قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } : قالوا تقديرُه : إذا أردتم القيامَ كقولِه :
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ } [ النحل : 98 ] ، وهذا من إقامة المسبِّب مقام السبب ، وذلك أنَّ القيامَ متسبِّبٌ عن الإِرادة والإِرادة سببه .
قال الزمخشري : " فإنْ قلت : لِمَ جازَ أن يُعَبِّر عن إرادة الفعل بالفعل " قلت : لأن الفعل يوجَدُ بقدرة الفاعل عليه وإرادته له وهي قصدُه إليه وميلُه وخلوصُ داعيتهِ ، فكما غَبَّر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : " الإِنسانُ لا يطير ، والأعمى لا يبصر " أي : لا يَقْدران على الطير والابصار ، ومنه قولُه تعالى :
{ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }
[ الأنبياء : 104 ] أي : قادرين على الإِعادة ، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ؛ وذلك لأن الفعل مُسَبِّب عن القدرة ، فأقيم المُسَبَّب مُقام السببِ للملابسةِ بينهما ولإِيجاز الكلام " . وقيل : تقديره : إذا قَصَدْتُم الصلاةَ ؛ لأنَّ مَنْ توجَّه إلى شيءٍ وقام إليه كان قاصدا له فعبَّر بالقيام عن القصدِ . والجمهورُ قَدَّروا حالاً محذوفة من فاعل " قمتم " ، أي : إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثين ، إذ لا وضوءَ على غير المحِدث ، وإن كان قال به جماعة ، قالوا : ويدُلُّ على هذه الحالِ المحذوفة مقابلتُها بقوله : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } فكأنه قيل : إنْ كنتم مُحْدِثين الحدثَ الأصغر فاغسِلو كذا وامسَحوا كذا ، وإنْ كنتم مُحْدثين الحدثَ الأكبر فاغسلوا الجسدَ كله ، وهو مَحَلُّ نظر .
قوله : { إِلَى الْمَرَافِقِ } في " إلى " هذه وجهان ، أحدهما : أنها على بابها من انتهاء الغاية ، وفيها حنيئذ خلاف ، فقائلٌ : إنَّ ما بعدها لا يدخل فيما قبلها ، وقائلٌ بعكس ذلك ، وقائل : لا تَعَرُّضَ لها في دخولٍ ولا عدَمِه ، وإنما يدور الدخولُ والخروج مع الدليل وعدمه . وقائل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم وإلا فلا ، ويُعْزى لأبي العباس . وقائل : إنْ كان ما بعدَها من غير جنس ما قبلها لم يَدْخُل ، وإن كان من جنسِه فيحتمل الدخولَ وعَدَمه ، وأول هذه الأقوالِ هو الأصحُّ عند النحاة . قال بعضُهم : وذلك أنَّا حيث وَجَدْنا قرينةً مع " إلى " فإن تلك القرينةَ تقتضي الإِخراجَ مما قبلها ، فإذا وَرَدَ كلامٌ مجردٌ عن القرائن فينبغي أن يُحْمَلَ على الأمر الفاشي الكثير وهو الإِخراج ، وفَرَّق هذا القائل بين " إلى " و " حتى " فجعل " حتى " تقتضي الإِدخالَ ، و " إلى " تقتضي الإِخراج بما تقدم من الدليل ، وهذه الأقوالُ دلائلها في غيرِ هذا الكتاب ، وقد أوضَحْتُها في كتابي " شرح التسهيل " والقول الثاني : أنها بمعنى " مع " أي : مع المرافق ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك عند قوله :
{ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] . والمرافقُ : جمع " مَرْفِق " بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة ، وهو مِفْصَلٌ ما بين العَضْد والمِعْصَم .
