قوله سبحانه وتعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } الآية اعلم أنَّ الله تعالى افتتح السورة بقوله : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } [ المائدة : 1 ] . فطلب الوَفَاءَ بعهد العبوديَّة ، فكأنَّ العبد قال : يا إلهي ، العهد{[10956]} نوعان : عهد الرُّبوبيّة منك ، وعهد العبوديّة منا ، فأنتَ أولى بأن تقدم الوفاء{[10957]} بعهد الرُّبوبية والكرم ، [ نعم أنا أوفي بعهد الربوبية والكرم ]{[10958]} ومعلوم أنَّ منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ، ولذات المنكح ، فبيَّن تعالى ما يحلُّ وما يحرم من المطاعم والمناكح ، ولما كانت الحَاجَةُ [ إلى ] المطعوم فوق الحاجة إلى المَنْكُوحِ قدم بيان المطعوم على المنكوح ، فلما تم هذا البيان فكأنه قال : قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب من منافع الدُّنيا ، فاشتغل أنت في الدُّنيا بالوفاء بعهد العبودية ، فلما كان أعظم الطَّاعات بعد الإيمان الصَّلاة ، ولا يمكن إقامتها إلا بالطَّهارة لا جَرَمَ بدأ اللَّهُ تعالى بذكر شرائط الوضوء .
قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } .
قالوا : تقديره : إذا أردتم القيامَ كقوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ } [ النحل : 98 ] .
وهذا من إقامَةِ المُسَبَّب مقام{[10959]} السبب ، وذلك أنَّ القيام متسبِّبٌ عن الإرادة ، والإرادة سَبَبُهُ .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[10960]} : فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل ؟ قلت : لأنَّ الفعل يوجد بقدرة الفاعِلِ عليه ، وإرادته له ، وهي قصده إليه وميله ، وخلوص داعيته ، فكما عبر عن القدرة على الفعل [ بالفعل ]{[10961]} في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أي : لا يقدران على الطَّيران والإبصار ؛ ومنه قوله تعالى : { نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] أي : قادرين على الإعادة ، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، وذلك لأنَّ [ الفعل ]{[10962]} مُسَبَّب عن القدرة ، فأقيم [ المسبب ]{[10963]} مقام السبب للمُلاَبَسَةِ بينهما ، ولإيجاز الكلام .
وقيل : تقديره : إذا قصدتم الصلاة ؛ لأنَّ من تَوَجَّه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له ، فعَبَّر بالقيام عن القصد .
والجمهورُ قدروا حالاً محذوفة من فاعل " قُمْتُمْ " ، أي : إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثين ؛ إذ لا وضوء على غير المحدث ، وإن كان قال به جماعةٌ قالوا : وَيَدُلُّ على هذه الحال المحذوفة مقابلتها بقوله : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } ، فكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا كذا ، وامْسَحُوا كذا ، وإن كنتم محدثين [ الحدث الأكبر ]{[10964]} فاغْسِلُوا الجسد كُلَّهُ .
قال شهابُ الدِّين{[10965]} : فيه نظر .
فصل هل الأمر بالوضوء تكليف مستقل ؟
قال قوم{[10966]} : الأمر بالوضوء ليس تكليفاً مستقلاً بنفسه ، لأنَّ قوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ } جملة شرطية ، الشَّرط فيها القيام إلى الصلاة ، والجزاء الأمر بالغسل ، والمعلَّق على الشيء بحرف الشرط [ يعدم عند ]{[10967]} عدم الشَّرط ، فاقتضى أن الأمر بالوضوء تبع{[10968]} للأمر بالصَّلاة .
وقال آخرون : المقصُودُ من الوضوء الطَّهارة ، والطَّهارة مقصودة بذاتها لقوله تعالى في آخر الآية : { وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : [ بُنِيَ ]{[10969]} الدِّينُ على النَّظَافَةِ " {[10970]} ، وقال : " أمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أثَرِ الوُضُوء يَوْمَ القِيَامَةِ " {[10971]} .
والأخبار الواردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب كثيرة .
قال دَاوُد{[10972]} : يجبُ الوضوء لكلِّ صلاة لظاهر الآية لأن قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } يقتضي العموم ، [ وقال أكثر الفقهاء{[10973]} : لا يجب ] .
قال الفقهاء{[10974]} كلمة " إذَا " لا تفيد العموم ؛ لأنَّهُ لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت مرة طُلِّقَتْ ، فلو{[10975]} دخلت ثانية لم تطلق [ ثانياً ]{[10976]} وإذا قال السيِّد لعبده : إذا دَخَلْتَ السُّوقَ فادْخُلْ على فلان ، وقل له كذا وكذا ، فهذا لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة .
ويمكن أن يجاب بأنَّ التَّكاليف الواردة في القرآن مبناها على التَّكرير وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبنى الأمر فيها على التكرير ، وأما الفقهاء فاستدلوا على صحة قولهم بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح صلّى صلوات كلّها بوضوء واحد ، وجمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد{[10977]} .
وأجابَ داودُ بأنَّ خبر الواحد لا يَنْسَخُ القرآن ، وقال قومٌ{[10978]} : هو أمر على طريق النّدب ، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدِّدَ الطَّهَارَة وإن كان على طهرٍ لما روى عبد الله بن حنظلة بن عامر أنَّ رسُولَ الله - صلّى الله عليه وعلى آله وسلم - أمر بالوضوء عند كلِّ صلاة طاهراً ، أو غير طاهر ، فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسّواك عند كل صلاة ، وقال قوم{[10979]} : هو إعْلام من الله تعالى ورسوله أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصَّلاة دون غيرها من الأعمال ، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بدا لَهُ من الأفعال غير الصلاة ، كما روى ابن عبّاسِ{[10980]} " قال : كنا عند النّبيِّ صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط ، فأتي بطعام فقيل : " ألا تتوضأ ، فقال : لَم أصَلِّ فأتَوضَّأ " {[10981]} .
قوله سبحانه : { فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } .
وحدُّ الوجه من [ منابت الشَّعر ]{[10982]} إلى منتهى الذقنِ طولاً ، وما بين الأذنين عرضاً يجب غسل جميعه في الوُضوء ، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين ، وأهداب العينين ، والشّارب ، والعذارِ ، والعَنْفَقَةِ وإن كان كثيفة .
وأما العَارِضُ واللِّحية وإن كانت كثيفة لا ترى البَشْرَة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوُضُوءِ ، بل يجبُ غسل ظاهرها ، وهل يجبُ إمرار الماء لما على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذَّقْنِ ؟ .
فقال أبُو حنيفة{[10983]} : لا يجب ؛ لأنَّ الشَّعر النازل عن حدِّ الرَّأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المَسْحِ ؛ كذلك النازِل عن حدِّ الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله ، وقال غيره : يجب إمرار الماء على ظاهره ؛ لأنَّ الله تعالى أمَرَ بغسل الوَجْهِ ، والوجهُ ما يقع به المواجهة ، قال ابنُ عباسٍ{[10984]} : يجبُ غسل داخل العينين ؛ لأنَّهُ من الوجه ، وقال غيره{[10985]} : لا يجبُ للحرج .
والمضمضة والاستنشاق يجبان في الوضوء .
والغسلُ عند أحمد وإسحاق وعند الشَّافِعِيِّ لا يجبان بناء على أنهما من الباطِنِ ، ولو نبت للمرأة لحية ؟ وجب إيصال الماء إلى جلدَةِ الوجه ، وإن كانت كثيفة .
قوله [ سبحانه ]{[10986]} : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } .
أحدهما : أنَّها على بابها من انتهاء [ الغاية ]{[10987]} ، وفيها حينئذٍ خلاف .
فقائل : إن ما بعدها لا يدخُلُ فيما قبلها .
وقائلٌ : لا تعرض لها في دخول ولا عدمه ، وإنَّما [ يدور ]{[10988]} الدخول والخروج مع الدَّليل وعدمه .
وقائل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها [ دخل ]{[10989]} في الحكم ، وإلاَّ فلا ، ويُعْزَى لأبي العبَّاس .
وقائل : إن كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها لم يدخل ، وإن كان من جنسه ، فيحتمل الدخول وعدمه .
وأوَّلُ هذه الأقوال هو الأصَحُّ عند النُّحاة .
