التفسير : لما قدم الله تعالى أحكام فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم ومجاري أمورهم عاجلاً وآجلاً ، أقبل عليهم بالخطاب وهو من جملة الالتفات الذي يورث الكلام رونقاً وبهاء ويزيد السامع هزة ونشاطاً . ومن لطائف المقام أنه تعالى كأنه يقول : جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولاً ، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة ، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة . وفيه إشعار بأن العبد مهما اشتغل بالعبودية زاد قرباً وحضوراً . وأيضاً الآيات المتقدمة حكايات أحوالهم وهذه أمر وتكليف وفيه كلفة ومشقة ، فلابد من راحة وهي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته ، فيستطاب التكليف بالتكليم حينئذ ويستلذ هذا . وقد صح الإسناد عن علقمة أن كل شيء نزل فيه { يا أيها الناس } فهو مكي و{ يا أيها الذين آمنوا } فهو مدني فقوله { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } خطاب لمشركي مكة بحسب هذا النقل ، وإن كان من الجائز أن يخاطب المؤمنون باسم جنسهم ويؤمروا بالاستمرار على العبادة والازدياد منها . { ويا } حرف وضع لأجل التخفيف مقام أنادي الإنشائية لا الإخبارية . وههنا نكتة وهي أن أقوى المراتب الاسم ، وأضعفها الحرف ، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف ، فكذا أقوى الموجودات هو الحق سبحانه وأضعفها البشر { وخلق الإنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] فقالت الملائكة : ما للتراب ورب الأرباب { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }
[ البقرة : 30 ] فقيل لهم : قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء ، فكذا البشر يصلح لحضرة الرب حال التضرع والدعاء { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [ البقرة : 186 ] { فاذكروني أذكركم } [ البقرة : 152 ] و { يا } وضع في أصله لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديراً لكونه ساهياً أو غافلاً أو نائماً ، أو لتبعيد المنادي نفسه عن ساحة عزة المنادى هضماً واستقصاراً كقول الداعي في جؤاره : يا رب يا الله . مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد ، ليتحقق الإجابة بمقتضى قوله " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي " وقد ينادي القريب . ( 3 ) المقاطن في غير هذه الصورة بيا ويكون المراد به أن الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جداً نحو { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 183 ] { يا عبادي } [ الزمر : 53 ] { يا أيها النبي } [ الأحزاب : 45 ] لأن ما يعقبها أمور عظام وخطوب جسام من الأوامر والنواهي والعظات ، عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها . وأي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ، وهو اسم مبهم يوصف باسم جنس ليصح المقصود بالنداء مع ضرب من التأكيد المستفاد من الإبهام ثم التوضيح . وفي حرف التنبيه المقحم فائدتان : معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه ووقوعها عوضاً مما يستحقه أي من الإضافة . ثم إن قلنا : إن الخطاب عام لجميع المكلفين لأن الجمع المعرف باللام يفيد العموم بدليل صحة تأكيده ب{ كل } و{ أجمعون } في مثل قوله { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } [ ص : 73 ] ، بدليل صحة الاستثناء ، فالأقرب أنه لا يتناول إلا الموجودين في ذلك العصر ، وإنما يتناول الذين سيوجدون بدليل منفصل هو ما عرف بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، أن حكم الموجودين في عصره حكم من سيوجد إلى قيام الساعة . وإن قلنا : إن الخطاب لمشركي مكة فيدخل سائر الناس بالتبعية على قياس ما قلنا .
