اعلم أنه - تعالى - لما بين أحكام الفِرَقِ الثلاث - أعني المؤمنين والكفار والمنافقين - أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب " الالتفات " .
" يا " حرف نداء وهي أم الباب .
وزعم بعضهم أنها اسم فعل ، وقد تحذف نحو : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } [ يوسف : 29 ] .
وينادى بها المندوب والمستغاث . قال أبو حيان{[766]} : " وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلاَّ بها " .
وزعم بعضهم أن قراءة{[767]} : { أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ } [ الزمر : 9 ] بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء ، وهو غريب ، وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية ، قال تعالى : { أَلاَ يَا اسْجُدُواْ } [ النمل : 25 ] بتخفيف أَلاَ ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ]
أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[768]}
يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهِمُ *** وَالصَّالِحِينَ عَلَى سمْعَانَ مِنْ جَارِ{[769]}
و " أي " اسم منادى في محلّ نصب ، ولكنه بني على " الضم " ؛ لأنه مفرد معرفة ، وزعم الأخفش أنها هنا موصولة ، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر ، والجملة صلةٌ ، والتقدير : " يا الَّذِين هُمُ النَّاس " ، والصحيح الأول ، والمرفوع بعدها صفة لها ، [ والمشهور ]{[770]} : يلزم رفعه ، ولا يجوز نصبه على المحلّ خلافاً للمازني .
و " ها " زائدة للتنبيه لازمة لها ، والمشهور فتح هَائِهَا ، ويجوز ضمُّها إتباعاً للياء ، وقد قرأ ابن عامر{[771]} بذلك في بعض المواضع نحو { أَيُّهُ المُؤْمِنُونَ } [ النور : 31 ] والمرسوم يساعده .
ولا توصف " أي " هذه إلا بما فيه الألف واللام ، أو بموصول هما فيه ، أو باسم إشارة نحو : { يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } [ الحجر : 6 ] وقال الشاعر : [ الطويل ]
ألاَ أَيُّهَذَا النَّابِحُ السِّيدَ إِنَّنِي *** عَلَى نَأْيهَا مُسْتَبْسِلٌ مِنْ وَرَائِهَا{[772]}
وفسر بعضهم يا زيد : أنادي زيداً ، وأخاطب زيداً ، وهو خطأ من وجوه :
أحدها : أن قوله : " أنادي زيداً " خبر يحتمل الصدق والكذب ، وقوله : يا زيد لا يحتملهما .
وثانيها : أن قولنا : " يا زيد " يقتضي أن زيداً منادى في الحال ، و " أنادي زيداً " لا يقتضي ذلك .
وثالثها : أن قولنا : " يا زيد " يقتضي صيرورة زيد خاطباً هذا الخطاب ، و " أنادي زيداً " لا يقتضي ذلك ؛ لأنه لا يمكن أن يخبر إنساناً آخر بأن أنادي زيداً .
ورابعها : أن قولنا : أنادي زيداً إخبار عن النداء ، والإخبار عن النداء غير النداء .
واعلم أن " يا " حرف وضع في أصله لنداء البعيد ، وإن كان لنداء القريب ، [ لكن بسبب أمر مهم جدًّا ، وأما نداء القريب فله : " أي " والهمزة ]{[773]} ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب ، تنزيلاً له منزلة البعيد .
فإن قيل : فلم يقول الداعي : " يا رب " ، " يا الله " وهو أقرب إليه من حبل الوريد ؟
قلنا : هو استبعاد لنفسه من مَظَانّ الزُّلْفَى ، إقراراً على نفسه بالتقصير .
و " أي " وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن " ذو " الذي وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل ، وهو اسم مبهم ، فافتقر إلى ما يزيل إبهامه ، فلا بد وأن يردفه اسم جنس ، أو ما جرى مجراه ، ويتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء .
و ل " أي " معانٍ أخر كالاستفهام ، والشرط ، وكونها موصولة ، ونكرة موصوفة لنكرة ، وحالاً لمعرفة . و " النَّاس " صفة " أي " ، أو خبر مبتدأ محذوف حسب ما تقدم من الخلاف .