قال بعضهم : وذلك أنَّا حيث وجدنا قرينة مع " إلى " ، فإن تلك القرينة تقتضي الإخراج مما قبلها ، فإذا ورد كلام مجرد عن القرائن ، فينبغي أن يحمل على الأمر الفاشي الكثير ، وهو الإخراج ، وفرق هذا القائل بين " إلى " و " حتّى " فجعل " حتى " تقتضي الإدخال ، و " إلى " تقتضي الإخراج بما تقدَّم من الدَّليل .
[ وهذه الأقوال دلائلها في غير هذا الكتاب ، وقد أوضحتها في كتابي " شرح التسهيل " ]{[10990]} .
والوجه الثاني : أنَّهَا بمعنى " مع " أي : مع المرافِقِ ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في ذلك عند قوله : " إلى أمْوالِكُمْ " .
و " المرافِق " جمع " مَرْفِق " بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة ، وهو مِفْصَلٌ بين العَضُدِ والمِعْصَمِ .
ذهب أكثرُ العلماء{[10991]} إلى وجوب غسلِ اليديْنِ مع المرفقين والرجلين مع الكعبين . وقال مالكٌ والشعبيُّ ومُحمَّد بنُ جرير وزفَرُ : لا يجب غسلُ المرفقين والكعبين في اليد والرجّل ؛ لأن حرف " إلى " للغاية ، والحدّ لا يدخل في المحدود ، وما يكون غاية للحكم يكون خارجاً عنه كقوله تعالى : { أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] .
والجوابُ : أنَّ حدَّ الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود بمقطع محسوس ، فهاهنا يكون الحد خارجاً عن المحدود كقوله : { أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] فإنَّ النَّهار مُنفَصِلٌ عن الليل انفصالاً محسوساً ، وقد لا يكون منفصلاً كقولك : " بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف " ، فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس فإذا كان كذلك فامتياز المرفق عن السَّاعد ليس له مفصل معين ؛ فوجب غسله .
وثانياً : سلّمنا أنّ المرفق لا يجب غسله ، إلاَّ أنَّ المرفقَ اسم لما جاوز طرف العظم ؛ لأنَّهُ هو الذي يرتفق به أي يتَّكِئُ عليه ، ولا نِزَاع أنَّ ما وراء طرف العظم لا يجب غسله ، قاله الزجاج{[10992]} .
فصل في غسل ما أمكن مما هو دون المرفق
فإن قطع ما دون المرفق ؛ وجب غسل ما بقي ؛ لأنَّ محل التكليف باقٍ وإن كان قطع مما فوق المرفق لم يجب ؛ لأنَّ محلّ التّكليف زال ، وإن كان قطع من المرفق ؛ فقال الشافعي : يجب إمساسُ [ الماء عند ملتقى العظمين ؛ وجب مساس ]{[10993]} لطرف العظم ؛ لأنَّ غسل المرفق كان واجباً ، وهو عبارة عن ملتقى العَظْميْنِ ، فوجب إمساسُ الماء عند ملتقى العَظْمَيْنِ ، وجب إمْسَاس لطرف العظم الباقي لا محالة .
قوله عزَّ وعلا{[10994]} : { وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ } .
في هذه " الباء " ثلاثةُ أوْجُه :
أحدها : أنَّها للإلصاق ، أي : ألصقوا المسح برؤوسكم .
قال الزمخشريُّ{[10995]} : المرادُ إلصاق المَسْحِ بالرَّأسِ ، وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما مُلْصق المسح برأسه .
قال أبو حيَّان{[10996]} : وليس كما ذكر ، يعني أنَّهُ لا يطلق على [ الماسح ]{[10997]} بعض رأسه ، أنَّهُ ملصق المسح برأسه ، وهذا مُشَاحَّةٌ لا طَائِلَ تحتها{[10998]} .
والثاني : أنها{[10999]} زائدة كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] .
. . . *** لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ{[11000]}
وهو ظاهرُ كلام سيبويْهِ{[11001]} ، فإنَّهُ حكى : خشَّنت صدره وبصدره ، ومسحت رأسه وبرأسه ، والمعنى واحد .