والمراد من قوله { اعبدوا } صححوا نسبة العبادة ، وذلك بأن يعرف نفسه بالإمكان ليعرف ربه بالوجوب ، ويعرف نفسه بالمملوكية ليعرف ربه بالمالكية ، ويعرف نفسه بالمقهورية والمقدورية ليعرف ربه بالقاهرية والقادرية ، ويعرف نفسه بالمأمورية والذلة ليعرف ربه بالآمرية والعزة ، فلا يتجاوز حده ولا يعكس هذه القضايا فلا يرى لنفسه تصرفاً بوجه من الوجوه ولا قدرة بنوع من الأنواع ، وإنما يكون عبداً ذليلاً ماثلاً بين يدي مولاه ، طائعاً له بكل ما يأمره وينهاه ، لأنه إذا تصور كونه عبداً فلابد أن يطلب لنفسه سيداً ، وإذا وجد السيد فلا محالة يوطن نفسه لطاعته وانقياده ، ولا يرى مخالفته في شيء أصلاً { إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وإلا لم تصح نسبة عبوديته . عن الأصمعي أنه أتى بغلام ليشتريه فقال له : ما اسمك ؟ قال : ما تسميني قال : أي شيء تأكل ؟ قال : ما تطعمني . قال : ما تشرب ؟ قال : ما تسقيني قال : تريد أن أشتريك ؟ قال : العبد لا يكون له إرادة والأمر بالعبادة بهذا المعنى يشمل الكافر والمؤمن وكل من فيه أهلية الخطاب ، ويندرج فيه المبادي والنهايات والأصول والفروع . ثم إنه تعالى لما علم القصور البشري وضعف قواهم الفطرية والفكرية أرشدهم إليه ونبههم عليه بقوله { ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } واعلم أن الطريق إلى معرفة الواجب سبحانه وتعالى بعد ما قلنا من الرجوع إلى النفس والتنبه لسمة العبودية ، إما الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما ، وكل منهما في الجواهر أو في الأعراض أما الاستدلال بإمكان الذوات فإليه الإشارة بقوله تعالى
والله الغني وأنتم الفقراء } [ محمد : 38 ] { وأن إلى ربك المنتهى } [ النجم : 42 ] وأما الاستدلال بإمكان الصفات فإليه الإشارة بقوله { خلق الله السماوات والأرض } [ العنكبوت : 44 ] { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } وبحدوث الأجسام قول إبراهيم عليه السلام { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] وبحدوث الأعراض دلائل الأنفس ودلائل الآفاق ، فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه كان معدوماً قبل ذلك ، والموجود بعد العدم له موجد وليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس لعجز الكل ، ولا طبائع الفصول والأفلاك الآفلات في أفق الإمكان فهو شيء غير متسم بسمة الحدوث والنقصان ، وهذا الطريق هو أقرب الطرق إلى الأفهام ، فلهذا أورده الله تعالى في فاتحة كتابه لينتفع به الخاص والعام مع أن فيه تذكيراً لنعمه السابقة وعطيته السابغة عليهم وعلى آبائهم ، وتذكير النعم مما يوجب المحبة والميل إلى الإنصاف وترك الجدال .
وأما قوله { لعلكم تتقون } ففيه بحثان : الأول : كلمة " لعل " للترجي أو الإشفاق ولا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وهو على الله محال والجواب أن الترجي راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى كقوله { لعله يتذكر أو يخشى } أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، ثم الله عالم بما يؤول إليه أمره . وأيضاً فمن ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم لإنجازها على أن يقولوا " عسى " و " لعل " ، وحينئذ لا يبقى لطالب ما عندهم شك في الفوز والنجاح بالمطلوب ، أو جاء على طريق الأطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد مثل { توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيآتكم } [ التحريم : 8 ] وقع " لعل " موقع المجاز لا الحقيقة لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات وأزاح العلة في إقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المترجي بين أن يفعل وبين أن لا يفعل ، ونظيره { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } [ الملك : 2 ] وهذا الجواب مبني على أن قوله { لعلكم } متعلق ب{ خلقكم } مثل
{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لا ب{ اعبدوا } وقيل : " لعل " بمعنى " كي " ووجه بأنها للأطماع والكريم الرحيم إذا أطمع فعل ، فجرى إطماعه مجرى وعده المحتوم فلهذا قيل : إنها بمعنى " كي " قال القفال : في " لعل " معنى التكرير والتأكيد إذ اللام للإبتداء نحو " لقد " ، ولقولهم علك أن تفعل كذا و " عل " يفيد التكرير ومنه العلل بعد النهل . فقول القاتل " افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك " معناه افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه .
( البحث الثاني ) : إذا كانت العبادة تقوى فقوله { لعلكم تتقون } جار مجرى قوله : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون واتقوا ربكم لعلكم تتقون . والجواب المنع من اتحاد مفهوميهما وخصوصاً على ما فسرنا إذ المعنى يعود إلى قولنا صححوا نسبة العبودية لتتصفوا بصفة التقوى وهي الاجتناب عن المعاصي فقط ، أو هو مع الإتيان بالأوامر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.