الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَوَلَمۡ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ وَأَنۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقۡتَرَبَ أَجَلُهُمۡۖ فَبِأَيِّ حَدِيثِۭ بَعۡدَهُۥ يُؤۡمِنُونَ} (185)

قوله تعالى : { وَأَنْ عَسَى } : " أنْ " فيها وجهان أحدهما : وهو الصحيح أنها المخففةُ من الثقيلة ، واسمُها ضمير الأمر والشأن . و " عسى " وما في حيِّزها في محل الرفع خبراً لها ، ولم يُفْصل هنا بين أنْ والخبر وإن كان فعلاً ؛ لأن الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبه الأسماء ، ومثله

{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } [ النجم : 39 ] { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] في قراءة نافع لأنه دعاء . وقد وقع خبرُ " أَنْ " جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين فإنَّ " عسى " للإِنشاء ، و " غضب الله " دعاء .

والثاني : أنها المصدرية ، قاله أبو البقاء يعني التي تنصب المضارع الثنائية الوضع ، وهذا ليس بجيد ؛ لأن النحاةَ نَصُّوا على أنَّ " أَنْ " المصدرية لا تُوصل إلا بالفعل المتصرِف مطلقاً أي ماضٍ ومضارع وأمر و " عسى " لا يتصرف فكيف يقع صلة لها ؟ و " أنْ " على كلا الوجهين في محل جرٍّ نَسَقاً على " ملكوت " ، أي : وألم ينظروا في أن الأمر والشأن عسى أن يكون . و " أن يكون " فاعل عسى ، وهي حينئذٍ تامَّةٌ لأنها متى رفعت أَنْ وما في حيزها كانت تامةً ، ومثلها في ذلك أوشك واخلولق . وفي اسم " يكون " قولان ، أحدُهما : هو ضمير الشأن ، ويكون " قد اقترب أجلهم " خبراً لها . والثاني : أنه " أجلُهم " و " قد اقترب " جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير " أجلهم " ولكن قَدَّم الخبر وهو جملة فعلية على اسمها ، وقد تقدَّم ذلك والخلاف فيه : وهو أن ابن مالك يجيزه ، وابن عصفور يمنعه ، عند قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] .

قوله : { فَبِأَيِّ } متعلِّقٌ ب " يُؤْمنون " وهي جملةٌ استفهامية سِيقَتْ للتعجب ، أي : إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فكيف يُؤْمنون بغيره ؟ والهاء في " بعده " تحتمل العَوْدَ على القرآن وأن تعودَ على الرسول ، ويكون الكلامُ على حَذْف مضافٍ ، أي : بعد خبره وقصته ، وأن تعود على " أجلهم " ، أي : إنهم إذا ماتوا وانقضى أجلُهم فكيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم ؟ قال الزمخشري : " فإن قلت : بم تُعَلِّق قوله : " فبأي حديث بعده يؤمنون " ؟ قلت : بقوله " عسى أن يكونَ قد اقترب أجلهم " . كأنه قيل : لعل أجلَهم قد اقترب فما لهم لا يبادرون [ إلى ] الإِيمان بالقرآن قبل الموت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق ، وبأي حديثٍ أحقَّ منه يريدون أن يؤمنوا " ؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح .