اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

اعلم أنه - تعالى - لما بين أحكام الفِرَقِ الثلاث - أعني المؤمنين والكفار والمنافقين - أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب " الالتفات " .

" يا " حرف نداء وهي أم الباب .

وزعم بعضهم أنها اسم فعل ، وقد تحذف نحو : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } [ يوسف : 29 ] .

وينادى بها المندوب والمستغاث . قال أبو حيان{[766]} : " وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلاَّ بها " .

وزعم بعضهم أن قراءة{[767]} : { أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ } [ الزمر : 9 ] بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء ، وهو غريب ، وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية ، قال تعالى : { أَلاَ يَا اسْجُدُواْ } [ النمل : 25 ] بتخفيف أَلاَ ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]

أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[768]}

وقال آخر : [ البسيط ]

يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِمُ *** وَالصَّالِحِينَ عَلَى سمْعَانَ مِنْ جَارِ{[769]}

و " أي " اسم منادى في محلّ نصب ، ولكنه بني على " الضم " ؛ لأنه مفرد معرفة ، وزعم الأخفش أنها هنا موصولة ، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر ، والجملة صلةٌ ، والتقدير : " يا الَّذِين هُمُ النَّاس " ، والصحيح الأول ، والمرفوع بعدها صفة لها ، [ والمشهور ]{[770]} : يلزم رفعه ، ولا يجوز نصبه على المحلّ خلافاً للمازني .

و " ها " زائدة للتنبيه لازمة لها ، والمشهور فتح هَائِهَا ، ويجوز ضمُّها إتباعاً للياء ، وقد قرأ ابن عامر{[771]} بذلك في بعض المواضع نحو { أَيُّهُ المُؤْمِنُونَ } [ النور : 31 ] والمرسوم يساعده .

ولا توصف " أي " هذه إلا بما فيه الألف واللام ، أو بموصول هما فيه ، أو باسم إشارة نحو : { يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } [ الحجر : 6 ] وقال الشاعر : [ الطويل ]

ألاَ أَيُّهَذَا النَّابِحُ السِّيدَ إِنَّنِي *** عَلَى نَأْيهَا مُسْتَبْسِلٌ مِنْ وَرَائِهَا{[772]}

وفسر بعضهم يا زيد : أنادي زيداً ، وأخاطب زيداً ، وهو خطأ من وجوه :

أحدها : أن قوله : " أنادي زيداً " خبر يحتمل الصدق والكذب ، وقوله : يا زيد لا يحتملهما .

وثانيها : أن قولنا : " يا زيد " يقتضي أن زيداً منادى في الحال ، و " أنادي زيداً " لا يقتضي ذلك .

وثالثها : أن قولنا : " يا زيد " يقتضي صيرورة زيد خاطباً هذا الخطاب ، و " أنادي زيداً " لا يقتضي ذلك ؛ لأنه لا يمكن أن يخبر إنساناً آخر بأن أنادي زيداً .

ورابعها : أن قولنا : أنادي زيداً إخبار عن النداء ، والإخبار عن النداء غير النداء .

واعلم أن " يا " حرف وضع في أصله لنداء البعيد ، وإن كان لنداء القريب ، [ لكن بسبب أمر مهم جدًّا ، وأما نداء القريب فله : " أي " والهمزة ]{[773]} ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب ، تنزيلاً له منزلة البعيد .

فإن قيل : فلم يقول الداعي : " يا رب " ، " يا الله " وهو أقرب إليه من حبل الوريد ؟

قلنا : هو استبعاد لنفسه من مَظَانّ الزُّلْفَى ، إقراراً على نفسه بالتقصير .

و " أي " وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن " ذو " الذي وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل ، وهو اسم مبهم ، فافتقر إلى ما يزيل إبهامه ، فلا بد وأن يردفه اسم جنس ، أو ما جرى مجراه ، ويتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء .

و ل " أي " معانٍ أخر كالاستفهام ، والشرط ، وكونها موصولة ، ونكرة موصوفة لنكرة ، وحالاً لمعرفة . و " النَّاس " صفة " أي " ، أو خبر مبتدأ محذوف حسب ما تقدم من الخلاف .

و " اعبدوا ربكم " جملة أمرية لا محلّ لها ؛ لأنها ابتدائية .

" الَّذِي خَلَقكُمْ " فيه ثلاثة أوجه :

أظهرها : نصبه على النَّعت ل " ربكم " .