و " اعبدوا ربكم " جملة أمرية لا محلّ لها ؛ لأنها ابتدائية .
" الَّذِي خَلَقكُمْ " فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : نصبه على النَّعت ل " ربكم " .
الثالث : رفعه على القطع أيضاً . وقد تقدّم معناه .
فصل في تقسيم ورود النداء في القرآن الكريم
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : { يا أَيُّهَا النَّاسُ } خطاب لأهل " مكة " و{ يا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا } لأهل " المدينة " {[774]} ، ورد على قوله هذه الآية بأن البقرة مدنية .
وقال غيره : كلّ ما كان في القرآن من قوله : " يا أيها الذين آمنوا " فهو مدني .
وأما قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } فمنه مكّي ، ومنه [ مدني ]{[775]} وهذا خطاب عام ؛ لأنه لفظ جمع معرف ، فيفيد العموم ، لكنه مخصوص في حقّ ما لا يفهم ، كالصَّبي ، والمجنون ، والغافل ، ومن لا يقدر ، لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .
ومنهم من قال : إنه مخصوص في حق العبيد ، لأنّ الله - تعالى - أوجب عليهم طاعة مواليهم ، واشتغالهم بطاعة المولى كمنعهم عن الاشتغال بالعبادات ، والأمر الدَّال على وجوب طاعة المولى أخصّ من الأمر الدَّال على وجوب العبادة ، والخاصّ مقدّم على العام ، والكلام على هذا مذكور في أصول الفقه .
قال ابن الخطيب : قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } يتناول جميع الناس الموجودين في ذلك العصر ، فهل يتناول الَّذين سيوجدون بعد ذلك أم لا ؟
قال : " والأقرب أنه لا يتناولهم ؛ لأن قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } خطاب مُشَافهة ، وخطاب المُشَافهة مع المعدوم لا يجوز " ، وأيضاً فالذين سيوجدون ما كانوا موجودين في تلك الحالة ، وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً ، فلا يدخل تحت قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } .
فإن قيل : فوجب أن يتناول أحداً من الَّذين وجدوا بعد ذلك الزمان ، وإنه باطل قطعاً .
قلنا : لو لم يجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك ، إلاَّ أنا عرفنا بالتَّوَاتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن تلك الخطابات ثابتة في حَقّ من سيوجد بعد ذلك إلى قيام السَّاعة ؛ فلهذه الدلالة المنفصلة أوجبنا العموم .
فصل في المراد بالعبادة في القرآن
قال ابن عبَّاس رضي الله عنه : " كلّ ما ورد في القُرْآن من العبادة فمعناها التوحيد " .
وقال ابن الخطيب{[776]} : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } أمر كلّ واحد بالعبادة ، فهل يفيد أمر الكلّ بكل عبادة ؟ الحقّ لا ؛ لأن قوله : { اعْبُدُواْ } معناه : أدخلوا هذه الماهية{[777]} في الوجود ، فإذا أتوا بفرد من أفراد هذه الماهيّة في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود ؛ لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية ، لأن هذه العبادة عبارة عن العِبَادَةِ مع قيد كونها هذه ، ومتى وجد المركب فقد وجد فيه قيده ، فالآتي بفرد من أفراد العبادة أتى بالعبادة ، وأتى بتمام ما اقتضاه قولنا : " اعْبُدُوا " ، وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة .
ذكر ابن الخطيب{[778]} عن منكري التكليف أنهم لا يجوِّزون ورود الأمر من الله - تعالى - بالتكاليف لوجوه :
منها أنَّ الَّذي ورد به التكليف : إما أن يكون قد علم الله في الأزل{[779]} وقوعه ، أو علم أنه لا يقع ، أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك ، فإن كان الأوّل كان واجب الوقوع ، فلا فائدة في الأمر به ، وإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع ، فكان الأمر به أمراً بإيقاع الممتنع ، وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله ، وهو محال .
