ولما ثبت بهذا البيان عما للكافرين بقسميهم من الشقاوة مع تمام القدرة شمول{[876]} العلم المستلزمان للواحدانية أنتج قطعاً إفراده بالعبادة الموجبة للسعادة المضمنة لإياك نعبد ، فوصل بذلك قوله مقبلاً عليهم{[877]} بعد الإعراض عنهم عند التقسيم إيذاناً بأنهم صاروا بما تقدم من ضرب الأمثال وغيرها من{[878]} حيز المتأهل للخطاب من غير واسطة تنشيطاً لهم في عبادته وترغيباً وتحريكاً إلى رفع أنفسهم بإقبال الملك الأعظم عن الخضوع لمن هو{[879]} دونه بل دونهم وبشارة لمن أقبل عليه بعد أن كان معرضاً عنه بدوام الترقية ، فيزال ما أشار إليه حرف النداء{[880]} والتعبير عن المنادى{[881]} من بقية البعد بالسهو والغفلة والإعراض بالتقصير في العبادة والاضطراب والذبذبة { يا أيها الناس } .
قال الحرالي في تفسيره { يا } تنبيه من يكون بمسمع{[882]} من المنبه ليقبل على الخطاب ، وهو تنبيه في ذات نفس المخاطب ويفهم توسط البعد بين آيا الممدودة وأي{[883]} المقصورة " أيّ " {[884]} اسم مبهم ، مدلوله اختصاص ما وقع عليه من مقتضى اسم شامل ، " ها " كلمة مدلولها تنبيه على أمر يستفيده المنبه - انتهى . {[885]}وأكد سبحانه الكلام بالإبهام والتنبيه والتوضيح بتعيين{[886]} المقصود بالنداء تنبيهاً على أن ما يأتي بعده أمور مهمة يحق لها تشمير الذيول والقيام على ساق الجد .
وقال الحرالي : اعلم أنه كما اشتمل على القرآن كله فاتحة الكتاب فكذلك أيضاً جعل لكل سورة ترجمة جامعة تحتوي على جميع مثاني آيها ، وخاتمة تلتئم وتنتظم بترجمتها ، ولذلك تترجم السورة عدة سور ، وسيقع التنبيه على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى . واعلم مع ذلك أن كل{[887]} نبىء{[888]} منبأ{[889]}- يقرأ بالهمز - من النبأ وهو الخبر ، فإنه شرع في دعوته وهو غير عالم بطية أمره وخبر قومه ، وأن الله عز وجل جعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً منبياً{[890]} من النبوة - يقرأ بغير همز . ومعناه رفعة القدر والعلو ، فمما أعلاه الله به أن قدم له بين يدي دعوته علم طيّة{[891]} أمره ومكنون علمه تعالى في سر التقدير الذي لم يزل خبأ في كل كتاب ، فأعلمه بأنه{[892]} تعالى جبل{[893]} المدعوين الذين هم بصفة النوس مترددين بين الاستغراق في أحوال أنفسهم وبين مرجع إلى ذكر ربهم على ثلاثة أضرب : منهم من فُطِر على الإيمان ولم يطبع عليه أي على قلبه فهو مجيب ولا بد ، ومنهم من طبع على الكفر فهو آب ولا بد ، ومنهم من ردد بين طرفي الإيمان ظاهراً والكفر باطناً ، وإن كلاًّ ميسر لما خلق له ؛ فكان بذلك انشراح صدره في حال دعوته وزال به ضيق صدره الذي شارك به{[894]} الأنبياء - بالهمز ، ثم علا بعد ذلك إلى مستحق رتبته العلية ، فكان أول ما افتتح له كتابه أن عرفه معنى ما تضمنته { الم } ثم فصل من ذلك ثلاثة أحوال المدعوين بهذا الكتاب ، وحينئذ{[895]} شرع في تلقينه الدعوة العامة{[896]} للناس ، فافتتح بعد ذلك {[897]}الدعوة والنداء والدعوة{[898]} {[899]}إلى العبادة يعني بهذه الآية ، وتولى الله سبحانه دعوة الخلق في هذه{[900]} الدعوة العامة التي هي جامعة لكل دعوة في القرآن .
ولما ضمن صدرها من الوعيد{[901]} في حق رسوله{[902]} فلم يجر خطاب ذلك على لسانه ، ولما فيها من السطوة وخطاب الملك والجزاء ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول رحمة للعالمين فلم ينبغ{[903]} إجراؤها على لسانه لذلك ، وغيره من الرسل فعامة دعوة من خص الله سبحانه خبر دعوته فهي مجراة على ألسنتهم ولذلك كثرت مقاواة قومهم ومدعويهم{[904]} لهم ، ولما أجرى الحق تعالى هذه الدعوة من قبله كان فيها بشرى بالغلبة وإظهار دينه ، لأن الله سبحانه{[905]} وتعالى{[906]}لا يقاويه خلقه{[907]} ، ولما انتهى إلى البشرى التي هي رحمة أجرى الكلام على مخاطبته عليه السلام بقوله :
{ وبشر }[ البقرة : 25 ] ومع إجراء دعوة المرسلين على ألسنتهم علقت باسم الله بلفظ
{ أن اعبدوا الله{[908]} }[ المائدة : 117 ] ونحو فعزّ على أكثر النفوس الإجابة لفوات{[909]} اسم الله عن إدراك العقول ، ومع تولي الله سبحانه لهذه الدعوة بسلطانه العلي أجراها باسم الربوبية{[910]} وهو اسم أقرب مثالاً{[911]} على النفوس ، {[912]}لأنها تشاهد{[913]} آياته بمعنى التربية والربابة{[914]} ، ومع ذلك أيضاً فذكر اسم الله في دعوة المرسلين غير متبع ولا موصوف بآيات الإلهية ، ولو ذكر لما قرب مثالاً علمها فهي{[915]} كالشمس والقمر ونحو ذلك ، وذكر تعالى الربوبية{[916]} في هذه الدعوة متبعة بآياتها الظاهرة التي لا تفوت العقل والحس ولا يمكن إنكارها ، ووجه بعد النفوس عن الانقياد عند الدعوة باسم الله أن آيات الربوبية التي يسهل عليها{[917]} الانقياد من جهتها التي بيسير منها تنقاد للملوك و{[918]}أولي الإحسان ، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها تبقى عند الدعوة باسم الله بمعزل عن الشعور بإضافتها لاسم الله ويحار العقل في المتوجه له بالعبادة ، وتضيف النفوس الغافلة آيات الربوبية إلى ما تشاهده من أقرب الأسباب في العوائد ، كالفصول التي نيطت الموالد{[919]} والأقوات بها في مقتضى حكمة الله سبحانه أو{[920]} إلى أسباب هذه الأسباب كالنجوم ونحو ذلك ، فلا يلتئم للمدعو حال قوامه بعبادته فيكثر التوقف والإباء ، واقتضى اليسر الذي أراد الله بهذه الأمة ذكر الربوبية منوطاً بآياتها - انتهى .
ولما كانت العبادة المختلّة بشرك أو غيره ساقطة والازدياد من الصحيحة والاستمرار عليها عبادة{[921]} جديدة يحسن الأمر بها خاطب الفريقين فقال : { اعبدوا ربكم } أي الذي لا رب لكم غيره عبادة{[922]} هي{[923]} بحيث يقبلها الغني . ثم وصفه بما أشارت إليه صفة الرب من الإحسان تنبيهاً على وجوده ووجوب العبادة له{[924]} بوجوب شكر المنعم فقال : { الذي خلقكم{[925]} } ، قال الحرالي : { الذي } {[926]}اسم مبهم مدلوله ذات موصوف بوصف يعقب به وهي الصلة{[927]} اللازمة له ، والخلق{[928]} تقدير أمشاج{[929]} ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة { والذين من قبلكم } القبل ما إذا عاد المتوجه إلى مبدأ وجهته أقبل عليه - انتهى .
ثم بين نتيجتها بقوله : { لعلكم تتقون } أي لتكون حالكم بعبادته لأنها كلها محاسن ولا حسن في غيرها حال من ترجى له التقوى ، وهي اجتناب القبيح من خوف الله ، وسيأتي في قوله : { لعلكم تشكرون } ما ينفع هنا . وقال الحرالي : لعل كلمة ترج لما تقدم سببه ، وبدأ من آيات الربوبية بذكر الخلق لأنه في ذواتهم ، ووصل ذلك بخلق{[930]} من قبلهم حتى لا يستندوا بخلقهم إلى من قبلهم وترجى لهم التقوى لعبادتهم{[931]} ربهم من حيث نظرهم إلى خلقهم وتقدير أمشاجهم ، لأنهم إذا أسندوا خلقهم لربهم كان أحق أن يسندوا إليه ثمرة ذلك من صفاتهم وأفعالهم فيتوقفون عن{[932]} الاستغناء بأنفسهم فينشأ لهم بذلك تقوى - انتهى .