الثَّاني : نصبه على القطع .

الثالث : رفعه على القطع أيضاً . وقد تقدّم معناه .

فصل في تقسيم ورود النداء في القرآن الكريم

قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : { يا أَيُّهَا النَّاسُ } خطاب لأهل " مكة " و{ يا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا } لأهل " المدينة " {[774]} ، ورد على قوله هذه الآية بأن البقرة مدنية .

وقال غيره : كلّ ما كان في القرآن من قوله : " يا أيها الذين آمنوا " فهو مدني .

وأما قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } فمنه مكّي ، ومنه [ مدني ]{[775]} وهذا خطاب عام ؛ لأنه لفظ جمع معرف ، فيفيد العموم ، لكنه مخصوص في حقّ ما لا يفهم ، كالصَّبي ، والمجنون ، والغافل ، ومن لا يقدر ، لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .

ومنهم من قال : إنه مخصوص في حق العبيد ، لأنّ الله - تعالى - أوجب عليهم طاعة مواليهم ، واشتغالهم بطاعة المولى كمنعهم عن الاشتغال بالعبادات ، والأمر الدَّال على وجوب طاعة المولى أخصّ من الأمر الدَّال على وجوب العبادة ، والخاصّ مقدّم على العام ، والكلام على هذا مذكور في أصول الفقه .

قال ابن الخطيب : قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } يتناول جميع الناس الموجودين في ذلك العصر ، فهل يتناول الَّذين سيوجدون بعد ذلك أم لا ؟

قال : " والأقرب أنه لا يتناولهم ؛ لأن قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } خطاب مُشَافهة ، وخطاب المُشَافهة مع المعدوم لا يجوز " ، وأيضاً فالذين سيوجدون ما كانوا موجودين في تلك الحالة ، وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً ، فلا يدخل تحت قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } .

فإن قيل : فوجب أن يتناول أحداً من الَّذين وجدوا بعد ذلك الزمان ، وإنه باطل قطعاً .

قلنا : لو لم يجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك ، إلاَّ أنا عرفنا بالتَّوَاتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن تلك الخطابات ثابتة في حَقّ من سيوجد بعد ذلك إلى قيام السَّاعة ؛ فلهذه الدلالة المنفصلة أوجبنا العموم .

فصل في المراد بالعبادة في القرآن

قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : " كلّ ما ورد في القُرْآن من العبادة فمعناها التوحيد " .

وقال ابن الخطيب{[776]} : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } أمر كلّ واحد بالعبادة ، فهل يفيد أمر الكلّ بكل عبادة ؟ الحقّ لا ؛ لأن قوله : { اعْبُدُواْ } معناه : أدخلوا هذه الماهية{[777]} في الوجود ، فإذا أتوا بفرد من أفراد هذه الماهيّة في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود ؛ لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية ، لأن هذه العبادة عبارة عن العِبَادَةِ مع قيد كونها هذه ، ومتى وجد المركب فقد وجد فيه قيده ، فالآتي بفرد من أفراد العبادة أتى بالعبادة ، وأتى بتمام ما اقتضاه قولنا : " اعْبُدُوا " ، وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة .

فصل في قول منكري التكليف

ذكر ابن الخطيب{[778]} عن منكري التكليف أنهم لا يجوِّزون ورود الأمر من الله - تعالى - بالتكاليف لوجوه :

منها أنَّ الَّذي ورد به التكليف : إما أن يكون قد علم الله في الأزل{[779]} وقوعه ، أو علم أنه لا يقع ، أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك ، فإن كان الأوّل كان واجب الوقوع ، فلا فائدة في الأمر به ، وإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع ، فكان الأمر به أمراً بإيقاع الممتنع ، وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله ، وهو محال .

وأيضاً فورود الأمر بالتكاليف إمَّا أن يكون لفائدة ، أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة فإما أن يعود إلى المعبود ، أو إلى العابد{[780]} ، أمّا إلى المعبود فمحال ؛ لأنه كامل لذاته ، والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره ، ولأنا نعلم بالضرورة أنّ الإله العالي على الدَّهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده . وإن كانت الفائدة تعود إلى العابد{[781]} فمحال ؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللَّذَّة ودفع الألم ، وهو - سبحانه وتعالى - قادر على تحصيل كلّ ذلك للعبد ، من غير واسطة هذه المشاق ، فيكون توسّطها عبثاً ، والعبث غير جائز على الحكيم . وأيضاً إنَّ العبد غير موجد لأفعاله ؛ لأنه غير عالم بتفاصيلها ، ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له ، وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه ، فإن أمره بذلك الفعل حالة ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل ، وإن أمره حالة ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال ، وكل ذلك باطل .