وأيضاً فورود الأمر بالتكاليف إمَّا أن يكون لفائدة ، أو لا لفائدة ، فإن كان لفائدة فإما أن يعود إلى المعبود ، أو إلى العابد{[780]} ، أمّا إلى المعبود فمحال ؛ لأنه كامل لذاته ، والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره ، ولأنا نعلم بالضرورة أنّ الإله العالي على الدَّهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده . وإن كانت الفائدة تعود إلى العابد{[781]} فمحال ؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللَّذَّة ودفع الألم ، وهو - سبحانه وتعالى - قادر على تحصيل كلّ ذلك للعبد ، من غير واسطة هذه المشاق ، فيكون توسّطها عبثاً ، والعبث غير جائز على الحكيم . وأيضاً إنَّ العبد غير موجد لأفعاله ؛ لأنه غير عالم بتفاصيلها ، ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له ، وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه ، فإن أمره بذلك الفعل حالة ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل ، وإن أمره حالة ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال ، وكل ذلك باطل .
أحدهما : أن أَصْحَابَ هذه الشّبه ، أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التَّكليف ، فهذا التكليف ينفي التكليف ، وإنه متناقض .
والثاني : أن عندنا يحسن من الله كل شيء ، سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره ؛ لأنه - تعالى - خالقٌ مالكٌ ، والمالك لا اعتراض عليه في فِعْلِهِ .
والخَلْق اختراع الشَّيء على غير مِثَالٍ سبق ، وهذه الصِّفة ينفرد بها الباري تعالى ، ويُطْلَقُ أيضاً على " التقْدِيرِ " ؛ قال زُهَيْر : [ الكامل ]
وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ *** ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي{[782]}
وقال الحَجَّاج : " ما خَلَقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ وَلاَ وَعَدْتُ إلاَّ وَفَيْتُ " وهذه الصّفة لا يختص بها الله تعالى ، وقد غلط أبو عبد الله البصري في أنه لا يطلق اسم " الخَالِقِ " على الله - تعالى ؛ قال : " لأنه مُحَالٌ ، وذلك أن التقدير والتسوية في حقِّ اللهِ ممتنعانِ ، لأنهما عبارة عن التفكُّر والظَّن " ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ } [ الحشر : 24 ] { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الزمر : 62 ] ، وكأنَّه لا يعلَم أن الخَلْق يكون عبارة عن الإنشاء والاختراع .
قوله : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } محلّه العطف على المنصوب في " خلقكم " و " من قبلكم " صلة " الذين " ، فيتعلّق بمحذوف على ما تقرر . و " من " لابتداء الغاية ، واستشكل بعضهم وقوع " من قبلكم " صلة من حيث إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة ، و " من قبلكم " ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل ، فكذلك الصّلة .
قال : وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول : " نحن في يوم طيب " ، فيكون التقدير هنا - والله أعلم - " والَّذِين كانوا من زمان قبل زمانكم " .
وقال أبو البَقَاءِ{[783]} : والتقدير : " والذين خلقهم من قبل خلقكم ، فحذف الخلق ، وأقام الضمير مقامه " .
وقرأ زيد بن علي : " والَّذِينَ مَنْ قَبْلَكُمْ " - بفتح الميم - .
قال الزمخشري{[784]} : ووجهها على إشكالها أن يقال : أقحم الموصول الثاني بين الأوّل وَصِلَتِهِ تأكيداً ، كما أقحم جرير في قوله : [ البسيط ]
يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيٍّ لاَ أَبَا لَكُمُ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[785]}
تيْماً الثاني بين الأوَّل ، وما أضيف إليه ، وكإقحامهم لام الإضافَةِ بين المضاف والمضاف إلَيْه في نَحْو : " لاَ أَبَا لَكَ " قيل : هذا الذي قاله مذْهَبٌ لبعضهم ؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
مِنَ النَّفَرِ اللاَّءِ الَّذِينَ إذَا هُمُ *** يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا{[786]}
ف " إذا " وجوبها صلةُ " اللاَّء " ، ولا صلةَ للذين ؛ لأنه توكيد للأول ، إلا أن بعضهم يرد هذا القول ، ويجعله فاسداً من جهة أنه لا يؤكد الحرف إلا بإعادة ما اتّصل به ، فالموصول أولى بذلك ، وخرج الآية والبيت على أن " مَنْ قَبْلَكُمْ " صلةٌ للموصول الثَّاني ، والموصول الثَّاني وصلته خبر لمبتدأ محذوف ، والمبتدأ وخبره صلة الأول ، والتقدير : " والَّذين هُمْ مَنْ قَبْلِكُمْ " ، وكذا [ البيت ]{[787]} فجعل " إذا " وجوابها صلةً [ للَّذِينَ ، والَّذِينَ خبر لمبتدأ محذوف ، وذلك المبتدأ وخبره صلة ]{[788]} ل " اللاء " ، ولا يخفَى ما في هذا التعسُّف .
قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
" لعل " واسمها وخبرها ، وإذا ورد في كلام الله - تعالى - فللناس فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أن " لَعَلّ " على بابها من الترجّي والإطماع ، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين ، أي : لعلَّكم تتقون على رجائكم وطمعكم ؛ وكذا قاتل سيبويه في قوله تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ طه : 44 ] : أي : اذْهَبَا على رجائِكُمَا .
والثَّاني : أنها للتعْليل : أي : اعْبُدُوا رَبَّكُم ؛ لِكَيْ تَتَّقُوا ، وبه قال قُطْرُبٌ ، والطبريُّ وغيرُهُما ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
وقُلْتُمْ لَنَا : كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا *** نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ
فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ *** كَلَمْعِ سَرَابٍ في المَلاَ مُتَأَلِّقِ{[789]}
أي : لنكُفَّ الحَرْبَ{[790]} ، ولو كانت " لَعَلّ " للترجِّي ، لم يقل : وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ .
والثَّالث : أنها للتعَرُّض للشيْءِ ؛ كأنه قيل : افْعَلُوا ذلك متعرضِّين لأن تَتَّقُوا .
وقال القَفَّال : " لعل " مأخوذةٌ من تكرير الشيء لقولهم : عللاً بعد نَهَلِ ، و " اللام " فيها هي " لام " التأكيد كاللام التي تدخل في " لقد " ، فأصل " لعل " : " عل " ؛ لأنهم يقولون : " علك أن تفعل كذا " : أي لعلك . وإن كانت حقيقة في التكرير والتأكيد ، كان{[791]} قول القائل : افعل كذا لعلّك تظفر بحاجتك . معناه : افعله ؛ فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه ، وهذه الجملة على كل قول متعلّقة من جهة المعنى ب " اعبدوا " أي : اعبدوا على رجائكم التَّقوى ، أو لتتقوا ، أو متعرّضين للتقوى ، وإليه مال المهدوي ، وأبو البقاء .
وقال ابن عطيّة : " [ يتجه ]{[792]} تعلّقها بخلقكم ، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة ، فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً " ، إلاَّ أن المهدوي منع من ذلك .
قال : لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي ، ولم يذكر الزمخشري غير تعلّقها ب " خلقكم " ثم رتب على ذلك سؤالين :
أحدهما : أنه كما خلق المُخاطبين لعلّهم يتقون ، كذلك خلق الذين من قبلهم لذلك فلم خصّ المخاطبين بذلك دون من قبلهم ؟
وأجاب عن ذلك بأنه لم يقصره عليهم ، بل غَلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادة الجميع .
السُّؤال الثاني : هلا قيل : " تعبدون " لأجل " اعبدوا " أو اتقوا لمكان " تتقون " ليتجاوب{[793]} طرفا النظم ؟
وأجاب بأن التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النَّظْم ، وإنَّما التقوى قصارى أمر العابد ، وأقصى جهده .
