قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } . أي : إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] أي : إذا أردت القراءة وظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء عند كل مرة يريد القيام إلى الصلاة ، لكن علمنا ببيان السنة ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من الآية : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) . وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد .
أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنيفي ، أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري ، أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حكيم ، أنا أبو الموجه أنا عبدان ، أنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات الخمس بوضوء واحد ، ومسح على خفيه .
وقال زيد بن أسلم : معنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم . وقال بعضهم : هو أمر على طريق الندب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارتها وإن كان على طهر ، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات ) .
وروي عن عبد الله بن حنظلة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة ، طاهراً أو غير طاهر ، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة .
وقال بعضهم : هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ، فإن له أن يفعل بعد الحدث ما له من الأفعال غير الصلاة .
أخبرنا أبو القاسم الحنفي ، أنا أبو الحارث الطاهري ، أنا الحسن بن محمد بن حكيم ، أنا أبو الموجه ، أنا صدقة ، أنا ابن عيينة ، عن عمرو ابن دينار سمع سعيد بن الحويرث ، سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجع من الغائط ، فأتي بطعام ، فقيل له : ألا تتوضأ ؟ فقال : لم أصلي فأتوضأ . قوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } . وحد الوجه من منابت شعر الرأس ، إلى منتهى الذقن طولاً ، وما بين الأذنين عرضاً ، يجب غسل جميعه في الوضوء ، ويجب أيضاً إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين ، وأهداب العينين ، والشارب ، والعذار ، والعنفقة . وإن كانت كثيفة وأما العارض واللحية ، فإن كانت كثيفة لا ترى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء ، بل يجب غسل ظاهرها . وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذقن ؟ فيه قولان : أحدهما : لا يجب . وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه ، لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه ، كذلك النازل عن حد الوجه في وجوب غسله . والقول الثاني : يجب إمرار الماء على ظاهره ، لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه ، والوجه ما يقع به المواجهة من هذا العضو ، ويقال في اللغة : بقل وجه فلان ، وخرج وجهه ، إذا نبتت لحيته .
قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } . أي : مع المرافق ، كما قال الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] أي : مع أموالكم ، وقال : { من أنصاري إلى الله } [ آل عمران : 52 ] وسورة [ الصف : 14 ] ، أي : مع الله . وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين ، وفي الرجل يجب غسل الكعبين ، وقال الشعبي ، ومحمد بن جرير : لا يجب غسل المرفقين والكعبين في غسل اليد والرجل ، لأن حرف " إلى " للغاية والحد ، فلا يدخل في المحدود ، قلنا : ليس هذا بحد ولكنه بمعنى " مع " كما ذكرنا . وقيل : الشيء إذا حد إلى جنسه يدخل فيه الغاية ، وإذا حد إلى غير جنسه لا يدخل . كقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] ، لم يدخل الليل فيه لأنه ليس من جنس النهار . قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } . اختلف العلماء في قدر الواجب من مسح الرأس ، قال مالك : يجب مسح جميع الرأس كما يجب مسح جميع الوجه في التيمم ، وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرأس ، وعند الشافعي رحمه الله : يجب قدر ما يطلق عليه اسم المسح . واحتج من أجاز مسح بعض الرأس مما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا يحيى بن حسان ، عن حماد بن زيد و ابن علية ، عن أيوب السختياني عن ابن سيرين ، عن عمرو بن وهب الثقفي ، عن المغيرة بن شعبة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته ، وعلى عمامته وخفيه ، فأجاز بعض أهل العلم المسح على العمامة بهذا الحديث ، وبه قال الأوزاعي وأحمد ، وإسحاق . ولم يجوز أكثر أهل العلم المسح على العمامة بدلاً من مسح الرأس . وقال في حديث المغيرة : إن فرض المسح سقط عنه بمسح الناصية ، وفيه دليل على أن مسح جميع الرأس غير واجب .
قوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } . قرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، ويعقوب ، وحفص ، ( وأرجلكم ) بنصب اللام ، وقرأ الآخرون ( وأرجلكم ) بالخفض ، فمن قرأ ( وأرجلكم ) بالنصب ، فيكون عطفاً على قوله : { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } أي : واغسلوا أرجلكم ، ومن قرأ بالخفض ، فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنه يمسح على الرجلين . وروي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ، ومسحتان . ويروى ذلك عن عكرمة ، و قتادة . وقال الشعبي : نزل جبريل بالمسح ، قال : ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلاً ، ويلغي ما كان مسحاً ؟ وقال محمد بن جرير الطبري : يتخير المتوضئ بين المسح على الخفين ، وبين غسل الرجلين . وذهب جماعة من أهل العلم من الصحابة ، والتابعين ، وغيرهم : إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ ، لا على موافقة الحكم . كما قال تبارك وتعالى : { عذاب يوم أليم } فالأليم صفة العذاب ، ولكنه أخذ إعراب اليوم للمجاورة ، وكقولهم : " جحر ضب خرب " فالخرب نعت للحجر ، وأخذ إعراب الضب للمجاورة . والدليل على وجوب غسل الرجلين ما أخبرنا أبو سعيد أحمد ابن محمد بن العباس الحميدي الخطيب ، أنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، أنا يحيى بن محمد بن يحيى ، أنا الحجي ومسدد قالا : أخبرنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه ، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ، صلاة العصر ، ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادانا بأعلى صوته : " ويل للأعقاب من النار " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله ، أنا معمر ، حدثني الزهري ، عن عطاء بن زيد ، عن حمران مولى عثمان رضي الله عنه قال : أن عثمان رضي الله عنه توضأ ، فأفرغ على يديه ثلاثاً ، ثم تمضمض واستنشق ، واستنثر ، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً ، ثم غسل يده اليسرى إلى المرافق ثلاثاً ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ، ثم اليسرى ثلاثاً ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : " من توضأ وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين ، لا يحدث نفسه فيهما بشيء ، غفر له ما تقدم من ذنبه " .
وقال بعضهم : أراد بقوله { وأرجلكم } المسح على الخفين كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه ، وليس المراد منه أنه لم يكن بينهما حائل ، ويقال : قبل فلان رأس الأمير ويده ، وإن كان العمامة على رأسه ، ويده في كمه .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو نعيم أنا زكريا عن عامر ، عن عروة ، ابن المغيرة ، عن أبيه رضي الله عنهما قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال : أمعك ماء ؟ فقلت : نعم ، فنزل عن راحلته ، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل ، ثم جاء ، فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ويديه ، وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة ، فغسل ذراعيه ، ثم مسح برأسه ، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال : دعهما ، فإني أدخلتهما طاهرتين ، فمسح عليهما .
قوله تعالى : { إلى الكعبين } . فالكعبان هما العظمان الناتئان من جانب القدمين ، وهما مجمع مفصل الساق والقدم ، فيجب غسلهما مع القدمين كما ذكرنا في المرفقين . وفرائض الوضوء : غسل الأعضاء الثلاثة كما ذكر الله تعالى ، ومسح الرأس ، واختلف أهل العلم في وجوب النية : فذهب أكثرهم إلى وجوبها ، لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العبادات ، وذهب بعضهم إلى أنها غير واجبة ، وهو قول الثوري ، واختلفوا في وجوب الترتيب ، وهو أن يغسل أعضاءه على الولاء كما ذكر الله تبارك وتعالى ، فذهب جماعة إلى وجوبه ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق رحمهم الله ، ويروي ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه . واحتج الشافعي بقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ، [ البقرة : 158 ] وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا ، وقال : ( نبدأ بما بدأ الله به ) ، وكذلك هاهنا ، بدأ الله تعالى بذكر غسل الوجه فيجب علينا أن نبدأ فعلاً بما بدأ الله تعالى بذكره . وذهب جماعة إلى أن الترتيب سنة ، وقالوا الواوات المذكورة في الآية للجمع لا للترتيب ، كما قال الله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } [ التوبة : 60 ] الآية ، واتفقوا على أنه لا تجب مراعاة الترتيب في صرف الصدقات إلى أهل السهمين ، ومن أوجب الترتيب أجاب بأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه راعى الترتيب بين أهل السهمين ، وفي الوضوء لم ينقل أنه توضأ إلا مرتباً كما ذكر الله تعالى ، وبيان الكتاب يؤخذ من السنة كما قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] ، لما قدم ذكر الركوع على السجود ، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك ، فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة ، كذلك الترتيب هنا .
قوله تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } ، أي : اغتسلوا .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة ، بدأ فغسل يديه ، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه ، ثم يفيض الماء على جلده كله .
قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ، فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب .
قوله تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم } ، بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم .
قوله تعالى : { من حرج } ، ضيق .
قوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } ، من الأحداث والجنابات والذنوب .
قوله تعالى : { وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } . قال محمد بن كعب القرظي : إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء . كما قال الله تعالى : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] ، فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن حمران : أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ، ويديه ، ورجليه .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن حمران مولى عثمان ، أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جلس على المقاعد يوماً ، فجاءه المؤذن فآذنه بصلاة العصر ، فدعا بماء فتوضأ ، ثم قال : والله لأحدثنكم حديثاً لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ، ثم قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من امرئ مسلم يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها } .
قال مالك : أراه يريد هذه الآية { أقم الصلاة لذكري } ، ورواه ابن شهاب ، وقال عروة : الآية { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات } . [ البقرة : 159 ] .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا يحيى بن بكير ، أنا الليث ، عن خالد عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المجمر قال : رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد ، فتوضأ ، ثم قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع أن يطيل منكم غرته فليفعل ) .
وفي ظل الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء يجيء ذكر الصلاة ، وأحكام الطهارة للصلاة .
( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برؤوسكم ، وأرجلكم إلى الكعبين . وإن كنتم جنبا فاطهروا . وإن كنتم مرضى ، أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه . ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ، ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) . .
إن الحديث عن الصلاة والطهارة إلى جانب الحديث عن الطيبات من الطعام والطيبات من النساء . وإن ذكر حكم الطهارة إلى جانب أحكام الصيد والإحرام والتعامل مع الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام . . إن هذا لا يجيء اتفاقا ومصادفة لمجرد السرد ، ولا يجيء كذلك بعيدا عن جو السياق وأهدافه . . إنما هو يجيء في موضعه من السياق ، ولحكمته في نظم القرآن . .
إنها - أولا - لفتة إلى لون آخر من الطيبات . . طيبات الروح الخالصة . . إلى جانب طيبات الطعام والنساء . . لون يجد فيه قلب المؤمن ما لا يجده في سائر المتاع أنه متاع اللقاء مع الله ، في جو من الطهر والخشوع والنقاء . . فلما فرغ من الحديث عن متاع الطعام والزواج ارتقى إلى متاع الطهارة والصلاة ؛ استكمالا لألوان المتاع الطيبة في حياة الإنسان . . والتي بها يتكامل وجود " الإنسان " .
ثم اللفتة الثانية . . إن إحكام الطهارة والصلاة ؛ كأحكام الطعام والنكاح ؛ كأحكام الصيد في الحل والحرمة ؛ كأحكام التعامل مع الناس في السلم والحرب . . . كبقية الأحكام التالية في السورة . . . كلها عبادة لله . وكلها دين الله . فلا انفصام في هذا الدين بين ما اصطلح أخيرا - في الفقة - على تسميته " بأحكام العبادات " ، وما اصطلح على تسميته " بأحكام المعاملات " . .
هذه التفرقة - التي اصطنعها " الفقة " حسب مقتضيات " التصنيف " و " التبويب " - لا وجود لها في أصل المنهج الرباني ، ولا في أصل الشريعة الإسلامية . . إن هذا المنهج يتألف من هذه وتلك على السواء . وحكم هذه كحكم تلك في أنها تؤلف دين الله وشريعته ومنهجه ؛ وليست هذه بأولى من تلك في الطاعة والاتباع . لا ، بل إن أحد الشطرين لا يقوم بغير الآخر . والدين لا يستقيم إلا بتحققهما في حياة الجماعة المسلمة على السواء .
كلها " عقود " من التي أمر الله المؤمنين في شأنها بالوفاء . وكلها " عبادات " يؤديها المسلم بنية القربى إلى الله . وكلها " إسلام " وإقرار من المسلم بعبوديته لله .
ليس هنالك " عبادات " وحدها و " معاملات " وحدها . . إلا في " التصنيف الفقهي " . . وكلتا العبادات والمعاملات بمعناها هذا الاصطلاحي . . كلها " عبادات " و " فرائض " و " عقود " مع الله . والإخلال بشيء منها إخلال بعقد الإيمان مع الله !
وهذه هي اللفتة التي يشير إليها النسق القرآني ؛ وهو يوالي عرض هذه الأحكام المتنوعة في السياق .
( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة . . . ) . .
إن الصلاة لقاء مع الله ، ووقوف بين يديه - سبحانه - ودعاء مرفوع إليه ، ونجوى وإسرار . فلا بد لهذا الموقف من استعداد . لا بد من تطهر جسدي يصاحبه تهيؤ روحي . ومن هنا كان الوضوء - فيما نحسب والعلم لله - وهذه هي فرائضه المنصوص عليها في هذه الآية :
غسل الوجه . غسل الأيدي إلى المرافق . ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين . . وحول هذه الفرائض خلافات فقهية يسيره . . أهمها هل هذه الفرائض على الترتيب الذي ذكرت به ؟ أم هي تجزى ء على غير ترتيب ؟ قولان . .
