فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه ، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية ، وقدم منه{[24403]} الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان ، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا به{[24404]} ! صدقوه بأنكم{[24405]} { إذا } عبر بأداة التحقيق بشارة{[24406]} بأن الأمة مطيعة { قمتم } أي بالقوة ، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام { إلى الصلاة } أي جنسها محدثين ، لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بجمعه{[24407]} بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل ، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما{[24408]} ويزيد حمل{[24409]} الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم }[ المائدة : 3 ] الثابت أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد عصر يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم على ناقته يخطب ، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو{[24410]} في يوم النحر أو{[24411]} في كليهما : " ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب{[24412]} ، ولكن في التحريش بينهم " رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة والترمذي عن جابر رضي الله عنه ، فقوله " المصلون " إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة ، فما دامت قائمة فهو زائل ، ومتى زالت والعياذ بالله - رجع ، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بين العبد والكفر ترك الصلاة " وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي{[24413]} بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد{[24414]} كفر{[24415]} " ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة ، وآخر ما يبقى الصلاة " . ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً ، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله ، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة ، لأن{[24416]} المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط : { فاغسلوا } أي لأجل إرادة الصلاة ، ومن هنا يعلم{[24417]} وجوب النية ، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً ، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية { وجوهكم }{[24418]} وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً ، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة ، لأنه من الحرج ، وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه{[24419]} بظاهر اللحية ، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب { وأيديكم } .
ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع ، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين ، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم : { إلى المرافق } أي آخرها ، أخذاً من بيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه ، وإنما كان{[24420]} الاعتماد على{[24421]} البيان لأن الغاية تارة تدخل كقوله{[24422]} تعالى{ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى{[24423]} }[ الإسراء : 1 ] وتارة لا تدخل كقوله{[24424]} تعالى
{ ثم أتموا الصيام إلى اللّيل{[24425]} }[ البقرة : 187 ] والمرفق ملتقى العظمين ، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً { وامسحوا } ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس ، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه ، بل أتى بالباء فقال : { برءوسكم } علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس ، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف : المراد إلصاق المسح بالرأس ، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح .
ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه ، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً ، قرىء : { وأرجلكم } بالجر على المجاورة{[24426]} إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب ، قال في القاموس : المسح كالمنع : إمرار اليد على الشيء السائل . فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك ، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي صلى الله عليه وسلم ، ومر استعماله فيه{[24427]} وفيه الإشارة إلى الرفق{[24428]} بالنصب على الأصل .
ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب{[24429]} من الأسفل إلى آخرها ، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل - كما مضى في المرافق ، لأن المسح{[24430]} لم يرد فيه غاية في الشريعة و{[24431]} على أن{[24432]} ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع ، لأن القدم بعظم{[24433]} نفعه أولى باسم الرجل : { إلى{[24434]} الكعبين } وهما العظمان الناتيان عند مفصل الساق والقدم ، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين ، ولو قيل : إلى الكعاب ، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل - كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده ، والفصل بالمسح بين{[24435]} المغسولات معلم بوجوب الترتيب ، لأن عادة العرب - كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب - أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب ، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب : ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن{[24436]} في الكلام البليغ لغير فائدة ، فوجب تنزيه كلام الله عنه أيضاً ، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء{[24437]} ، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض ، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما ، وللتذكير{[24438]} بالنعمة في التوسعة بالتيمم ، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن{[24439]} أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط{[24440]} في الأرض ، لظهور الكفار وغلبتهم ، كما كانت المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها ، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة ، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج ، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة{[24441]} ، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع و{[24442]} قد لا يقع{[24443]} وهو نادر{[24444]} على تقدير{[24445]} وقوعه ، عاطفاً على ما تقديره : هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر : { وإن كنتم }{[24446]} أي حال القصد للصلاة { جنباً } أي ممنين باحتلام أو غيره { فاطهروا } أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن ، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء .
ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء ، وبدأ بالوضوء لعمومه ، ذكر الطهارة رخصة بالتراب ، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة : { وإن كنتم{[24447]} مرضى } أي بجراح أو غيره ، فلم تجدوا ماء حساً أو{[24448]} معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب{[24449]} { أو على سفر } طويل أو قصير كذلك ، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال{[24450]} { أو جاء أحد منكم } وهو غير جنب { من الغائط } أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي{[24451]} مكان التخلي ، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له{[24452]} منها ، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة{[24453]} له بشديد عجزه وعظيم ضرورته{[24454]} وفقره{[24455]} ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره . كما ورد أن بعض الأمراء لقي{[24456]} بعض البله في طريق{[24457]} فلم يفسح له ، فغضب وقال : كأنك ما تعرفني ؟ فقال بلى والله ! إني لأعرفك ، أولك{[24458]} نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين{[24459]} ذلك تحمل العذرة{[24460]} .
ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما{[24461]} يعم الأكبر فقال : { أو لامستم النساء } أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا { فلم تجدوا ماء } أي حساً أو معنى بالعجز عن{[24462]} استعماله للمرض{[24463]} بجرح أو غيره { فتيمموا } أي اقصدوا{[24464]} قصداً متعمداً { صعيداً } أي تراباً { طيباً } أي طهوراً خالصاً { فامسحوا } .
ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته ، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة ، وبينت السنة{[24465]} أن المراد جميع العضو ، فقال : { بوجوهكم وأيديكم منه } أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم ، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً : { ما يريد الله } أي الغنى الغنى{[24466]} المطلق { ليجعل عليكم }{[24467]} وأغرق{[24468]} في النفي بقوله : { من حرج } أي ضيق علماً منه بضعفكم ، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان{[24469]} قبلكم ، وإكراماً لكم لأجل نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم { ولكن يريد ليطهركم } أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وبامتثال الأمر على ما{[24470]} شرعه سبحانه ، عقلتم معناه أو لا ، مع تسهيل الأوامر والنواهي{[24471]} لكيلا يوقعكم التشديد{[24472]} في المعصية التي هي رجس الباطن { وليتم نعمته } أي في التخفيف في{[24473]} العزائم ثم في الرخص ، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال { عليكم } لأجل تسهيلها ، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به ، إلا لمن لج طبعه في العوج ، وتمادى في الغواية والجهل والبطر { لعلكم{[24474]} تشكرون * } أي و{[24475]} فعل ذلك كله .
هذا{[24476]} التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه{[24477]} في طاعته{[24478]} المسهلة له{[24479]} المحببة إليه ، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم{[24480]} في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم{[24481]} على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء . وفي رواية : سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون{[24482]} المدينة ، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل ، فثنى رأسه في حجري راقداً . فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ فجاء أبو بكر{[24483]} فلكزني لكزة شديدة وقال : حبست النبي صلى الله عليه وسلم في قلادة ، فبى{[24484]} الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد ، فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ، وفي رواية : فأنزل الله آية التيمم { فتيمموا } فقال أسيد بن حضير{[24485]} : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر !{[24486]} ما أنتم إلا بركة لهم ، وفي رواية : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر{[24487]} ، قالت : فبعثنا{[24488]} البعير الذي كنت عليه فإذا العقد تحته{[24489]} " وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً{[24490]} من أصحابه في طلبها ، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم ، فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً ! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً ، وجعل للمسلمين{[24491]} فيه بركة " وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء ، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكم ومزيد الامتنان به ، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجنابة نص خاص ، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به{[24492]} .