وقال الفرَّاءُ{[11002]} : تقول العربُ : خذ الخِطَامَ ، و [ خذ ] بالخطام . وَهزَّهُ وَهزَّ به ، وخذ برأسه ورأسه .
والثالث : أنَّها للتبعيضِ ، كقوله : [ الطويل ]
شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ *** . . . {[11003]}
وهذا قول ضعيفٌ ، وتقدَّم الكلامُ في ذلك في أول البسملة .
فصل في ذكر الخلاف في القدر الواجب من مسح الرأس
اختلف العلماء{[11004]} في قدر الواجب من مَسح الرَّأسِ ، فقال مالكٌ وأحْمَدُ : يجب مسح جميع [ الرأس كما يجب مسح جميع ]{[11005]} الوجه في التيمم وقال أبو حنيفة : يجب مسح ربع الرَّأس .
وقال الشافعيُّ : قدر ما يطلق عليه اسم المسح ، واحتج الشافعيُّ بأنَّهُ لو قال مسحت بالمنديلِ ، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بكلِّه ، ولو قال : مسحتُ يدي بالمنديلِ ، فهذا يكفي في صدقه مسح اليَدِ بجزء من أجْزَاءِ ذلك المنديل .
فقوله [ سبحانه ] : { وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ } يكفي في العملِ به مَسْحُ اليد بجزء من أجْزَاء الرَّأسِ وذلك الجزء غير مقدّر في الآية ، فإن قدَّرْناهُ بمقدار معين لم يتعين ذلك المقدار إلا بدليل غير الآية ، فيلْزَمُ صيرورة الآية مجملة ، وهو خلاف الأصل ، وعلى ما قلناه تكونُ الآية مبينةً مفيدة{[11006]} ، فهو أولى ، ويؤيِّده ما روي عن المغيرة بن شُعْبَةَ " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخُفَّيْه " {[11007]} .
وأجاز أحمد المسح على العمامَةِ{[11008]} ، ووافقه الأوزاعيُّ [ والنوويُّ ]{[11009]} والثوريُّ ، ومنعه غيره .
وحمل الحديث على أنَّ فرض المسح سقط عنه بِمَسْحِ النَّاصية .
قال القرطُبِيُّ{[11010]} : لو غسل المتوضِّئ رَأسَهُ بدل المسح ، قال ابن العربيِّ : لا نعلم خلافاً في أن ذلك يجزئه إلا ما نُقِلَ عن بعضهم{[11011]} أنَّ ذلك لا يجزئ . وهذا مَذهَبُ أهل الظَّاهر .
فإن قيل : هذه زيادة خرجت عن اللَّفظ المتعبَّد به .
قلنا : ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحلّ ، وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح .
قوله عزَّ وجلَّ : { وَأَرْجُلَكُمْ } .
قرأ نافعٌ ، وابن عامرٍ ، والكسائيُّ ، وحفص عن عاصم{[11012]} " أرْجُلَكُمْ " نَصْباً ، وباقي السبعة " وَأرْجُلِكُمْ " جَرًّا .
والحسن بن أبي الحسن{[11013]} " وَأرْجُلُكُمْ " رفعاً .
فأمَّا قراءة النَّصْبِ ففيها تخريجان :
أحدهما : أنها معطوفة على " أيْدِيكُم " ، فإن حكمها الغُسْل كالأوجه والأيدي . كأنه قيل : واغسلوا أرجلكم ، إلا أن هذا التَّخريج أفسده بعضهم ؛ بأنَّهُ{[11014]} يلزم منه الفصل بين المتعاطفين بجملة [ غير ]{[11015]} اعتراضية ؛ لأنها منشئة حكماً جديداً ، فليس [ فيها ]{[11016]} تأكيد للأول{[11017]} .
وقال ابنُ عُصْفُورٍ - وقد ذكر الفصل بين المتعاطفين - : وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، فدل [ قوله ]{[11018]} على أنه لا يجوز تخريج الآية على ذلك .
وقال أبو البقاء{[11019]} عكس هذا ، فقال : هو مَعْطُوفٌ على الوجوه ، ثم قال : وذلك جائز في العربيّة بلا خلاف .
