السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

ولما عدّ سبحانه وتعالى فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم أقبل تعالى عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات بقوله تعالى :

{ يأيها الناس اعبدوا ربكم } تحريكاً للسامع وتنشيطاً له واهتماماً بأمر العبادة وتفخيماً لشأنها وجبراً لمشقة العبادة بلذة المخاطبة ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلاً له منزلة البعيد ، إمّا لعظمته كقول الداعي : يا رب ويا الله وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، أو لغفلته وقلة فهمه ، أو للاعتناء بالمدعوّ له وزيادة الحث عليه ، ولفظ الناس يعم الموجودين وقت النزول لفظاً ومن سيوجد تنزيلاً للمعدوم منزلة الموجود ، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أنّ مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل وإن قال الإمام الرازي : الأقرب أنه لا يتناوله لأن { يا أيها الناس } صرف خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز وتناوله له لدليل منفصل وهو ما تواتر من دينه عليه الصلاة والسلام أنّ أحكامه ثابتة في حق من سيوجد إلى قيام الساعة .

فإن قيل : روي عن عقبة والحسن وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن كل شيء نزل فيه { يا أيها الناس } فمكي و{ يا أيها الذين آمنوا } فمدني ، فكيف تكون هذه السورة مكية وقد نزلت بالمدينة ؟ أجيب : بأنّ المراد بقولهم : السورة مكية أو مدنية أنّ غالبها ذلك والأولى أن يقال إنّ ذلك أكثري لا كلي وأن سورة البقرة والنساء والحجرات مدنيات باتفاق وقد قال تعالى في كل منها : { يا أيها الناس } وسورة الحج مكية سوى ما استثنى وفيها من غيره { يا أيها الذين آمنوا اركعوا } ( الحج ، 77 ) ولا يختص ذلك الخطاب بالكفار ولا بأمرهم بالعبادة فإنّ المأمور به هو المشترك بين بدء العبادة والزيادة فيها والمواظبة عليها ، فالمطلوب من الكفار هو الشروع فيها بعد الإيمان بما يجب تقديمه من المعرفة والإقرار بالصانع فإنّ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتم إلا به ، وكما أن الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر لا يمنع وجوب العبادة ، بل يجب رفع الكفر والاشتغال بالعبادة ومن المؤمنين ازديادهم وثباتهم عليها . وإنما قال الله تعالى : { ربكم } تنبيهاً على أنّ الموجب للعبادة هي الربوبية ، وقوله تعالى : { الذي خلقكم } أي : أنشأكم ولم تكونوا شيئاً صفة جرت عليه للتعظيم والتعليل ، ويحتمل التقييد إن خص الخطاب بالمشركين ، وأريد بالرب أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أرباباً والخلق : إيجاد الشيء على تقدير واستواء ، وأصله التقدير ، يقال : خلق النعل ، إذا قدّرها وسوّاها بالقياس . وقرأ أبو عمرو خلقكم بإدغام القاف في الكاف بخلف عنه { و } خلق { الذين من قبلكم } وهذا متناول لكل ما يتقدّم الإنسان بالذات أو الزمان كتقدّم الجزء على الكل والواحد على الاثنين ، وهو منصوب عطف على الضمير المنصوب في خلقكم كما علم من التقدير والجملة أخرجت مخرج المقرر عندهم ، إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ الله } ( الزخرف ، 87 ) { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله } ( الزمر ، 38 ) أو لتمكنهم من العلم به بأدنى نظر ، وقوله تعالى : { لعلكم تتقون } إما حال من الضمير في اعبدوا كأنه قال : اعبدوا ، ربكم راجين أن تدخلوا في سلك المتقين الفائزين بالهدى والفلاح المستوجبين لجوار الله تعالى نبه به على أنّ التقوى منتهى درجات السالكين وهو التبرّي من كل شيء سوى الله إلى الله وأنّ العابد ينبغي أن لا يغترّ بعبادته ويكون ذا خوف ورجاء ، كما قال تعالى : { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } ( السجدة ، 16 ) { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } ( الإسراء ، 57 ) ، وإمّا من مفعول خلقكم والمعطوف عليه على معنى أنه خلقكم ومن قبلكم في صورة من ترجى منه التقوى لترجح أمره باجتماع أسبابه وكثرة الدواعي إليه وغلب تعالى المخاطبين بقوله : { لعلكم } على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهم جميعاً ولعل في الأصل للترجي وفي كلامه تعالى للتحقيق ، والآية تدل على أنّ الطريق إلى معرفة الله تعالى والعلم بوحدانيته والعلم باستحقاقه للعبادة النظر في صنعه والاستدلال بأفعاله ، وأنّ العبد لا يستحق بعبادته عليه تعالى ثواباً فإنها لما وجبت عليه شكراً لما عدّده عليه من النعم السابقة فهو كأجير أخذ الأجر قبل العمل .