وأجاب ابن الخطيب بوجهين :

أحدهما : أن أَصْحَابَ هذه الشّبه ، أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التَّكليف ، فهذا التكليف ينفي التكليف ، وإنه متناقض .

والثاني : أن عندنا يحسن من الله كل شيء ، سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره ؛ لأنه - تعالى - خالقٌ مالكٌ ، والمالك لا اعتراض عليه في فِعْلِهِ .

والخَلْق اختراع الشَّيء على غير مِثَالٍ سبق ، وهذه الصِّفة ينفرد بها الباري تعالى ، ويُطْلَقُ أيضاً على " التقْدِيرِ " ؛ قال زُهَيْر : [ الكامل ]

وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ *** ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي{[782]}

وقال الحَجَّاج : " ما خَلَقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ وَلاَ وَعَدْتُ إلاَّ وَفَيْتُ " وهذه الصّفة لا يختص بها الله تعالى ، وقد غلط أبو عبد الله البصري في أنه لا يطلق اسم " الخَالِقِ " على الله - تعالى ؛ قال : " لأنه مُحَالٌ ، وذلك أن التقدير والتسوية في حقِّ اللهِ ممتنعانِ ، لأنهما عبارة عن التفكُّر والظَّن " ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ } [ الحشر : 24 ] { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] ، وكأنَّه لا يعلَم أن الخَلْق يكون عبارة عن الإنشاء والاختراع .

قوله : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } محلّه العطف على المنصوب في " خلقكم " و " من قبلكم " صلة " الذين " ، فيتعلّق بمحذوف على ما تقرر . و " من " لابتداء الغاية ، واستشكل بعضهم وقوع " من قبلكم " صلة من حيث إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة ، و " من قبلكم " ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل ، فكذلك الصّلة .

قال : وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول : " نحن في يوم طيب " ، فيكون التقدير هنا - والله أعلم - " والَّذِين كانوا من زمان قبل زمانكم " .

وقال أبو البَقَاءِ{[783]} : والتقدير : " والذين خلقهم من قبل خلقكم ، فحذف الخلق ، وأقام الضمير مقامه " .

وقرأ زيد بن علي : " والَّذِينَ مَنْ قَبْلَكُمْ " - بفتح الميم - .

قال الزمخشري{[784]} : ووجهها على إشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأوّل وَصِلَتِهِ تأكيداً ، كما أقحم جرير في قوله : [ البسيط ]

يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ لاَ أَبَا لَكُمُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[785]}

تيْماً الثاني بين الأوَّل ، وما أضيف إليه ، وكإقحامهم لام الإضافَةِ بين المضاف والمضاف إلَيْه في نَحْو : " لاَ أَبَا لَكَ " قيل : هذا الذي قاله مذْهَبٌ لبعضهم ؛ ومنه قوله : [ الطويل ]

مِنَ النَّفَرِ اللاَّءِ الَّذِينَ إذَا هُمُ *** يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا{[786]}

ف " إذا " وجوبها صلةُ " اللاَّء " ، ولا صلةَ للذين ؛ لأنه توكيد للأول ، إلا أن بعضهم يرد هذا القول ، ويجعله فاسداً من جهة أنه لا يؤكد الحرف إلا بإعادة ما اتّصل به ، فالموصول أولى بذلك ، وخرج الآية والبيت على أن " مَنْ قَبْلَكُمْ " صلةٌ للموصول الثَّاني ، والموصول الثَّاني وصلته خبر لمبتدأ محذوف ، والمبتدأ وخبره صلة الأول ، والتقدير : " والَّذين هُمْ مَنْ قَبْلِكُمْ " ، وكذا [ البيت ]{[787]} فجعل " إذا " وجوابها صلةً [ للَّذِينَ ، والَّذِينَ خبر لمبتدأ محذوف ، وذلك المبتدأ وخبره صلة ]{[788]} ل " اللاء " ، ولا يخفَى ما في هذا التعسُّف .

قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .

" لعل " واسمها وخبرها ، وإذا ورد في كلام الله - تعالى - فللناس فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : أن " لَعَلّ " على بابها من الترجّي والإطماع ، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين ، أي : لعلَّكم تتقون على رجائكم وطمعكم ؛ وكذا قاتل سيبويه في قوله تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 ] : أي : اذْهَبَا على رجائِكُمَا .

والثَّاني : أنها للتعْليل : أي : اعْبُدُوا رَبَّكُم ؛ لِكَيْ تَتَّقُوا ، وبه قال قُطْرُبٌ ، والطبريُّ وغيرُهُما ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]

وقُلْتُمْ لَنَا : كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا *** نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ

فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ *** كَلَمْعِ سَرَابٍ في المَلاَ مُتَأَلِّقِ{[789]}

أي : لنكُفَّ الحَرْبَ{[790]} ، ولو كانت " لَعَلّ " للترجِّي ، لم يقل : وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ .

والثَّالث : أنها للتعَرُّض للشيْءِ ؛ كأنه قيل : افْعَلُوا ذلك متعرضِّين لأن تَتَّقُوا .

وقال القَفَّال : " لعل " مأخوذةٌ من تكرير الشيء لقولهم : عللاً بعد نَهَلِ ، و " اللام " فيها هي " لام " التأكيد كاللام التي تدخل في " لقد " ، فأصل " لعل " : " عل " ؛ لأنهم يقولون : " علك أن تفعل كذا " : أي لعلك . وإن كانت حقيقة في التكرير والتأكيد ، كان{[791]} قول القائل : افعل كذا لعلّك تظفر بحاجتك . معناه : افعله ؛ فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه ، وهذه الجملة على كل قول متعلّقة من جهة المعنى ب " اعبدوا " أي : اعبدوا على رجائكم التَّقوى ، أو لتتقوا ، أو متعرّضين للتقوى ، وإليه مال المهدوي ، وأبو البقاء .

وقال ابن عطيّة : " [ يتجه ]{[792]} تعلّقها بخلقكم ، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة ، فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً " ، إلاَّ أن المهدوي منع من ذلك .

قال : لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي ، ولم يذكر الزمخشري غير تعلّقها ب " خلقكم " ثم رتب على ذلك سؤالين :

أحدهما : أنه كما خلق المُخاطبين لعلّهم يتقون ، كذلك خلق الذين من قبلهم لذلك فلم خصّ المخاطبين بذلك دون من قبلهم ؟

وأجاب عن ذلك بأنه لم يقصره عليهم ، بل غَلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادة الجميع .

السُّؤال الثاني : هلا قيل : " تعبدون " لأجل " اعبدوا " أو اتقوا لمكان " تتقون " ليتجاوب{[793]} طرفا النظم ؟

وأجاب بأن التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النَّظْم ، وإنَّما التقوى قصارى أمر العابد ، وأقصى جهده .

قال أبو حَيّان{[794]} : وأما قوله : ليتجاوب طرفا النَّظم ، فليس بشيء ؛ لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم ، إذ يصير اللفظ : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيد في المعنى ؛ إذ هو مثل : اضرب زيداً لعلك تضربه ، واقصد خالداً لعلك تقصده ، ولا يخفى ما في ذلك من غثاثة اللفظ ، وفساد المعنى ، والذي يظهر به صحّته أن يكون " لعلكم تتقون " متعلّقاً بقوله : " اعبدوا " فالَّذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة ، فناسب أن يتعلّق بها ذلك ، وأتى بالموصول وصلته في سبيل التوضيح ، أو المدح الذي تعلقت به العبادة ، فلم يُجأْ بالموصول ليحدِّث{[795]} عنه ، بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة ، فلم يكن يتعلّق به دون المقصود ، وأجاب بعضهم عن كلام الزمخشري بأنه جعل " لعل " متعلّقة ب " خلقكم " لا ب " اعبدوا " ، فلا يصير التقدير : اعبدوا لعلكم تعبدون ، وإنما التقدير : اعبدوا الذي خلقكم لعلكم تعبدون ؛ أي خلقكم لأجل العبادة ، يوضِّحه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .

وفي " لَعَلّ " لغاتٌ كثيرةٌ ، وقد يُجَرُّ بها ؛ قال : [ الوافر ]

لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا *** بِشَيءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ{[796]} {[797]}

ولا تنصب الاسمين على الصحيح ، وقد تدخل " أَنْ " في خبرها ؛ حملاً على " عَسَى " ؛ قال : [ الطويل ]

لَعَلَّكَ يَوْماً أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[798]}

وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم ، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات ك " عسى " ، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تَعَالَى .

