قوله تعالى : { يا أيها الناس } . قال ابن عباس : يا أيها الناس خطاب أهل مكة ، ويا أيها الذين آمنوا خطاب أهل المدينة وهو هاهنا عام إلا من حيث إنه لا يدخله الصغار والمجانين .
قوله تعالى : { اعبدوا } . وحدوا . قال ابن عباس : كل ما ورد في القرآن من العبادة فمعناها التوحيد .
قوله تعالى : { ربكم الذي خلقكم } . والخلق : اختراع الشيء على غير مثال سبق .
قوله تعالى : { والذين من قبلكم } . أي وخلق الذين من قبلكم .
قوله تعالى : { لعلكم تتقون } . لكي تنجوا من العذاب ، وقيل معناه كونوا على رجاء التقوى بأن تصيروا في ستر ووقاية من عذاب الله ، وحكم الله من ورائكم يفعل ما يشاء كما قال : ( فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ) أي ادعوه إلى الحق وكونا على رجاء التذكر ، وحكم الله من ورائه يفعل ما يشاء . قال سيبويه : لعل وعسى حرفا ترج وهما من الله واجب .
وعندما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة ، وأمرا للبشرية جمعاء ، أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة . الصورة النقية الخالصة . الصورة العاملة النافعة . الصورة المهتدية المفلحة . . صورة المتقين :
( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشا ، والسماء بناء ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) . .
إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم . ربهم الذي تفرد بالخلق ، فوجب أن يتفرد بالعبادة . . وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه :
( لعلكم تتقون ) . . لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية . صورة العابدين لله . المتقين لله . الذين أدوا حق الربوبية الخالقة ، فعبدوا الخالق وحده ؛ رب الحاضرين والغابرين ، وخالق الناس أجمعين ، ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك .
{ يا أيها الناس اعبدوا ربكم } لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم ، أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هزا للسامع وتنشيطا له واهتماما بأمر العبادة ، وتفخيما لشأنها ، وجبرا لكلفة العبادة بلذة المخاطبة . و( يا ) حرف وضع لنداء البعيد ، وقد ينادي به القريب تنزيلا له منزلة البعيد . إما لعظمته كقول الداعي : يا رب ، ويا الله ، هو أقرب إليه من حبل الوريد . أو لغفلته وسوء فهمه . أو للاعتناء بالمدعو له وزيادة الحث عليه . وهو مع المنادى جملة مفيدة ، لأنه نائب مناب فعل وأي : جعل وصلة إلى نداء المعرف باللام ، فإن إدخال " يا " عليه متعذر لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وأعطي حكم المنادى وأجري عليه المقصود بالنداء وصفا موضحا له ، والتزام رفعه إشعارا بأنه المقصود ، وأقحمت بينهما هاء التنبيه تأكيدا وتعويضا عما يستحقه ، أي من المضاف إليه ، وإنما كثر النداء على هذه الطريقة في القرآن لاستقلاله بأوجه من التأكيد ، وكل ما نادى الله له عباده من حيث إنها أمور عظام ، من حقها أن يتفطنوا إليها ، ويقبلوا بقلوبهم عليها ، وأكثرهم عنها غافلون ، حقيق بأن ينادي له بالآكد الأبلغ والجموع وأسماؤها المحلاة باللام للعموم حيث لا عهد ، ويدل عليه صحة الاستثناء منها ، أو التأكيد بما يفيد العموم كقوله تعالى : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } واستدلال الصحابة بعمومها شائعا وذائعا ، فالناس يعم الموجودين وقت النزول لفظا ومن سيوجد ، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ، ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل ، وما روي عن علقمة والحسن أن كل شيء نزل فيه { يا أيها الناس } فمكي { ويا أيها الذين آمنوا } فمدني ، إن صح رفعه فلا يوجب تخصيصه بالكفار ، ولا أمرهم بالعبادة ، فإن المأمور به هو القدر المشترك بين بدء العبادة ، والزيادة فيها ، والمواظبة عليها ، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع ، فإن من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به ، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة ، فالكفر لا يمنع وجوب العبادة ، بل يجب رفعه والاشتغال بها عقيبه . ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها وإنما قال : { ربكم } تنبيها على أن الموجب للعبادة هي الربوبية .