قوله : { بِرُؤُوسِكُمْ } في هذه الباء ثلاثةٌ أوجه ، أحدها : أنها للإِلصاق أي : أَلْصِقوا المسحَ برؤوسكم . قال الزمخشري : " المراد إلصاقُ المسحِ بالرأس ، وماسحُ بعضِه ومستوعبُه بالمسح كلاهما مُلْصِقٌ المسحَ برأسه " قال الشيخ : " وليس كما ذكر " يعني أنه لا يُطلق على الماسح بعضَ رأسِه أنه ملصقٌ المسحَ برأسِه/ . وهذه مُشاحَّةٌ لا طائل تحتها . والثاني : أنها زائدةٌ ، كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] ، وقوله :1699
- . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وهو ظاهرُ كلام سيبويه ، فإنه حكى : " خَشَّنْتُ صدرَه وبصدره " و " مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه " بمعنَى واحد ، وقال الفراء : " تقول العرب : " خُذِ الخِطامَ وبالخطام " و " هَزَّه وهَزَّ به " و " خُذْ برأسِه ورأسَه " والثالث : أنها للتعيضِ كقوله :
شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم ترفَّعَتْ *** . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا قولٌ ضعيف ، وقد تقدَّم القولُ في ذلك أولَ البسملة .
قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } قرأ نافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم : " أرجلكم " نصباً ، وباقي السبعة : وأرجلكم " جراً ، والحسن بن أبي الحسن : " وأرجلُكم " رفعاً ، فأمَّا قراءة النصب ففيها تخريجان ، أحدُهما : أنها معطوفةٌ على " ايديكم " فإنَّ حكمَها الغُسْلُ كالأوجه والأيدي ، كأنه قيل : " واغسلوا أرجلكم " إلا أنَّ هذا التخريجَ أفسده بعضُهم بأنه يلزم منه الفصلُ بين المتعاطِفَيْنِ بجملةٍ غير اعتراضية لأنها مُنْشِئَةٌ حمكاً جديداً فليس فيها تأكيد للأول . وقال ابن عصفور- وقد ذكر الفصلَ بين المتعاطِفَيْن - : " وأقبحُ ما يكونُ ذلك بالجمل " فدلَّ قولُه على أنه لا يجوزُ تخريجُ الآية على ذلك . وقال أبو البقاء عكسَ هذا فقال : " وهو معطوفٌ على الوجوه " ثم قال " وذلك جائزٌ في العربية بلا خلاف " وجَعَلَ السنِّيَّة الواردة بغسل الرجلين مقويةً لهذا التخريج ، وليس بشيء ، فإنَّ لقائل أن يقول : يجوز أن يكون النصب على محلِّ المجرور وكان حكمُها المسحَ ولكن نُسِخ ذلك بالسنَّة وهو قولٌ مشهورٌ للعلماء . والثاني : أنه منصوبٌ عطفاً على محل المجرور قبله ، كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك .
وأمَّا قراءةُ الجر ففيها أربعةُ تخاريجَ ، أحدها : أنه منصوبٌ في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة ، وإنما خُفض على الجوار ، كقولهم : " هذا جُحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ " بجر " خرب " وكان مِنْ حَقِّه الرفعُ لأنه صفة في المعنى للجحر لصحة اتصافه به ، والضَّبُّ لا يوصف به ، وإنما جَرُّه على الجوار ، وهذه المسألة عند النحويين لها شرط وهو أن يُؤْمَنَ اللبس كما تقدم تمثيله ، بخلاف : " قام غلام زيد العاقل " إذا جعلت " العاقل " نعتاً للغلام امتنع جَرُّه على الجوار لأجل اللَّبْس ، وأنشد أيضاً قول الشاعر :
كأنما ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعينِها *** قُطْناً بمستحصِدِ الأوتارِ مَحْلوجِ
فأياكم وَحيَّةَ بَطْنِ وادٍ *** هموزٍ النابِ ليس لكم بِسِيِّ
كأن ثَبيراً في عرانينِ وَبْلِه *** كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
كأنَّ نَسْجَ العنكبوتِ المُرْمَل ***
بجر " محلوج " وهو صفةٌ ل " قطنا " المنصوبِ ، وبجر " هموز " وهو صفة ل " حية " المنصوبِ ، وبجر " المزمل " وهو صفة " كبير " لأنه بمعنى الملتف ، وبجرِّ " المُرْمل " وهو صفة " نَسْج " ، وإنما جُرَّت هذه لأجلِ المجاورِة ، وقرأ الأعمش : { إنَّ الله هو الرزاقُ ذو القوةِ المتينِ } بجر المتين مجاورَةً ل " القوة " وهو صفةٌ ل " الرزاق " ، وهذا وإن كان وارداً ، إلا ان التخريجَ عليه ضعيفٌ لضَعْفِ الجوارِ من حيث الجملةُ ، وأيضاً فإنَّ الخفضَ على الجوارِ إنما وَرَدَ في النعتِ لا في العطف ، وقد وَرَدَ في التوكيدِ قليلاً في ضرورة الشعر ، قال :