هذا في الحدث الأصغر . . أما الجنابة - سواء بالمباشرة أو الاحتلام - فتوجب الاغتسال . .
ولما فرغ من بيان فرائض الوضوء ، والغسل ، أخذ في بيان حكم التيمم . وذلك في الحالات الآتية : حالة عدم وجود الماء للمحدث على الإطلاق . .
وحالة المريض المحدث حدثا أصغر يقتضي الوضوء ، أو حدثا أكبر يقتضي الغسل والماء يؤذيه . .
وحالة المسافر المحدث حدثا أصغر أو أكبر . .
وقد عبر عن الحدث الأصغر بقوله : ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) . . والغائط مكان منخفض كانوا يقضون حاجتهم فيه . . والمجيء من الغائط كناية عن قضاء الحاجة تبولا أو تبرزا .
وعبر عن الحدث الأكبر بقوله : ( أو لامستم النساء ) . . لأن هذا التعبير الرقيق يكفي في الكناية عن المباشرة . .
ففي هذه الحالات لا يقرب المحدث - حدثا أصغر أو أكبر - الصلاة ، حتى يتيمم . . فيقصد صعيدا طيبا . . أي شيئا من جنس الأرض طاهرا - يعبر عن الطهارة بالطيبة - ولو كان ترابا على ظهر الدابة ، أو الحائط . فيضرب بكفيه ، ثم ينفضهما ، ثم يمسح بهما وجهه ، ثم يمسح بهما يديه إلى المرفقين . . ضربة للوجة واليدين . أو ضربتين . . قولان . .
وهناك خلافات فقهية حول المقصود بقوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) . . أهو مجرد الملامسة ؟ أم هي المباشرة ؟ وهل كل ملامسة بشهوة ولذة أم بغير شهوة ولذة ؟ خلاف . .
كذلك هل المرض بإطلاقه يجيز التيمم ؟ أم المرض الذي يؤذيه الماء ؟ خلاف . .
ثم . . هل برودة الماء من غير مرض ؛ وخوف المرض والأذى يجيز التيمم . . الأرجح نعم . . وفي ختام الآية يجيء هذا التعقيب :
( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج . ولكن يريد ليطهركم ، وليتم نعمته عليكم ، لعلكم تشكرون ) . . والتطهير حالة واجبة للقاء الله - كما أسلفنا - وهو يتم في الوضوء والغسل جسما وروحا . فأما في التيمم فيتم الشطر الأخير منه ؛ ويجزى ء في التطهر عند عدم وجود الماء ، أو عندما يكون هناك ضرر في استعمال الماء . ذلك أن الله - سبحانه - لا يريد أن يعنت الناس ، ويحملهم على الحرج والمشقة بالتكاليف . إنما يريد أن يطهرهم ، وأن ينعم عليهم بهذه الطهارة ؛ وأن يقودهم إلى الشكر على النعمة ، ليضاعفها لهم ويزيدهم منها . .
فهو الرفق والفضل والواقعية في هذا المنهج اليسير القويم .
وتقودنا حكمة الوضوء والغسل والتيمم التي كشف النص عنها هنا :
( ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) . .
تقودنا إلى تلك الوحدة التي يحققها الإسلام في الشعائر والشرائع على السواء . فليس الوضوء والغسل مجرد تنظيف للجسد ، ليقول متفلسفة هذه الأيام : إننا لسنا في حاجة إلى هذه الإجراءات ، كما كان العرب البدائيون ! لأننا نستحم وننظف أعضاءنا بحكم الحضارة ! إنما هي محاولة مزدوجة لتوحيد نظافة الجسم وطهارة الروح في عمل واحد ؛ وفي عبادة واحدة يتوجه بها المؤمن إلى ربه . وجانب التطهر الروحي أقوى . لأنه عند تعذر استخدام الماء ، يستعاض بالتيمم ، الذي لا يحقق إلا هذا الشطر الأقوى . . وذلك كله فضلا على أن هذا الدين منهج عام ليواجه جميع الحالات ، وجميع البيئات ، وجميع الأطور ، بنظام واحد ثابت ، فتتحقق حكمته في جميع الحالات والبيئات والأطور ؛ في صورة من الصور ، بمعنى من المعاني ؛ ولا تبطل هذه الحكمة أو تتخلف في أية حال .
فلنحاول أن نتفهم أسرار هذه العقيدة قبل أن نفتي فيها بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ولنحاول أن نكون أكثر أدبا مع الله ؛ فيما نعلم وفيما لا نعلم على السواء .
