ثم ( أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ؟ ) . .
وهي هزة أخرى أمام هذا الكون العجيب . . والنظر بالقلب المفتوح والعين المبصرة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم ، يكفي وحده لانتفاض الفطرة من تحت الركام ؛ وتفتح الكينونة البشرية لإدراك الحق الكامن فيه ، والإبداع الذي يشهد به ، والإعجاز الذي يدل على البارىء الواحد القدير . . والنظر إلى ما خلق الله من شيء - وكم في ملكوت السماوات والأرض من شيء - يدهش القلب ويحير الفكر ، ويلجىء العقل إلى البحث عن مصدر هذا كله ، وعن الإرادة التي أوجدت هذا الخلق على هذا النظام المقصود المشهور .
لماذا كانت الخلائق على هذا النحو الذي كانت به ؛ ولم تكن على أي نحو آخر من الإمكانيات التي لا حصر لها في الكينونة ؟ لماذا سارت في هذا الطريق ولم تسر في أي طريق آخر من الطرق الممكنة الأخرى ؟ لماذا استقامت على طريقها هذا ومن الذي يمسكها على نشأتها ؟ ما سر هذه الوحدة السارية في طبيعتها إن لم يكن هذا هو الناموس الواحد ، الصادر عن الإرادة الواحدة ، التي يجري بها قدر مطرد مقصود ؟
إن الجسم الحي . لا بل الخلية الحية . لمعجزة لا ينقضي منها العجب . . وجودها . تركيبها . تصرفها . عمليات التحول الدائمة التي تتم فيها كل لحظة مع محافظتها على وجودها ؛ وتضمنها كذلك لوسيلة التجدد في أنسال منها ؛ ومعرفتها لوظيفتها ولامتداد هذه الوظيفة في أنسالها ! . . فمن ذا الذي ينظر إلى هذه الخلية الواحدة ، ثم يطمئن عقله - بل فطرته وضميره - إلى أن هذا الكون بلا إله ، أو أن هناك آلهة مع الله ؟
إن امتداد الحياة عن طريق الزوجية والنسل ليقوم شاهداً يهتف لكل قلب وكل عقل بتدبير الخالق الواحد المدبر . . وإلا فمن ذا الذي يضمن للحياة وجود الذكر والأنثى دائماً في نسلها بالمقادير التي يتم بها هذا التزاوج ؟ لماذا لا يأتي زمن على الحياة تنسل ذكوراً فقط أو إناثاً فقط . . ولو حدث هذا لا نقطع النسل عند هذا الجيل . . فمن ذا الذي يمسك بعجلة التوازن دائما في الأجيال جميعاً ؟
إن التوازن ملحوظ في ملكوت السماوات والأرض جميعاً -لا في هذه الظاهرة الحيوية وحدها - إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة ! وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء . . ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائماً لحظة ! فمن الذي يمسك بعجلة التوازن الكبرى في السماوات والأرض جميعاً ؟
وعرب الجزيرة الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ما كانوا يدركون بعلومهم مدى هذا التوازن والتناسق في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء . . ولكن الفطرة الإنسانية بذاتها تلتقي مع هذا الكون في أعماقها ؛ وتتجاوب معه بلغة غير منطوقة إلا في هذه الأعماق . ويكفي أن ينظر الإنسان بالقلب المفتوح والعين المبصرة إلى هذا الكون حتى يتلقى إيقاعاته وإيحاءاته تلقياً موحياً هادياً .
ولقد اهتدى الإنسان بفطرته - وهو يتلقى إيقاعات هذا الوجود في حسه - إلى أن له إلهاً . ولم تغب عن حسه قط هذه الحقيقة . إنما كان يخطىء في تحديد صفة الإله الحق ، حتى تهديه الرسالات إلى الرؤية الصحيحة . . فأما الملحدون الجدد - أصحاب " الاشتراكية العلمية " ! - فهم أمساخ شائهو الفطرة . بل إنهم إنما ينكرون الفطرة ، ويعاندون ما يجدونه في أنفسهم من إلحاحها . . وعندما صعد أحدهم إلى الفضاء الجوي ، ورأى ذلك المشهد الباهر - مشهد الأرض كرة معلقة في الفضاء - هتفت فطرته : ما الذي يمسكها هكذا في الفضاء ؟ ولكنه حين هبط إلى الأرض ، وتذكر إرهاب الدولة ، قال : إنه لم يجد الله هناك ! وكتم إلحاح فطرته وصراخها في أعماقه ، أمام شيء من ملكوت السماوات والأرض !
إن الله الذي يخاطب الإنسان بهذا القرآن لهو الذي خلق هذا الإنسان ، والذي يعلم فطرة هذا الإنسان !
وأخيراً يلمس قلوبهم بطائف الموت الذي قد يكون مخبأ لهم - من قريب - في عالم المجهول المغيب ؛ وهم عنه غافلون :
( وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ) . .
فما يدريهم أن أجلهم قريب ؟ وما يبقيهم في غفلتهم سادرين ؛ وهم عن غيب الله محجوبون ؟ وهم في قبضته لا يفلتون ؟
إن هذه اللمسة بالأجل المغيب - الذي قد يكون قد اقترب - لتهز القلب البشري هزة عميقة ! لعله أنيستيقظ ويتفتح ويرى . والله منزل هذا القرآن وخالق هذا الإنسان يعلم أن هذه اللمسة لا تبقي قلباً غافلاً . . ولكن بعض القلوب قد يعاند بعد ذلك ويكابر !
وما بعد هذا الحديث من حديث تهتز له القلوب أو تلين . .
إن هذه اللمسات التي تعددت في الآية الواحدة ؛ لتكشف لنا عن منهج هذا القرآن في خطاب الكينونة البشرية . . إنه لا يدع جانباً واحداً منها لا يخاطبه ، ولا يدع وتراً منها واحداً لا يوقع عليه ؛ إنه لا يخاطب الذهن ولكنه لا يهمله ؛ ففي الطريق - وهو يهز الكيان البشري كله - يلمسه ويوقظه . إنه لا يسلك إليه طريق الجدل البارد ، ولكنه يستحييه لينظر ويتفكر وحرارة الحياة تسري فيه وتيارها الدافق . . وهكذا ينبغي أن يتجه منهج الدعوة إلى الله دائماً . . فالإنسان هو الإنسان لم يتبدل خلقاً آخر . والقرآن هو القرآن كلام الله الباقي ، وخطاب الله لهذا الإنسان الذي لا يتغير . . مهما تعلم ومهما " تطور ! " . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.