يا صاحِ بَلَّغ ذوي الزوجاتِ كلِّهمِ *** أَنْ ليسَ وَصْلٌ إذا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ
بجر " كلهم " وهو توكيدٌ ل " ذوي " المنصوب ، وإذا لم يَرِد إلا في النعت أو ما شَذَّ من غيره فلا يينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله تعالى ، وهذه المسألةُ قد أوضَحْتُها وذكرت شواهدها في " شرح التسهيل " وممن نَصَّ على ضعفِ تخريجِ الآية على الجوارمكي بن أبي طالب وغيرُه ، قال مكي : " وقال الأخفش وأبو عبيدة : " الخفضُ فيه على الجوار ، والمعنى للغسل " وهو بعيد لا يُحْمل القرآن عليه " وقال أبو البقاء " وهو الإِعرابُ الذي يقال : هو على الجوار ، وليس بممتنع أن يقع في القرآن لكثرته فقد جاء في القرآن والشعر ، فَمِنَ القرآن قولُه تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ }
[ الواقعة : 22 ] على قراءة مَنْ جَرَّ ، وهو معطوفٌ على قوله : { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } وهو مختلفُ المعنى ، إذ ليس المعنى : يَطُوف عليهم وِلْدان مخلَّدون بحورٍ عين . وقال النابغة :
لم يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غيرُ مُنْفَلِتٍ *** أو مُوْثَقٍ في حبال القومِ مَجْنُوبِ
والقوافي مجرورةٌ ، والجوارُ مشهورٌ عندهم في الإِعراب " ثم ذكر أشياء كثيرةً زعم أنها مقويةٌ لمُدَّعاه ، منها : قَلْبُ الإِعراب في الصفات كقوله تعالى :
{ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ هود : 84 ] واليومُ ليس بمحيطٍ ، وإنما المحيط [ هو ] العذابُ ، ومثلُه قولُه تعالى : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] و " عاصف " ليس في صفة اليوم بل من صفة الريحِ . ومنها : قَلْبُ بعض الحروف إلى بعض كقول عليه السلام : " ارجَعْنَ مَأْزوارتٍ غيرَ مأجورات " والأصل : " مَوْزورات " ، ولكنْ أُريد التواخي ، وكذلك قولُهم : " إنه ليأتينا بالغدايا والعَشايا " ويعني أنَّ الأصلَ : " بالغَدَاوى " لأنها من الغُدْوة ، ولكن لأجل " ياء " العشايا " جاءت بالياء دون الواو . ومنها : تأنيثُ المذكر كقوله تعالى : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] فحذف / التاءَ منْ " عشر " وهي مضافةٌ إلى الأمثال وهي مذكرةٌ ، ولكنْ لَمَّا جاورت الأمثالُ ضميرَ المؤنث أَجْرى عليها حكمَه ، وكذلك قوله :
لَمَّا أتى خبرُ الزبيرِ تواضعتْ *** سورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ
وقولهم : " ذَهَبَتْ بعضُ أصابعِه " يعني أنَّ " سور " مذكرةٌ " و " بعض " أيضاً كذلك ، ولكنْ لَمَّا جاورا المؤنثَ أُعْطيا حكَمه . ومنها : " قامت هند " لَمَّا لم يَفْصِلوا أتوا بالتاء ، ولمَّا فَصَلوا لم يأتوا بها ، ولا فرق إلا المجاورةُ وعدمُها : ومنها : استحسانُهم النصبَ في الاشتغال بعد جملةٍ فعلية في قولهم : " قام زيدٌ وعمراً كلمته " لمجاورةِ الفعل . ومنها : قَلْبُهم الواوَ المجاورَة للطرفِ همزةً نحو : " أوئل " بخلاف " طواويس " لبُعْدِها من مجاورةِ الطرف . قال : " وهذا موضعٌ يَحْتمل أن يكتب فيه أوراقٌ من الشواهدِ ، قد بَوَّب النحويون له باباً ورتَّبوا عليه مسائلَ وأصَّلوه بقوله : " هذا جُحْرِ ضبٍ خربٍ " حتى اختلفوا في جواز جر التثنية والجمع ، فأجاز الاتباعَ فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على المفرد المسموع ، ولو كان لا وجهَ له بحالٍ لاقتصروا فيه على المسموع فقط ، ويتأيد ما ذكرناه أنَّ الجرَّ في الآية قد أجيز غيره - وهو الرفع والنصب - والرفع والنصب غير قاطعين ولا ظاهرين على أنَّ حكمَ الرِجْلين المسحُ ، فكذلك الجرُّ يجب أن يكونَ كالنصب والرفعِ في الحكم دون الإِعراب " انتهى .
