اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوَلَمۡ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ وَأَنۡ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقۡتَرَبَ أَجَلُهُمۡۖ فَبِأَيِّ حَدِيثِۭ بَعۡدَهُۥ يُؤۡمِنُونَ} (185)

قوله : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض } الآية .

لمَّا كانَ النَّظرُ في أمر النُّبُوَّةِ مفرعاً على تقرير دلائل التَّوحيد ، لا جرم ذكر عقيبهُ ما يدلُّ على التَّوحيد ، فقال : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض } واعلم أنَّ دلائل ملكوت السَّمواتِ والأرض على وجود الصَّانع الحكيم كثيرة وقد تقدَّمت .

ثم قال : { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } أي : أن الدَّلائل على التَّوحيد غير مقصورةٍ على السَّموات والأرض ، بل كلُّ ذرَّة من ذرات العالم ، فهي برهان قاهرٌ على التَّوحيد ، وتقريره أن الشَّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرَّات ، فيفرض الكلامُ في ذرَّةٍ واحدةٍ من تلك الذرات .

فنقول : إنَّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية ؛ لأنَّها مختصة بحيِّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له ، فكلُّ حَيِّزٍ من تلك الأحياز الغيرِ متناهية فرضنا وقوع تلك الذَّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيِّز من الممكنات والجائزات ، والممكن لابدَّ له من مُخَصّص ومرجح ، وذلك المخصص إن كان جسماً عادَ السُّؤالُ فيه ، وإن لم يكن جسماً كان هو اللَّهُ تعالى .

وأيضاً فتلك الذَّرَّةُ لا تخلو من الحركةِ والسُّكُونِ ، وكلُّ ما كان كذلك فهو محدثٌ ، وكل محدث فإنَّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصّاً بوقتٍ معيَّنٍ مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه ، لا بُد وأن يكون بتخصيص مخصصٍ قديم ثمَّ إن كان ذلك المُخَصَّص جسماً عاد السُّؤالُ فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى وأيضاً فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميَّة ، ومخالفة لها في اللَّون والشَّكل والطبع والطعم وسائر الصِّفاتِ ، فاختصاصها بكلِّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام ، لا بد وأن يكون من الجائزات ، والجائزُ لا بد له من مرجح ، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البَحْثُ الأوَّلُ فيه ، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى ، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصَّانع من جهات تتناهى ، واعتبارات غير متناهية ، وكذا القولُ في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركَّباته ، وعند هذا ظهر صدْقُ القائل : [ المتقارب ] .

وَفِي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدٌ{[17046]}

ولمَّا نبَّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله : { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } أردفه بما يوجب التَّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكُّر فقال : " وأنْ عَسَى " ، و " أنْ " فيها وجهان :

أصحهما : أنَّهَا المخففةُ من الثقيلة ، واسمُها ضمير الأمر والشأن ، والمعنى : لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيرُوا إلى النَّارِ ، وإذا كان هذا الاحتمالُ قائماً ؛ وجب على العاقل المُسارعة إلى هذا الفكر ، ليسعى في تخليص نفسه من هذا الخوف الشَّديد ، و " عسى " وما حيَّزها في محلِّ الرفع خبراً لها ، ولم يفصل بَيْنَ " أنْ " والخبر وإن كان فعلاً ؛ لأنَّ الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبهُ الأسماء ، ومثله { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] { والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] في قراءة نافع لأنَّهُ دعاء .

فصل

وقد وقع خبرُ " أنْ " جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين ، فإنَّ عَسَى للإنشاء و " غَضَبَ اللَّه " دعاء .

والثاني : أنَّها المصدرية ؛ قاله أبُو البقاءِ ، يعني التي تنصب المضارع ، الثنائية الوضع ، وهذا ليس بجيِّدٍ ؛ لأنَّ النُّحاة نَصُّوا على أنَّ المصدرية لا تُوصَل إلاَّ بالفعل المتصرف مطلقاً ، أي : ماضٍ ، ومضارع وأمر ، و " عَسَى " لا يتصرف فكيف يقع صلة لها ؟ وأنْ على كلا الوجهين في محل جر نسقاً على " ملكوت " ، أي : أو لم ينظروا في أنَّ الأمر والشأن عسى أن يكون ، و " أن يكُون " فاعل " عَسَى " وهي حينئذٍ تامَّةٌ ؛ لأنَّها متى رفعت " أنْ " وما في حيَّزها كانت تامةً ، ومثلها في ذلك : أوشك ، واخلولق .

وفي اسم : " يَكُون " قولان :

أحدهما : هو ضميرُ الشَّأنِ ، ويكونُ : { قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } خبراً لها .

والثاني : أنه : " أجْلُهُمْ " ، و " قَدِ اقتربَ " جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير " أجَلُهُم " ولكن قدّم الخبر وهو جملة فعليَّة على اسمها .

وقد تقدَّم أن ابن مالك يجيزه وابن عصفور يمنعه عند قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] .

قوله : " فَبِأيِّ " مُتعلّق ب " يُؤمِنُونَ " وهي جملةٌ استفهامية سيقتْ للتَّعجب ، أي : إذَا لم يُؤمِنُوا بهذا الحديث فكيف يُؤمِنُونَ بغيره ؟ والهاءُ في : " بَعْدَهُ " تحتملُ العَوْدَ على القرآن وأن تعُود على الرَّسُولِ ، ويكون الكلامُ على حذف مضافٍ ، أي : بعد خبره وقصته ، وأن تعود على : " أجَلُهُمْ " ، أي : إنَّهم إذا ماتوا وانقضى أجلهم ؛ فكيف يُؤمنُون بعد انقضاءِ أجلهم ؟

قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بم تُعلِّق قوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ قلت : بقوله : { عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } ؛ كأنه قيل : لعلَّ أجلهم قد اقترب فما لهُم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الموت ، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ ؟ وبأيَّ حديثٍ أحقُّ منه يرون أن يؤمنوا ؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح .


[17046]:البيت لأبي فراس. ينظر الأشباه والنظائر ص 3، والبحر المحيط 4/430، وروح المعاني 9/128، والرازي 15/77، وحاشية الشهاب 4/240.