وجعل السنّة الواردة بغسل الرِّجلين مقوية لهذا التخريج ، فليس بشيء .
فإنَّ لقائلٍ أن يقول : يجوز أن يكون النَّصب على محل المجرور [ وكان حكمها المسح ، ولكنه نسخ ذلك بالسُّنَّة ، وهو قول مشهور العلماء .
والثاني : أنه منصوب عطفاً على قبله ]{[11020]} كما تقدم تقريره قبل ذلك .
وأمَّا قراءة الجرِّ ففيها أربعة تخاريج :
أحدها : أنها منصوب في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة ، وإنَّمَا خفض{[11021]} على الجوار ، كقولهم : هذا جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ ، بجر " خَربٍ " ، وكان حقه الرفع ؛ لأنَّهُ صفة في المعنى ل " الجحر " لِصحة اتصافه به ، والضَّب لا يوصف به ، وإنما جره على الجوارِ .
وهذه المسألة عند النَّحويين لها شرط ، وهو أن يُؤمَنَ اللَّبْسُ كما تقدم تمثيله ، بخلاف : قام غلامُ زَيْدٍ العاقِلُ ، إذا جعلت العاقل نعتاً للغلام ، امتنع جره على الجوارِ لأجل اللَّبْسِ .
وأنشدوا - أيضاً - قول الشاعر : [ البسيط ]
كأنَّمَا ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعْيُنِهَا{[11022]} *** قُطْناً بِمُسْتَحْصِدِ الأوْتَارِ مَحْلُوج{[11023]}
فإيَّاكُمْ وَحَيَّةَ بطنِ وَادٍ *** هَمُوزِ النَّابِ لَيْسَ لَكُمْ بِسِيِّ{[11024]}
كَأنَّ ثَبِيراً فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ *** كَبِيرُ أنَاسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ{[11025]}
كَأنَّ نَسْجَ العُنْكَبُوتِ المُرْمَلِ{[11026]} *** . . .
بجر " مَحْلُوجٍ " وهو صفة ل " قطناً " المنصوب وبجر " هموز " ، وهو صفة ل " حية " المنصوب ، وبجر " المُزَمِّل " وهو صفة " كبير " ؛ لأنَّه بمعنى المُلْتَف ، وبجر " المُرْمَل " وهو صفة " نسج " ، وإنما جرت هذه لأجل المُجَاورة .
وقرأ{[11027]} الأعمش : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } بجر " المتين " مجاورة ل " القوة " وهو صفة ل " الرزاق " ، وهذا وإن كان وارداً إلا أن التخريج عليه ضعيفٌ لضعف الجوار من حيثُ الجملة .
وأيضاً فإن الخفض{[11028]} على الجوار إنَّما وَرَدَ في النعت لا في العطف ، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشِّعْر .
قال{[11029]} : [ البسيط ]
يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ{[11030]} كلِّهم *** أنْ لَيْسَ وَصْلٌ إذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَب{[11031]}
بجر " كلهم " وهو توكيدٌ ل " ذوي " المنصوب ، وإذا لم يردا إلاَّ في النَّعت ، وما شذَّ من غيره ، فلا ينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله [ تعالى ، وهذا المسألة قد أوضحتها وذكرت شواهدها في " شرح التسهيل " ]{[11032]} ، وممن نص على ضعف تخريج الآية على الجوار مكي ابن أبي طالب وغيره .
قال مكي{[11033]} ، وقال الأخفشُ{[11034]} ، وأبو عُبيدةَ{[11035]} : الخفضُ فيه على الجوارِ ، والمعنى للغُسْلِ ، وهو بعيد لا يُحْمَلُ القرآن عليه .
وقال أبُو البقَاءِ{[11036]} : وهو الإعراب الذي يقال : هو على الجوار ، وليس بممتنع أنْ يقع في القرآن لكثرته ، فقد جاء في القرآن والشعر .
فمن القرآن قوله تعالى : { وحُورٍ عِينٍ } [ الواقعة : 22 ] على قراءة من جَرَّ{[11037]} وهو معطوف على قوله : { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } [ الواقعة : 18 ] وهو مختلف المعنى ؛ إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مُخَلَّدون بحور عين .
