن كل شيء في هذا الملكوت لا يسير إلا بأمر الله تعالى ونهيه – سبحانه وتعالى – والاستفهام للتعجب من أمر المشركين الذين هبط حالهم إلى عبادة حجر لا ينفع ولا يضر، وهو ملقى ككل الحجارة الملقاة ولا ينظرون إلى الكون العظيم وخالقه، لا ينظرون إلى السماء وأبراجها والشمس وضوئها، والقمر ونوره، وتعاقب الليل والنهار، ولا إلى الأرض وسهولها وأوتادها {وما خلق الله من شيء}، والأشياء التي خلقها الله تعالى من حيوان، وجماد وفلزات في باطن الأرض، لا ينظرون إلى ذلك ويسجدون للصنم، ويجعلونه إلها كخالق هذا الكون، وخالق الوجود كله! إن هذا قصور في الفكر والعقل، وضلال في القول والعمل، وخبط في العبادة من غير إدراك.
وقوله تعالى: {أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} الفعل فيها عطف على فعل محذوف تقديره أيشركون بالله أصناما، ويجعلونها أندادا له – سبحانه – وتعالى – ولم ينظروا إلى خلق الله وعظم هذا الخلق، والأثر يدل على المؤثر، والمخلوق يدل على الخالق، سبحانه، وهذا الكلام فيه دعوة إلى النظر في الكون، {وما خلق الله من شيء} في السماء والأرض، فقد قال تعالى: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض...} (يونس 101)، وقال تعالى: {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20)} (الغاشية)، وقال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21) وفي السماء رزقكم وما توعدون (22)} (الذاريات).
وهكذا يجب ابتداء النظر إلى الكون وما فيه، وإلى النفس الإنسانية وما هي، ومم تكونت، ولقد أمر الله تعالى في الآية بالنظر إلى مآل الإنسان، وأنه داع إلى الاعتبار، ولا يمكن أن يكون قد خلق عبثا، فقال تعالى: {عسى أن يكون قد اقترب أجلهم}، و (أن) هنا مخففة من (أن) الثقيلة، وإنها ضمير الشأن، أي: وأنه الحال والشأن أن يكون قد اقترب أجلهم.
والله – سبحانه وتعالى – يذكرهم بضرورة النظر إلى الموت، وإلى أن الأجل الذي أقت لحياتهم انتهى، وهذا التذكير فيه فوائد:
أولاها – أن غرور الحياة يدفع إلى الطغيان فيها، فينهوي إلى ضلالها، فإذا ذكر بالموت علم أنها فانية فيقل طغيانه وغروره بها وتلك نافذة الإيمان.
ثانيها – أن تذكر الموت يدفع إلى التفكير في قيمة الحياة فإذا عرف قيمتها عرف قيمة الدنيا؛ ولذلك كان بعض الصالحين إذا عزى في وفاة قال: اللهم انفعنا بالموت، لأنه عبرة وفيه إنذار بالنهاية فإن لم يؤمن باليوم الآخر، فالحياة تكون لغير غاية.
ثالثها – أن التفكير في الموت والنظر فيه يدفع إلى الإيمان باليوم الآخر، وأن حياته ليست عبثا كما قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا ترجعون (115)} (المؤمنون).
إنها آيات الله البينات، فيها عبرة وعظة لقوم يؤمنون.
ولقد قال تعالى من بعد ذلك في استفهام تعجبي: {فبأي حديث بعده يؤمنون} الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذ لم يؤمنوا بالله الخالق المنشئ المدبر، وآياته الدالة عليه ولا في الموت النازل بهم لا محالة، إذ لم يؤمنوا بذلك، فبأي حديث يحدثون به يؤمنون.
والاستفهام إنكاري توبيخي، هو نفي لإيمانهم بأي حديث مهما يكن، وذلك فيه توبيخ، وفيه إثبات أن أمثال هؤلاء لا يؤمنون بشيء وفقدت قوة الإيمان بأي أمر، ومن فقد أصل الإيمان بالأشياء فهو حائر ضال لا يهتدي؛ ولذا قال الله تعالى بعد ذلك: {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لينطلقوا من هذا النظر القائم على التفكير إلى الشعور بالمسؤولية في ما يستوحونه من إيمانٍ بالله وبشرائعه، وليعيشوا الحياة من خلال ذلك، فيفكروا بالحساب على أساس الثواب والعقاب. {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} فيدفعهم ذلك إلى الإحساس بالخوف من ضياع الفرصة من أيديهم، فقد لا يستطيعون إصلاح ما فسد إذا لم يبادروا اليوم قبل الغد، لا سيما أن عناصر الإيمان متوفرة لهم. فإذا لم يؤمنوا بها فبِمَ يؤمنون؟ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} إذ ليس هناك أيّة قاعدةٍ للإيمان بأيّ شيءٍ آخر ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي الآية التّالية استكمالا للموضوع آنف الذكر دعاهم القرآن إلى النظر في عالم الملكوت، عالم السموات والأرض، إذ تقول الآية: (أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء).
ليعلموا أنّ هذا العالم الواسع، عالم الخلق، عالم السموات والأرض، بنظامه الدقيق المحيّر المذهل لم يخلق عبثاً، وإنّما هناك هدف وراء خلقه. ودعوة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحقيقة، هي من أجل ذلك الهدف، وهو تكامل الإنسان وتربيته وارتقاؤه.
و«الملكوت» في الأصل مأخوذ من «الملك» ويعني الحكومة والمالكية، والواو والتاء المزيدتان المردفتان به هما للتأكيد والمبالغة. ويُطلق هذا الاستعمال على حكومة الله المطلقة التي لا حدّ لها ولا نهاية..
فالنظر إلى عالم الملكوت ونظامه الكبير الواسع المملوك لله سبحانه يقوّي الإِيمان بالله والإِيمان بالحق، كما أنّه يكشف عن وجود هدف مهم في هذا العالم الكبير المنتظم أيضاً. وفي الحالين يدعو الإنسان إلى البحث عن ممثل الله ورَسول رحمته الذي يستطيع أن يطبق الهدف من الخلق في الأرض.
ثمّ تقول الآية معقبة... لتنّبههم من نومة الغافلين (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون).
أي: أوّلا: ليس الأمر كما يتصورون، فأعمارهم لا تخلد والفرص تمر مرّ السحاب، ولا يدري أحد أهو باق إلى غد أم لا؟! فمع هذه الحال ليس من العقل التسويف وتأجيل عمل اليوم إلى غد.
ثانياً: إذ لم يكونوا ليؤمنوا بهذا القرآن العظيم الذي فيه ما فيه من الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة الهادية إلى الإيمان بالله، فأي كتاب ينتظرونه خير من القرآن ليؤمنوا به؟ وهل يمكن أن يؤمنوا بكلام آخر ودعوة أُخرى غير هذه؟!
وكما نلاحظ فإنّ الآيات محل البحث تُوصد جميع سبل الفرار بوجه المشركين، فمن ناحية تدعوهم إلى أن يتفكروا في شخصيّة النّبي وعقله وسابق أعماله فيهم لئلا يتملّصوا من دعوته باتهامهم إيّاه بالجنون.
ومن ناحية أُخرى تدعوهم إلى أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، والهدف من خلقهما، وأنّهما لم يخلقا عبثاً.
ومن ناحية ثالثة تقول: (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) لئلا يسوّفوا قائلين اليوم وغداً وبعد غد الخ...
ومن ناحية رابعة تقول: إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنّهم لن يؤمنوا بأي حديث آخر وأي كتاب آخر، إذ ليس فوق القرآن كتاب أبداً...