{ الذي خلقكم } صفة جرت عليه تعالى للتعظيم والتعليل ، ويحتمل التقييد والتوضيح إن خص الخطاب بالمشركين ، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي ، والآلهة التي يسمونها أربابا ، والخلق إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وأصله التقدير يقال : خلق النعل إذا قدرها وسواها بالمقياس . { والذين من قبلكم } متناول كل ما يتقدم الإنسان بالذات أو بالزمان . منصوب معطوف على الضمير المنصوب في { خلقكم } والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم ، إما لاعترافهم به كما قال الله تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر وقرئ { من قبلكم } على إقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيدا ، كما أقحم جرير في قوله :
تيما ، الثاني بين الأول وما أضيف إليه .
{ لعلكم تتقون } حال من الضمير في { اعبدوا } كأنه قال : اعبدوا ربكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح ، المستوجبين جوار الله تعالى . نبه به على أن التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبري من كل شيء سوى الله تعالى إلى الله ، وأن العابد ينبغي أن لا يغتر بعبادته ، ويكون ذا خوف ورجاء قال تعالى : { يدعون ربهم خوفا وطمعا } { يرجون رحمته ويخافون عذابه } أو من مفعول { خلقكم } والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه ، وكثرة الدواعي إليه ، وغلب المخاطبين على الغائبين في اللفظ ، والمعنى على إرادتهم جميعا وقيل تعليل للخلق أي خلقكم لكي تتقوا كما قال : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } . وهو ضعيف إذ لم يثبت في اللغة مثله .
والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة ، النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله ، وأن العبد لا يستحق بعبادته عليه ثوابا ، فإنها لما وجبت عليه شكرا لما عدده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 21 )
«يا » حرف نداء ، وفيه تنبيه ، و «أي » هو المنادى .
قال أبو علي : «اجتلبت أي بعد حرف النداء فيما فيه الألف واللام لأن في حرف النداء تعريفاً فكان يجتمع تعريفان ، و » ها «تنبيه وإشارة إلى المقصود ، وهي بمنزلة ذا في الواحد ، و { الناس } نعت لازم لأي » .
وقال مجاهد : { يا أيها الناس } حيث وقع في القرآن مكي ، و { يا أيها الذين آمنوا } مدني .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : قد تقدم في أول السورة أنها كلها مدنية ، وقد يجيء في المدني { يا أيها الناس } ، وأما قوله في { يا أيها الذين آمنوا } فصحيح .
وقوله تعالى : { اعبدوا ربكم }( {[321]} ) معناه وحدوه وخصوه بالعبادة ، وذكر تعالى خلقه لهم من بين سائر صفاته إذ كانت العرب مقرة بأن الله خلقها ، فذكر ذلك حجة عليهم . ( {[322]} )
و «لعل » في هذه الآية قال فيها كثير من المفسرين هي بمعنى إيجاب التقوى( {[323]} ) وليست من الله تعالى بمعنى ترجٍّ وتوقُّع .
وقال سيبويه ورؤساء اللسان : هي على بابها ، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر ، أي إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم رجوتم لأنفسكم التقوى ، و { لعلكم } متعلقة بقوله : { اعبدوا ربكم } ، ويتجه تعلقها بخلقكم أي لما ولد كل مولود على الفطرة فهو إن تأمله متأمل توقَّع له ورجا أن يكون متقياً ، و { تتقون } مأخوذ من الوقاية ، وأصله «توتقيون » نقلت حركة الياء إلى القاف وحذفت للالتقاء مع الواو الساكنة وأدغمت الواو الأولى في التاء .