وقال النَّابِغَةُ : [ البسيط ]
لَمْ يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ *** أوْ مُوثقٍ في حِبَالِ الْقَوْم{[11038]} مَجْنُوبِ{[11039]} {[11040]}
والقوافي مجرورة ، والجِوَارُ مشهور عندهم في الإعراب [ ثم ذكر أشياء كثيرة زعم أنها مقوية لمدّعاه منها قلب الإعراب ]{[11041]} في الصفات كقوله تعالى : { عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } [ هود : 84 ] ، واليوم ليس بمحيطٍ ، وإنَّما المحيط هو العذابُ .
ومثله قوله تعالى : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] ، وعاصف ليس من صفة اليوم بل من صفة الريح .
ومنها قلب بعض الحُرُوفِ إلى بعض كقوله عليه السلام : " ارْجعْنَ مأزُورَاتٍ غَيْرَ مأجُورَاتٍ " {[11042]} ، والأصل : مَوْزُورَات ، ولكن أريد التَّوَاخي .
وكذلك قولهم : [ إنَّهُ ]{[11043]} ليأتينا بالغدايا والعَشَايا ، يعني أن الأصل بالغَدَاوى ؛ لأنَّها من الغُدْوَة ، ولكن لأجل ياء العشايا جاءت بالياء دون الواو .
ومنها تأنِيثُ المذكَّرِ كقوله تعالى : { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] ، فحذف التاء من " عشر " ، وهي مضافة إلى " الأمْثَالِ " ، وهي مذكرة ، ولكن لما جاورت الأمثال ضمير المؤنَّثِ أجري عليها حكمه ، وكذلك قوله : [ الكامل ]
لمَّا أتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تواضَعت{[11044]} *** سُورُ المدينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ{[11045]}
وقولهم : ذهبت بَعْضُ أصابعه يعني أن " سور " مذكرة ، " وبعض " - أيضاً - كذلك ، ولكن لما جَاوَرَوا المؤنث أعْطِيَا حكمه .
ومنها : قامت هندُ لما لم يفصلوا ، أتَوْا بالتَّاءِ ، ولمَّا فصلوا لم يأتوا بها ، ولا فَرْقَ إلا المجاورة وعدمها .
[ ومنها : ]{[11046]} استحسانهم النَّصْبَ في الاشتغال بعد جملة فعليَّةٍ ، في قولهم : قام زيد وعمراً كلمته لمجاورة الفعل .
ومنها : قلبهم الواو المجاورة للظّرف همزة نحو : أوائل بخلاف طواويس لبعدها من مجاورة الظرف .
قال : وهذا مَوضِعٌ يحتمل أن يكتب فيه أوراق من الشواهد ، قد بوّب له النحويون له [ باباً ]{[11047]} ورتَّبُوا عليه مسائل ، وأصَّلُوه بقولهم : هذا جُحْر ضبٍّ خَرِبٍ .
[ حتى ]{[11048]} اختلفوا في جواز جرِّ التثنية والجمع ، فأجاز الإتباع فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على المُفْرد المَسْمُوعِ ، ولو كان لا وجه له بحال لاقتصروا فيه على المسموع فقطْ ، ويتأيَّدُ ما ذكرناه أن الجرَّ في الآية قد أجيز غيره وهو الرّفع والنّصب ، والرّفع والنّصب غير قاطعين ولا ظاهرين ، على أن حكم الرِّجْلين المسح ، فكذلك الجرّ يجب أن يكون كالنَّصْبِ والرفع في الحكم دون الإعراب . انتهى .
قال شهاب الدين : أمَّا قوله : إنّ { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] من هذا الباب فليس بشيء ؛ لأنَّهُ إمَّا أنْ يُقَدَّرَ عطفهما على ما [ تقدَّم بتأويل ]{[11049]} ذكره الناس كما سيأتي ، أو بغير تأويل .
وإما ألاَّ يعطفهما ، [ فإن عطفهما على ما تقدم ، وجب الجر ، وإن لم يعطفهما لم يجب الجر ، وأمّا جرهما على ما ذكره الناس فقيل : لعطفهما ]{[11050]} على المجرور بالياء قبلهما على تضمين الفعل المتقدم " يتلذّذون وينعمون بأكواب وكذا وكذا " .