قال أبو حَيّان{[794]} : وأما قوله : ليتجاوب طرفا النَّظم ، فليس بشيء ؛ لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم ، إذ يصير اللفظ : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون ، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، وهذا بعيد في المعنى ؛ إذ هو مثل : اضرب زيداً لعلك تضربه ، واقصد خالداً لعلك تقصده ، ولا يخفى ما في ذلك من غثاثة اللفظ ، وفساد المعنى ، والذي يظهر به صحّته أن يكون " لعلكم تتقون " متعلّقاً بقوله : " اعبدوا " فالَّذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة ، فناسب أن يتعلّق بها ذلك ، وأتى بالموصول وصلته في سبيل التوضيح ، أو المدح الذي تعلقت به العبادة ، فلم يُجأْ بالموصول ليحدِّث{[795]} عنه ، بل جاء في ضمن المقصود بالعبادة ، فلم يكن يتعلّق به دون المقصود ، وأجاب بعضهم عن كلام الزمخشري بأنه جعل " لعل " متعلّقة ب " خلقكم " لا ب " اعبدوا " ، فلا يصير التقدير : اعبدوا لعلكم تعبدون ، وإنما التقدير : اعبدوا الذي خلقكم لعلكم تعبدون ؛ أي خلقكم لأجل العبادة ، يوضِّحه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
وفي " لَعَلّ " لغاتٌ كثيرةٌ ، وقد يُجَرُّ بها ؛ قال : [ الوافر ]
لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا *** بِشَيءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ{[796]} {[797]}
ولا تنصب الاسمين على الصحيح ، وقد تدخل " أَنْ " في خبرها ؛ حملاً على " عَسَى " ؛ قال : [ الطويل ]
لَعَلَّكَ يَوْماً أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[798]}
وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم ، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات ك " عسى " ، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تَعَالَى .
و " تَتَّقُونَ " أصله " توتقيون " ؛ لأنه من " الوقاية " ، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال ، وأدغمت فيها ، وقد تقدم ذلك في " المتقين " ، ثم استثقلت " الضّمة " على " الياء " فقدرت ، فسكنت الياء والواو بعدها ، فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين ، وضمت القاف لتجانسها ، فوزنه{[799]} الآن " تفتعون " ، وهذه الجملة أعني " لعلكم تتقون " لا يجوز أن تكون حالاً ؛ لأنها طلبية ، وإن كانت عبارة بعضهم تُوهمُ ذلك ، ومفعول " تتقون " محذوف أي : تتقون الشرك ، أو النار .
فَصْلٌ في الاستدلال بالآية على الصانع
هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار ، سأل بعض الدهرية الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - ما الدَّليل على الصانع ؟ فقال : ورقة الفِرْصَاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم ؟ قالوا : نعم .
قال : فتأكلها دودة القَزّ فيخرج منها الإبْرَيْسم ، ويأكلها النحل فيخرج منها العَسَل ، والشَّاة فيخرج منها البَعَر ، وتأكلها الظِّبَاء فينعقد في نوافجها المسك ، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطَّبع واحد ؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه ، وكانوا سبعة عشر .
وسئل أبو حنيفة - رضي الله عنه - عن الصَّانع فقال : الوالد يريد الذكر ، فيكون أنثى ، وبالعكس فيدلّ على الصَّانع . وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة مَلْسَاء لا فُرْجَةَ فيها ، ظاهرها كالفضّة المُذَابة ، وباطنها كالذهب الإبريز ، ثم انشقت الجدران ، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير ، فلا بُدّ من الفاعل ؛ عنى بالقلعة البيضة ، وبالحيوان الفرخ .
وقال آخر : عرفت الصَّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل ، وبالآخر لسع ، والعسل مقلوب لسع .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } ، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم .
والجواب : أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله - تعالى - خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم ؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة .
وأيضاً أن من قبلهم كالأصول لهم ، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع ، كأنه - تعالى - يذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، أي : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت ، بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين ، بسبب أني كنت خالقاً لأصولك .
فإن قيل : إذا كانت العبادة تقوى فقوله : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ما وجهه ؟
الأول : لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى ، بل العبادة فعل يحصل به التقوى ؛ لأن الاتِّقاء هو الاحتراز عن المَضَارّ ، والعبادة فعل المأمور به ، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز ، بل موجب الاحتراز ، فإنه - تعالى - قال : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } لتحترزوا به عن عقابه .
وإذا قيل في نفس الفعل : " إنه اتقاء " ، فذلك غير ما يحصل به الاتقاء ، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه .
الثاني : أنه - تعالى - إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا ، على ما قال : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فكأنه - تعالى - أمر بعبادة الرَّبِّ الذي خلقهم لهذا الغرض ، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة .
قرأ أبو عمرو{[800]} : خَلَقْكُمْ بالإدغام ، وقرأ ابن السَّميفع{[801]} : " وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُم " .