غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

21

التفسير : لما قدم الله تعالى أحكام فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين وذكر صفاتهم ومجاري أمورهم عاجلاً وآجلاً ، أقبل عليهم بالخطاب وهو من جملة الالتفات الذي يورث الكلام رونقاً وبهاء ويزيد السامع هزة ونشاطاً . ومن لطائف المقام أنه تعالى كأنه يقول : جعلت الرسول واسطة بيني وبينك أولاً ، والآن أزيد في إكرامك وتقريبك فأخاطبك من غير واسطة ، ليحصل لك مع التنبيه على الأدلة شرف المخاطبة والمكالمة . وفيه إشعار بأن العبد مهما اشتغل بالعبودية زاد قرباً وحضوراً . وأيضاً الآيات المتقدمة حكايات أحوالهم وهذه أمر وتكليف وفيه كلفة ومشقة ، فلابد من راحة وهي أن يرفع ملك الملوك الواسطة من البين ويخاطبهم بذاته ، فيستطاب التكليف بالتكليم حينئذ ويستلذ هذا . وقد صح الإسناد عن علقمة أن كل شيء نزل فيه { يا أيها الناس } فهو مكي و{ يا أيها الذين آمنوا } فهو مدني فقوله { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } خطاب لمشركي مكة بحسب هذا النقل ، وإن كان من الجائز أن يخاطب المؤمنون باسم جنسهم ويؤمروا بالاستمرار على العبادة والازدياد منها . { ويا } حرف وضع لأجل التخفيف مقام أنادي الإنشائية لا الإخبارية . وههنا نكتة وهي أن أقوى المراتب الاسم ، وأضعفها الحرف ، فظن قوم أنه لا يأتلف الاسم بالحرف ، فكذا أقوى الموجودات هو الحق سبحانه وأضعفها البشر { وخلق الإنسان ضعيفاً } [ النساء : 28 ] فقالت الملائكة : ما للتراب ورب الأرباب { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }

[ البقرة : 30 ] فقيل لهم : قد يأتلف الاسم مع الحرف في حال النداء ، فكذا البشر يصلح لحضرة الرب حال التضرع والدعاء { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [ البقرة : 186 ] { فاذكروني أذكركم } [ البقرة : 152 ] و { يا } وضع في أصله لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديراً لكونه ساهياً أو غافلاً أو نائماً ، أو لتبعيد المنادي نفسه عن ساحة عزة المنادى هضماً واستقصاراً كقول الداعي في جؤاره : يا رب يا الله . مع أنه أقرب إليه من حبل الوريد ، ليتحقق الإجابة بمقتضى قوله " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي " وقد ينادي القريب . ( 3 ) المقاطن في غير هذه الصورة بيا ويكون المراد به أن الخطاب الذي يتلوه معنيّ به جداً نحو { يا أيها الذين آمنوا } [ البقرة : 183 ] { يا عبادي } [ الزمر : 53 ] { يا أيها النبي } [ الأحزاب : 45 ] لأن ما يعقبها أمور عظام وخطوب جسام من الأوامر والنواهي والعظات ، عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها . وأي وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام ، وهو اسم مبهم يوصف باسم جنس ليصح المقصود بالنداء مع ضرب من التأكيد المستفاد من الإبهام ثم التوضيح . وفي حرف التنبيه المقحم فائدتان : معاضدة حرف النداء بتأكيد معناه ووقوعها عوضاً مما يستحقه أي من الإضافة . ثم إن قلنا : إن الخطاب عام لجميع المكلفين لأن الجمع المعرف باللام يفيد العموم بدليل صحة تأكيده ب{ كل } و{ أجمعون } في مثل قوله { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } [ ص : 73 ] ، بدليل صحة الاستثناء ، فالأقرب أنه لا يتناول إلا الموجودين في ذلك العصر ، وإنما يتناول الذين سيوجدون بدليل منفصل هو ما عرف بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، أن حكم الموجودين في عصره حكم من سيوجد إلى قيام الساعة . وإن قلنا : إن الخطاب لمشركي مكة فيدخل سائر الناس بالتبعية على قياس ما قلنا .

والمراد من قوله { اعبدوا } صححوا نسبة العبادة ، وذلك بأن يعرف نفسه بالإمكان ليعرف ربه بالوجوب ، ويعرف نفسه بالمملوكية ليعرف ربه بالمالكية ، ويعرف نفسه بالمقهورية والمقدورية ليعرف ربه بالقاهرية والقادرية ، ويعرف نفسه بالمأمورية والذلة ليعرف ربه بالآمرية والعزة ، فلا يتجاوز حده ولا يعكس هذه القضايا فلا يرى لنفسه تصرفاً بوجه من الوجوه ولا قدرة بنوع من الأنواع ، وإنما يكون عبداً ذليلاً ماثلاً بين يدي مولاه ، طائعاً له بكل ما يأمره وينهاه ، لأنه إذا تصور كونه عبداً فلابد أن يطلب لنفسه سيداً ، وإذا وجد السيد فلا محالة يوطن نفسه لطاعته وانقياده ، ولا يرى مخالفته في شيء أصلاً { إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وإلا لم تصح نسبة عبوديته . عن الأصمعي أنه أتى بغلام ليشتريه فقال له : ما اسمك ؟ قال : ما تسميني قال : أي شيء تأكل ؟ قال : ما تطعمني . قال : ما تشرب ؟ قال : ما تسقيني قال : تريد أن أشتريك ؟ قال : العبد لا يكون له إرادة والأمر بالعبادة بهذا المعنى يشمل الكافر والمؤمن وكل من فيه أهلية الخطاب ، ويندرج فيه المبادي والنهايات والأصول والفروع . ثم إنه تعالى لما علم القصور البشري وضعف قواهم الفطرية والفكرية أرشدهم إليه ونبههم عليه بقوله { ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } واعلم أن الطريق إلى معرفة الواجب سبحانه وتعالى بعد ما قلنا من الرجوع إلى النفس والتنبه لسمة العبودية ، إما الإمكان أو الحدوث أو مجموعهما ، وكل منهما في الجواهر أو في الأعراض أما الاستدلال بإمكان الذوات فإليه الإشارة بقوله تعالى

والله الغني وأنتم الفقراء } [ محمد : 38 ] { وأن إلى ربك المنتهى } [ النجم : 42 ] وأما الاستدلال بإمكان الصفات فإليه الإشارة بقوله { خلق الله السماوات والأرض } [ العنكبوت : 44 ] { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } وبحدوث الأجسام قول إبراهيم عليه السلام { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] وبحدوث الأعراض دلائل الأنفس ودلائل الآفاق ، فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنه كان معدوماً قبل ذلك ، والموجود بعد العدم له موجد وليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس لعجز الكل ، ولا طبائع الفصول والأفلاك الآفلات في أفق الإمكان فهو شيء غير متسم بسمة الحدوث والنقصان ، وهذا الطريق هو أقرب الطرق إلى الأفهام ، فلهذا أورده الله تعالى في فاتحة كتابه لينتفع به الخاص والعام مع أن فيه تذكيراً لنعمه السابقة وعطيته السابغة عليهم وعلى آبائهم ، وتذكير النعم مما يوجب المحبة والميل إلى الإنصاف وترك الجدال .

وأما قوله { لعلكم تتقون } ففيه بحثان : الأول : كلمة " لعل " للترجي أو الإشفاق ولا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة وهو على الله محال والجواب أن الترجي راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى كقوله { لعله يتذكر أو يخشى } أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، ثم الله عالم بما يؤول إليه أمره . وأيضاً فمن ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم لإنجازها على أن يقولوا " عسى " و " لعل " ، وحينئذ لا يبقى لطالب ما عندهم شك في الفوز والنجاح بالمطلوب ، أو جاء على طريق الأطماع دون التحقيق لئلا يتكل العباد مثل { توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيآتكم } [ التحريم : 8 ] وقع " لعل " موقع المجاز لا الحقيقة لأن الله عز وجل خلق عباده ليتعبدهم بالتكليف ، وركب فيهم العقول والشهوات وأزاح العلة في إقدارهم وتمكينهم ، وهداهم النجدين وأراد منهم الخير والتقوى ، فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا لترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المترجي بين أن يفعل وبين أن لا يفعل ، ونظيره { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } [ الملك : 2 ] وهذا الجواب مبني على أن قوله { لعلكم } متعلق ب{ خلقكم } مثل

{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] لا ب{ اعبدوا } وقيل : " لعل " بمعنى " كي " ووجه بأنها للأطماع والكريم الرحيم إذا أطمع فعل ، فجرى إطماعه مجرى وعده المحتوم فلهذا قيل : إنها بمعنى " كي " قال القفال : في " لعل " معنى التكرير والتأكيد إذ اللام للإبتداء نحو " لقد " ، ولقولهم علك أن تفعل كذا و " عل " يفيد التكرير ومنه العلل بعد النهل . فقول القاتل " افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك " معناه افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه .

( البحث الثاني ) : إذا كانت العبادة تقوى فقوله { لعلكم تتقون } جار مجرى قوله : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون واتقوا ربكم لعلكم تتقون . والجواب المنع من اتحاد مفهوميهما وخصوصاً على ما فسرنا إذ المعنى يعود إلى قولنا صححوا نسبة العبودية لتتصفوا بصفة التقوى وهي الاجتناب عن المعاصي فقط ، أو هو مع الإتيان بالأوامر .