أو لا يُضَمَّن الفعل شيئاً ، ويكون لطواف الولدان بالحور العين على أهل الجنَّةِ لَذَاذَةٌ لهم بذلك ، والجوَارُ{[11051]} إنَّمَا يكون حيث يستحقُّ الاسم غير الجر ، فيجر لمجاورة ما قبله ، وهذا كما ترى قد صَرَّح هو أنَّهُ معطوف على " بأكواب " .
غاية{[11052]} ما في الباب أنَّه جعله مختلف المعنى ، يعني أن عنده لا يجوز عطفهما على " بأكْوَابٍ " إلا بمعنى آخر ، وهو تضمين الفعل ، وهذا لا يقدحُ في العطفية .
وأمَّا البيتُ فجَرُّ " موثّق " ليس لجواره ل " منفلت " {[11053]} وإنَّما هو مراعاة للمجرور ب " غير " ؛ لأنَّهم نصوا على أنَّك إذا جئت بعد " غير " ومخفوضها يتابع جاز أن يتبع لفظ " غير " ، وأن يتبع المضاف إليه ، وأنشدوا البيت ، ويروى : [ البسيط ]
لَمْ يَبْقَ [ فيها طَرِيدٌ ]{[11054]} غَيْرُ مُنْفَلِتٍ *** أوْ موثقٍ في حِبَالِ الْقَوْمِ مَجْنُوبِ{[11055]}
وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليست من المجاورة التي توثر في التغيير ، أي تغيير الإعراب ، وقد تقدَّم أنَّ النَّحويين خصَّصوا ذلك بالنَّعت ، وأنَّهُ قد جاء في التوكيد ضرورة .
والتَّخْرِيج الثاني : أنَّهُ معطوف على " بِرءُوسِكُم " لفظاً ومعنى ، ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل ، وهو حكم باقٍ ، وبه قال جماعة ، أو يحمل مسح الأرْجُلِ على بعض الأحوال ، وهو لُبْسُ الخُفِّ ، ويُعْزَى للشافعيِّ .
التخريج الثالث : أنَّها جُرَّتْ مَنْبَهَةً على عدم الإسراف باستعمال الماء ؛ لأنَّها مظنَّةٌ لصبِّ الماء [ كثيراً ]{[11056]} ، فعطفت على الممسوح ، والمرادُ غسلها كما تقدّم .
وإليه ذهب الزمخشريُّ{[11057]} ، قال : " وقيل : إِلَى الْكَعْبَينِ " فجيء بالغاية إمَاطَةً لظن ظَانٍّ يحسبهما مَمْسُوحَةً ؛ لأنَّ المسح لم تُضْرَبْ له غاية في الشريعة .
وكأنَّهُ لم يَرْتَض هذا القول الدافع لهذا الوَهْمِ ، وهو كما قال .
التخريج الرابع : أنها{[11058]} مجرورة بحرف جر مقدر ، دَلَّ عليه المعنى ، ويتعلّق هذا الحرف بفعل محذوفٍ أيضاً يليق بالمحلّ ، فيُدَّعى حذف جملةٍ فعليةٍ وحَذْفُ حرف جر ، قالوا : وتقديره : " وافعلوا بأرْجُلِكُم غَسْلاً " .
قال أبُو البَقَاء{[11059]} : وحَذْفُ حرف الجَرِّ ، وإبقاء الجرّ جائزٌ ؛ كقوله : [ الطويل ]
مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً *** وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا{[11060]}
بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى *** ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا{[11061]}
فجر بتقدير الباء ، وليس بموضع ضرورة .
قوله : وإبقاء [ الجرّ ]{[11062]} ليس على إطلاقه ، وإنَّما يطردُ منه مواضع نصَّ عليها أهل اللِّسَانِ ليس هذا منها .
وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النُّحَاةِ يسمَّى العطف على التوهُّم{[11063]} يعني كأنَّهُ توهم وجود الباء زائدة في خبر " لَيْسَ " ، لأنها يكثر زيادتها ، ونظَّروا ذلك بقوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } [ المنافقون : 10 ] بجزْمِ " أكن " عَطْفاً على " فأصَّدقَ " على توهُّم سقوط الفاء من " فأصَدَّق " نص عليه سيبويه وغيره ، فظهر فسادُ هذا التخريج .