أمَّا قوله : " إنَّ { وَحُورٌ عِينٌ } من هذا الباب فليس بشيء ، لأنه : إمَّا [ أن ] يقدَّر عطفهُما على ما تقدم بتأويلٍ ذكره الناس كما سيتأتي أو بغير تأويل ، وإما أن لا يعطفَهما ، فإنْ عَطَفَهما على ما تقدم وجب الجر ، وإن لم يعطفهما لم يَجُز الجر ، وأمّا جَرُّهما على ما ذكره الناس فقيل : لعطفهما على المجرور بالباء قبلهما على تضمين الفعلِ المتقدم " يتلذذون ويَنْعَمون بأكواب وكذا وكذا " أولا يُضَمَّن الفعلُ شيئاً ويكون لطواف الوالدانِ بالحورِ العين على أهل الجنة لذاذة لهم بذلك ، والجواب إنما يكونُ حيث يستحقُ الاسمُ غيرَ الجر فيُجَرُّ لمجاورةِ ما قبله ، وهذا - كما ترى - قد صَرَّح هو به أنه معطوفٌ على " بأكواب " غايةُ ما في الباب أنه جَعَلَه مختلفَ المعنى ، يعنى أنه عنده لا يجوزُ عطفُهما على " بأكواب " إلا بمعنى آخرَ وهو تضمينُ الفعل ، وهذا لا يَقدَحُ في العطفية . وأما البيتُ فجرُّ " موثقٍ " ليس لجواره " ل " منقلتٍ " وإنما هو مراعات للمجرور ب " غير " ، لأنهم نَصُّوا على أنك إذا جئت بعد " غير " ومخفوضها بتابعٍ جاز أن يَتْبع لفظَ " غير " وأن يَتبع المضاف إليه ، وأنشدوا البيت ، ويروى : " لم يبق فيها طريدٌ غيرُ منفلتٍ " وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليست من المجاوره التي تؤثر في تغيير الإِعراب ، وقد تقدَّم أن النحويين خَصَّصوا ذلك بالنعت وأنه قد جاء في التوكيد ضرورةً .
التخريج الثاني : أنه معطوفٌ على " برؤوسكم " لفظاً ومعنى ، ثم نُسِخ ذلك بوجوبِ الغسل ، أو هو حكمٌ باقٍ ، وبه قال جماعة ، أو يُحمل مسحُ الأرجلِ على بعضِ الأهوال وهو لُبْسُ الخفِّ ، ويُعزى للشافعي . التخريج الثالث : انها جُرَّت مَنْبَهَةً على عدم الإِسراف باستعمال الماء لأنها مَظَنَّةٌ لصبِّ الماءِ كثيراً ، فَعَطَفَتْ على الممسوح ، والمرادُ غَسْلُها لِما تقدم ، وإليه ذَهَب الزمخشري . قال : " وقيل : " إلى الكعبين " فجيء بالغاية إماطة لظنَّ ظانَّ يَحْسَبُها ممسوحة ، لأنَّ المسح لم تُضْرب له غايةٌ في الشريعة " وكأنه لم ترتضِ هذا القول الدافعَ لهذا الوهمِ وهو كما قال . التخريج الرابع : أنها مجرورةٌ بحرفِ جرٍ مقدرٍ دَلَّ عليه المعنى ، ويتعلَّق هذا الحرفُ بفعلٍ محذوفٍ أيضاً يليق بالمحل ، فيُدَّعى حذفُ جملةٍ فعلية وحَذْفُ حرفِ جر ، قالوا : وتقديرُه : " وافعَلُوا بأرجلِكم غسلاً " .