كذلك يقودنا الحديث عن التيمم للصلاة عند تعذر الطهارة بالوضوء أو الغسل أو ضررها إلى لفتة أخرى عن الصلاة ذاتها ، عن حرص المنهج الإسلامي على إقامة الصلاة ؛ وإزالة كل عائق يمنع منها . . فهذا الحكم بالإضافة إلى الأحكام الأخرى كالصلاة عند الخوف والصلاة في حالة المرض من قعود أو من استلقاء حسب الإمكان . . كل هذه الأحكام تكشف عن الحرص البالغ على إقامة الصلاة ؛ وتبين إلى أي حد يعتمد المنهج على هذه العبادة لتحقيق أغراضه التربوية في النفس البشرية . إذا يجعل من لقاء الله والوقوف بين يديه وسيلة عميقة الأثر ، لا يفرط فيها في أدق الظروف وأحرجها ؛ ولا يجعل عقبة من العقبات تحول بين المسلم وبين هذا الوقوف وهذا اللقاء . . لقاء العبد بربه . . وعدم انقطاعه عنه لسبب من الأسباب . . إنها نداوة القلب ، واسترواح الظل ، وبشاشة اللقاء . .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا أردتم القيام كقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } عبر عن إرادة الفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها ، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، أو إذا قصدتم الصلاة لأن التوجه إلى الشيء والقيام إليه قصد له ، وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا ، والإجماع على خلافه لما روي " أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه : صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا فعلته " فقيل مطلق أريد به التقييد ، والمعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين . وقيل الأمر فيه للندب . وقيل كان ذلك أول الأمر ثم نسخ وهو ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : " المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " . { فاغسلوا وجوهكم } أمروا الماء عليها ولا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك . { وأيديكم إلى المرافق } الجمهور على دخول المرفقين في المغسول ولذلك قيل : { إلى } بمعنى مع كقوله تعالى : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أو متعلقة بمحذوف تقديره : وأيديكم مضافة إلى المرافق ، ولو كان كذلك لم يبق لمعنى التحديد ولا لذكره مزيد فائدة ، لأن مطلق اليد يشتمل عليها . وقيل : إلى تفيد الغاية مطلقا وأما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج ولم يكن في الآية ، وكانت الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطا . وقيل إلى من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية لقوله تعالى : { فنظرة إلى ميسرة } وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } لكن لما لم تتميز الغاية ها هنا عن ذي الغاية وجب إدخالها احتياطا . { وامسحوا برؤوسكم } الباء مزيدة . وقيل للتبعيض ، فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل ، ووجهه أن يقال إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل : وألصقوا المسح برؤوسكم ، وذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما لو قيل : وامسحوا رؤوسكم فإنه كقوله : { فاغسلوا وجوهكم } واختلف العلماء في قدر الواجب . فأوجب الشافعي رضي الله تعالى عنه : أقل ما يقع عليه الاسم أخذا باليقين . وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه : مسح ربع الرأس ، لأنه عليه الصلاة والسلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع . ومالك رضي الله تعالى عنه : مسح كله أخذا بالاحتياط . { وأرجلكم إلى الكعبين } نصبه نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب عطفا على وجوهكم ويؤيده : السنة الشائعة ، وعمل الصحابة ، وقول أكثر الأئمة ، والتحديد ، إذ المسح لم يحد . وجره الباقون على الجوار ونظيره كثير في القرآن والشعر كقوله تعالى : { عذاب يوم أليم } { وحور عين } بالجر
في قراءة حمزة والكسائي ، وقولهم جحر ضب خرب . وللنحاة باب في ذلك ، وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها ويغسل غسلا يقرب من المسح ، وفي الفصل بينه وبين أخويه إيماء على وجوب الترتيب . وقرئ بالرفع على { وأرجلكم } مغسولة . { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فاغتسلوا . { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } سبق تفسيره ، ولعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة . { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم تضييقا عليكم . { ولكن يريد ليطهركم } لينظفكم ، أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب ، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء . فمفعول { يريد } في الموضعين محذوف واللام للعلة . وقيل مزيدة والمعنى : ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم ، ولكن يريد أن يطهركم وهو ضعيف لأن أن لا تقدر بعد المزيدة . { وليتم نعمته عليكم } ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم ومكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين ، أوليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه . { لعلكم تشكرون } نعمته . والآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى : طهارتان أصل وبدل ، والأصل اثنان مستوعب وغير مستوعب ، وغير المستوعب باعتبار الفعل غسل ومسح وباعتبار المحل محدود وغير محدود ، وأن آلتهما مائع وجامد ، وموجبهما حدث أصغر وأكبر ، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر ، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب وإتمام النعمة .