قوله تعالى : { إذا رأتهم من مكان بعيد } قال الكلبي والسدي : من مسيرة عام . وقيل : من مسيرة مائة سنة . وقيل : خمسمائة سنة . وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كذب علي متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً " . قالوا : وهل لها من عينين ؟ قال : نعم ألم تستمعوا قول الله تعالى : { إذا رأتهم من مكان بعيد } وقيل إذا رأتهم زبانيتها . { سمعوا لها تغيظاً } غلياناً ، كالغضبان إذا علا صدره من الغضب . { وزفيراً } صوتاً . فإن قيل : كيف يسمع التغيظ ؟ قيل : معناه رأوا وعلموا أن لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً ، كما قال الشاعر :
ورأيت زوجك في الوغى *** متقلداً سيفاً ورمحاً
أي : وحاملاً رمحاً . وقيل : سمعوا لها تغيظاً ، أي : صوت التغيظ من التلهب والتوقد ، قال عبيد بن عمير : تزفر جهنم يوم القيامة زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه .
{ إذا رأتهم } إذا كانت بمرأى منهم كقوله عليه السلام " لا تتراءى ناراهما " أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز والتأنيث لأنه بمعنى النار أو جهنم . { من مكان بعيد } هو أقصى ما يمكن أن يرى منه . { سمعوا لها تغيظا وزفيرا } صوت تغيظ ، شبه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه ، هذا وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية أمكن أن يخلق الله فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر . وقيل إن ذلك لزبانيتها فنسب إليها على حذف المضاف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 11]
يقول تعالى ذكره: ما كذّب هؤلاء المشركون بالله وأنكروا ما جئتهم به يا محمد من الحقّ، من أجل أنك تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، ولكن من أجل أنهم لا يوقنون بالمعاد ولا يصدّقون بالثواب والعقاب، تكذيبا منهم بالقيامة وبعث الله الأموات أحياء لحشر القيامة.
"وأَعْتَدْنا" يقول: وأعددنا لمن كذّب ببعث الله الأموات أحياء بعد فنائهم لقيام الساعة، نارا تسّعر عليهم وتتقد.
"إذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ" يقول: إذا رأت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء المكذّبين أشخاصَهم من مكان بعيد، تغيظت عليهم وذلك أن تغلى وتفور. يقال: فلان تغيظ على فلان، وذلك إذ غضب عليه فَغَلَى صدره من الغضب عليه وتبين في كلامه. وزفيرا، وهو صوتها.
فإن قال قائل: وكيف قيل: "سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظا"، والتغيظ: لا يسمع؟ قيل: معنى ذلك: سمعوا لها صوت التغيظ، من التلهب والتوقد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذا رأتهم من مكان بعيد}... يجعل لها أسبابا: تراهم بها كما يرونها بتلك الأسباب
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...ولفظ {رأتهم} يحتمل الحقيقة ويحتمل المجاز على معنى صارت منهم على قدر ما يرى الرائي من البعد...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي: قبل وصولهم ووصولها إليهم، {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا} عليهم {وَزَفِيرًا} تقلق منهم الأفئدة وتتصدع القلوب، ويكاد الواحد منهم يموت خوفا منها وذعرا قد غضبت عليهم لغضب خالقها وقد زاد لهبها لزيادة كفرهم وشرهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونحن هنا أمام مشهد السعير المتسعرة، وقد دبت فيها الحياة! فإذا هي تنظر فترى أولئك المكذبين بالساعة. تراهم من بعيد! فإذا هي تتغيظ وتزفر فيسمعون زفيرها وتغيظها؛ وهي تتحرق عليهم، وتصعد الزفرات غيظا منهم؛ وهي تتميز من النقمة، وهم إليها في الطريق!.. مشهد رعيب يزلزل الأقدام والقلوب!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تخلص من اليأس من اقتناعهم إلى وصف السعير الذي أعد لهم، وأجري على السعير ضمير {رأتهم} بالتأنيث لتأويل السعير بجهنم إذ هو علم عليها بالغلبة كما تقدم.
وإسناد الرؤية إلى النار استعارة والمعنى: إذا سيقوا إليها فكانوا من النار بمكان ما يرى الرائي من وصل إليه سمعوا لها تغيظاً وزفيراً من مكان بعيد، ويجوز أن يكون معنى: {رأتهم} رآهم ملائكتها أطلقوا منافذها فانطلقت ألسنتها بأصوات اللهيب كأصوات المتغيظ وزفيره فيكون إسناد الرؤية إلى جهنم مجازاً عقلياً.
والتغيظ: شدة الغيظ. والغيظ: الغضب الشديد، وتقدم عند قوله: {عضوا عليكم الأنامل من الغيظ} في سورة آل عمران (119). فصيغة التفعل هنا الموضوعة في الأصل لتكلف الفعل مستعملة مجازاً في قوته لأن المتكلف لفعل يأتي به كأشد ما يكون.
والمراد به هنا صوت المتغيظ، بقرينة تعلقه بفعل: {سمعوا} فهو تشبيه بليغ.
والزفير: امتداد النفَس من شدة الغيظ وضيق الصدر، أي صوتاً كالزفير فهو تشبيه بليغ أيضاً. ويجوز أن يكون الله قد خلق لجهنم إدراكاً للمرئيات بحيث تشتد أحوالها عند انطباع المرئيات فيها فتضطرب وتفيض وتتهيأ لالتهام بعثها فتحصل منها أصوات التغيظ والزفير فيكون إسناد الرؤية والتغيظ والزفير حقيقة، وأمور العالم الأخرى لا تقاس على الأحوال المتعارفة في الدنيا.
وعلى هذين الاحتمالين يحمل ما ورد في القرآن والحديث نحو قوله تعالى: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} [ق: 30]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين نفس في الصيف ونفس في الشتاء "رواه في « الموطأ»: زاد في رواية مسلم: "فما ترون من شدة البرد فذلك من زمهريرها وما ترون من شدة الحر فهو من سَمُومها "
وجُعل إزجاؤهم إلى النار من مكان بعيد زيادة في الكناية بهم لأن بعد المكان يقتضي زيادة المشقة إلى الوصول ويقتضي طول الرعب مما سمعوا.
وصف وصولهم إلى جهنم من مكان بعيد ووضعهم فيها بقوله: {وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرَّنين دعوا هنالك ثبوراً} فصيغ نظمه في صورة توصيف ضجيج أهل النار من قوله: {دعوا هنالك ثبوراً}، وأدمج في خلال ذلك وصف داخل جهنم ووصف وضع المشركين فيها بقوله: {مكاناً ضيقاً} وقوله: {مقرنين} تفنناً في أسلوب الكلام.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.