قال أبو البقاء : " وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ الجرِ جائزٌ كقوله :
مشائيمُ ليسوا مُصْلِحينَ عشيرةً *** ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها
بدا ليَ أنِّي لستُ مُدْرِكَ ما مضى *** ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائِيا
فجُرَّ بتقديرِ الباء ، وليس بموضعِ ضرورةٍ ، وقد أَفْرَدْتُ لهذه المسألةِ كتاباً " قوله : " وإبقاء الجر " ليس على إطلاقهِ ، وإنما يَطَّرد منه مواضعُ نصَّ عليها أهلُ اللسانِ ليس هذا منها ، وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النحاة يسمى " العطف على التوهُّم " يعني كأنه توهَّم وجودَ الباء زائدةً في خبر " ليس " لأنها يكثُر زيادتُها ، ونَظَّروا ذلك بقوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] بجزم " أَكُنْ " عطفاً على " فأصَّدَّق " على توهُّم سقوط الفاء من " فأصَّدَّق " نَصَّ عليه سيبويه وغيرُه ، فظهرَ فساد هذا التخريج .
وأمَّا قراءةُ الرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي : وأرجلُكم مغسولةٌ أو ممسوحة على ما تقدم في حكمها . والكلام في قوله : " إلى الكعبين " كالكلام في " إلى المرفقين " . والكعبان فيهما قولان مشهوران ، أشهرهما : أنهما العَظْمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، في كل رِجْلٍ كعبان . والثاني : أنه العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شِراك النعل ، ومرادُ الآية هو الأول . والكعبة : كلُّ بيتٍ مربع ، وسيأتي بيانُه في موضعِه .
قوله : " منه " في محلِّ نصبٍ متعلِّقاً ب " امسحوا " و " مِنْ " فيها وجهان أظهرهما : أنها للتبعيض . والثاني : انها لا بتداء الغايةِ ، ولهذا لا يُشْترط عند هؤلاء أن يتعلق باليد غبارٌ . وقوله : " ليجعلَ " الكلامُ في هذه اللامِ كالكلامِ عليها في قوله :
{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] ، إلا أنَّ مَنْ جَعَلَ مفعولَ الإِرادة محذوفاً وعَلَّقَ به اللامَ مِنْ " ليجعلَ " زاد " مِنْ " في الإِيجاب في قوله " من حرج " ، وساغَ ذلك لأنه في حَيِّز النفي وإن لم يكن النفيُ واقعاً على فعل الحرج . و " من حرج " مفعول " ليجعل " والجعلُ يحتمل أنه بمعنى الإِيجاد والخَلْق فيتعدى لواحد وهو " من حرج " و " مِنْ " مزيدةٌ فيه ، كما تقدم ، ويتعلق عليكم حينئذ بالجعل / ويجوز أن يتعلق ب " حرج " فإن قيل : هو مصدرٌ ، والمصدرُ لا يتقدَّم معمولُه عليه . قيل : ذلك في المصدر المؤول بحرفٍ مصدري وفعل لأنه بمعنى الموصول ، وهذا ليس مؤولاً بحرف مصدري ، ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيكون " عليكم " هو المفعولَ الثاني .
قوله : { عَلَيْكُم } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه متعلق ب " يتم " . والثاني : " أنه متعلقٌ ب " نعمته " والثالث : أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " نعمته " ذكر هذين الوجهين الأخيرين أبو البقاء وهذه الآيةُ بخلاف التي قبلَها في قوله :
{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] حيث امتنع تعلُّقُ الجارِّ بالنعمةِ لتقدُّم معمول المصدر عليه كما تقدَّم بيانه . قال الزمخشري " وقرئ فَأَطْهِروا أي : أَطْهروا أبدانَكم ، وكذلك : " ليُطْهِركم " يعين أنه قُرِئ : " أَطِهِروا " أمراً من أَطْهَر رباعياً كَأَكْرم ، ونسب الناسُ القراءة الثانية - أعني قوله " لِيُطهِرَكم " لسعيد بن المسيب .