فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين والكافرين ، والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتاً للنكتة السابقة في الفاتحة . و " يا " حرف نداء ، والمنادى " أيّ " : وهو اسم مفرد مبني على الضم ، و " ها " حرف تنبيه مقحم بين المنادى ، وصفته . قال سيبويه : كأنك كررت «يا » مرتين ، وصار الاسم بينهما كما قالوا : ها هو ذا . وقد تقدّم الكلام في تفسير الناس ، والعبادة ، وإنما خص نعمة الخلق ، وامتنّ بها عليهم ؛ لأن جميع النعم مترتبة عليها ، وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها ، وأيضاً ، فالكفار مقرُّون بأن الله هو الخالق { وَلَئِن سَأَلْتَهُم منْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] فامتن عليهم بما يعترفون به ، ولا ينكرونه . وفي أصل معنى الخلق ، وجهان : أحدهما التقدير ، يقال : خلقت الأديم للسقاء : إذا قدّرته قبل القطع . قال زهير :

ولأنت تفرى ما خلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفرى

الثاني : الإنشاء ، والإختراع ، والإبداع . و " لعل " أصلها الترجي ، والطمع ، والتوقع ، والإشفاق ، وذلك مستحيل على الله سبحانه ، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم : افعلوا ذلك على الرجاء منكم ، والطمع ، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه . وقيل : إن العرب استعملت " لعل " مجردة من الشك بمعنى لام " كي " . والمعنى هنا : لتتقوا ، وكذلك ما وقع هذا الموقع ، ومنه قول الشاعر :

وَقُلتْمُ لَنَا كُفُّوا الحروبَ لَعلنا *** نَكُفّ وَوَثَّقْتُم لَنَا كُلَّ مَوثِقِ

فَلَمَّا كفَفَنْاَ الحَربَ كانت عُهُودُكمُ *** كَشَبّه سَرَابٍ في المَلأ متَألقِ

أي : كفوا عن الحرب لنكف ، ولو كانت " لعل " للشك لم يوثقوا لهم كل موثق ، وبهذا قال جماعة منهم قطرب . وقيل إنها بمعنى التعرّض للشيء كأنه قال : متعرّضين للتقوى . و { جعل } هنا بمعنى صيّر لتعدّيه إلى المفعولين ، ومنه قول الشاعر :

وقد جعلت أرى الإثنين أربعة *** والأربع اثنين لما هدَّني الكبر

/خ22