و " تَتَّقُونَ " أصله " توتقيون " ؛ لأنه من " الوقاية " ، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال ، وأدغمت فيها ، وقد تقدم ذلك في " المتقين " ، ثم استثقلت " الضّمة " على " الياء " فقدرت ، فسكنت الياء والواو بعدها ، فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين ، وضمت القاف لتجانسها ، فوزنه{[799]} الآن " تفتعون " ، وهذه الجملة أعني " لعلكم تتقون " لا يجوز أن تكون حالاً ؛ لأنها طلبية ، وإن كانت عبارة بعضهم تُوهمُ ذلك ، ومفعول " تتقون " محذوف أي : تتقون الشرك ، أو النار .

فَصْلٌ في الاستدلال بالآية على الصانع

هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار ، سأل بعض الدهرية الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - ما الدَّليل على الصانع ؟ فقال : ورقة الفِرْصَاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم ؟ قالوا : نعم .

قال : فتأكلها دودة القَزّ فيخرج منها الإبْرَيْسم ، ويأكلها النحل فيخرج منها العَسَل ، والشَّاة فيخرج منها البَعَر ، وتأكلها الظِّبَاء فينعقد في نوافجها المسك ، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطَّبع واحد ؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه ، وكانوا سبعة عشر .

وسئل أبو حنيفة - رضي الله عنه - عن الصَّانع فقال : الوالد يريد الذكر ، فيكون أنثى ، وبالعكس فيدلّ على الصَّانع . وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة مَلْسَاء لا فُرْجَةَ فيها ، ظاهرها كالفضّة المُذَابة ، وباطنها كالذهب الإبريز ، ثم انشقت الجدران ، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير ، فلا بُدّ من الفاعل ؛ عنى بالقلعة البيضة ، وبالحيوان الفرخ .

وقال آخر : عرفت الصَّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل ، وبالآخر لسع ، والعسل مقلوب لسع .

فإن قيل : ما الفائدة في قوله { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } ، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم .

والجواب : أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله - تعالى - خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم ؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة .

وأيضاً أن من قبلهم كالأصول لهم ، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع ، كأنه - تعالى - يذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، أي : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت ، بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين ، بسبب أني كنت خالقاً لأصولك .

فإن قيل : إذا كانت العبادة تقوى فقوله : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ما وجهه ؟

والجواب من وجهين :

الأول : لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى ، بل العبادة فعل يحصل به التقوى ؛ لأن الاتِّقاء هو الاحتراز عن المَضَارّ ، والعبادة فعل المأمور به ، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز ، بل موجب الاحتراز ، فإنه - تعالى - قال : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } لتحترزوا به عن عقابه .

وإذا قيل في نفس الفعل : " إنه اتقاء " ، فذلك غير ما يحصل به الاتقاء ، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه .

الثاني : أنه - تعالى - إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا ، على ما قال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فكأنه - تعالى - أمر بعبادة الرَّبِّ الذي خلقهم لهذا الغرض ، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة .

فَصْلٌ في القراءات في الآية

قرأ أبو عمرو{[800]} : خَلَقْكُمْ بالإدغام ، وقرأ ابن السَّميفع{[801]} : " وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُم " .


[766]:- محمد بن يوسف بن علي بن حيان بن يوسف، الشيخ الإمام العلامة، الحافظ المفسر النحوي اللغوي، أثير الدين أبو حيان الأندسي، الجياني، الغرناطي، ثم المصري. ولد في 652 قرأ العربية علي رضي الدين القسنطيني، وبهاء الدين ابن النحاس وغيرهما، سمع نحوا من أربعمائة شيخ، وكان ظاهريا فانتحى إلى الشافعية، له مصنفات منها "البحر المحيط في التفسير" والنهر من البحر، و"شرح التسهيل" "وارتشاف الضرب". سمع منه الأئمة العلماء، وأضر قبل موته بقليل توفي بالقاهرة في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة. انفرط ابن قاضي شهبة: 3/67، الأعلام: 8/26، ط. السبكي: 6/31، الدرر الكامنة: 4/302.
[767]:- ستأتي في الزمر آية (9).
[768]:- صدر بيت للشماخ بن ضرار وعجزه: .................... *** وقبل منايا غاديات وآجال ينظر ديوانه: (456) وهو من شواهد الكتاب: (2/307)، ابن يعيش: (8/115)، الدر المصون: (1/144).
[769]:- ينظر البيت في أمالي ابن الحاجب: ص 448، الإنصاف: 1/118، الجنى الداني: ص 356، خزانة الأدب: 11/197، جواهر الأدب: ص 290، الدرر: 3/25، 5/118، رصف المباني: ص3، 4، شرح أبيات سيبويه: 2/31، شرح شواهد المغني: 2/796، شرح المفصل: 2/24، 40، الكتاب: 2/219، اللامات: ص37، ومغني اللبيب: ص 2/373، المقاصد النحوية: 4/261، همع الهوامع: 1/174، 2/70، والكامل: (47)، السمط: (546)، والدر المصون: (1/145).
[770]:- سقط في أ.
[771]:- ستأتي في النور 31.
[772]:- البيت للفضل بن الأخضر. ينظر الحماسة: (1/301)، المقرب: (1/176)، والدر المصون: (1/145).
[773]:- سقط في أ.
[774]:- ذكر هذا الأثر السيوطي في "الدر المنثور" (1/73) عن ابن مسعود وعزاه للبزار والحاكم وابن مردويه. وعزاه أيضا لأبي عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن الضريس وابن المنذر وأبي الشيخ في "التفسير" عن علقمة.
[775]:- سقط في أ.
[776]:- ينظر الرازي: 2/77.
[777]:- الماهية: تطلق غالبا على الأمر المتعقل، مع قطع النظر عن الوجود الخارجي؛ والأمر المتعقل من حيث إنه مقولٌ في جواب "ما هو" يسمى: ماهيّة؛ ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى: حقيقة؛ ومن حيث إنه محلّ الحوادث: جوهرا. انظر التعريفات للجرجاني: ص (205).
[778]:- ينظر الرازي: 2/78.
[779]:- في أ: الأولى.
[780]:- في أ: العباد.
[781]:- في أ: العباد.
[782]:- ينظر البيت في ديوانه: (94)، المحرر الوجيز: (1/114)، الرازي: (1/89)، روح المعاني: (1/184)، والقرطبي: (1/157)، والدر المصون: (1/146)
[783]:- ينظر الإملاء: 1/23.
[784]:- صدر بيت وعجزه: ................... *** لا يلقينكم في سوءة عمر ينظر ديوانه: (211)، المقتضب: (4/229)، الخصائص: (1/345)، النوادر: (139)، الأزهية: (247)، العيني: (4/240)، أمالي ابن الشجري: (3/83)، والكشاف: (1/91)، والدر المصون: (1/146).
[785]:- ينظر الكشاف: 1/91.
[786]:- البيت لأبي الربيس ينظر في خزانة الأدب: 6/78، 79، 80، 83، 86، 87، 89، ولسان العرب (لوى)، الأشباه والنظائر: 4/308، والحيوان: 3/486، والعقد الفريد: 5/343، الدر المصون: (1/146).
[787]:- سقط في أ.
[788]:- سقط في أ.
[789]:- ينظر البيتان في أمالي ابن الشجري: (1/51)، الطبري: (1/197)، وروح المعاني: (1/186)، القرطبي: (1/158)، الدر المصون: (1/147).
[790]:- في أ: الحروب.
[791]:- في أ: وأن.
[792]:- سقط في أ.
[793]:- في أ: ليتجاوز.
[794]:- ينظر البحر المحيط: 1/235.
[795]:- في أ: ليحذر.
[796]:- في أ: مريم.
[797]:- ينظر في خزانة الأدب: 10/422، 423، 430، وجواهر الأدب: ص 403، وأوضح المسالك: 3/47، وشرح ابن عقيل: ص 351، وشرح الأشموني: 2/284، وشرح التصريح: 2/2، وشرح قطر الندى: ص249، والمقاصد النحوية: 3/247، والمقرب: 1/193، ورصف المباني: ص 375، والجنى الداني: ص 584، والعيني: (3/247)، والدر المصون: (1/147).
[798]:- ينظر الدر المصون: 1/148.
[799]:- في أ: فوزنها.
[800]:- انظر تفسير الرازي: 2/93.
[801]:- ينظر تفسير الرازي: 2/93.