وأما قراءة الرَّفْع فعلى الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : وأرْجُلكم مغسولة ، أو ممسوحة على ما تقدَّم في حكمها [ والكلام ]{[11064]} في قوله " إلى الكَعْبَيْنِ " كالكلام في " إلى المرفقين " .
" والكَعْبَان " فيهما قولان [ مشهوران ]{[11065]} .
أشهرهما{[11066]} : أنَّهُما العظمان الناتئان عند مفصل السَّاق والقَدمِ في كل رجل كعبان .
والثاني : أنَّهُ العظم النّاتئ في وجه القَدَمِ ، حيث يجتمع شراك النَّعْلِ ، ومراد الآية هو الأوَّل .
والكَعْبَةُ ، كُلُّ بيت مُرَبَّع ، وسيأتي [ بيانه ] في موضعه إن شاء الله - تعالى -{[11067]} .
قد تقدَّم كلام النُّحاة في الآية .
وقال المُفَسِّرون{[11068]} : من قرأ بالنصْب على تقدير : " فاغْسِلُوا وجوهكم ، وأيديكم ، واغسلوا أرجلكم " ومن قرأ بالجرِّ فذهب بعضهم إلى أنَّه يمسح على الرجلين .
روي عن ابن عباس أنَّه قال : " الوُضُوء غَسْلتَانِ وَمَسْحَتَانِ " {[11069]} ، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادةَ .
قال الشَّعبيُّ : نزل جبريل بالمسحِ ، وقال : ألا ترى التيمُّمَ ما كان غسلاً ، ويلقى ما كان مسحاً{[11070]} .
وقال مُحَمَّدُ بْنُ جرير{[11071]} : يتخيرُ المتوضئ بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين ، وذهب جماعةُ من أهل العلم من الصحابَةِ والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين ، وقالوا : خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم كقوله : { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ هود : 26 ] ، فالأليم صفة العذاب ، ولكنَّه جرّ للمجاورة كقولهم : " جُحْرُ ضَبٍّ خَرِب " . ويدلُّ على وجوب غسل الرِّجلين ما روى عبد الله بن عمرو ، قال : " تخلفَ عنا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في سفر سافرناهُ ، فأدركنا وقد راهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضّأ ، فجعلنا نمسحُ على أرْجُلِنَا ، فَنَادَانَا بأعلى صوته : " وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّار " {[11072]} .
والأحاديثُ الواردة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كثيرة ، وكلهم وصفوا غسل الرجلين .
وقال بعضهم{[11073]} : أراد بقوله " وأرْجلكُم " : المسح على الخفين ، كما رُوي أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - " كَانَ إذا رَكَع وضَعَ يَدَهُ على رُكْبَتَيْهِ " ، وليس المرادُ منه أنَّهُ لم يكن بينهما حائل ، ويقالُ : قبَّلَ فلان رأس الأمير ويده ، وإنْ كانت العمامة على رأسِهِ ويده في كمه فالواجب في غسل أعضاء الوضوء هذه الأربعة .
اختلفوا في وجوب النية فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العباداتِ ، ولقوله عليه السلام : " إنَّما الأعْمَالُ بالنيَّات " وذهب النووي وأصحاب الرّأي إلى عدم وجوبها .
واختلَفُوا في وجوب الترتيب{[11074]} وهو أن يغسل أعضاءه على التَّرْتيب المذكور في الآية فذهب مالكٌ والشافعيُّ ، وأحمد وإسحاق إلى وجوبه ، ويروى ذلك عن أبي هريرة ، واحتجُّوا{[11075]} بقول الله{[11076]} تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } فاقتضى وجوب الابتداء بغسل الوجه ؛ لأنَّ الفاء للتّعقيب ، وإذا أوجب الترتيب في هذا العضو ؛ وجب في غيره ، إذ لا قائل بالفرق .
[ قالوا : فاء التعقيب إنما دخلت ]{[11077]} في جملة هذه الأعمال ، فجرى [ الكلام ]{[11078]} مجرى قوله : إذا قُمتمْ إلى الصلاةِ ، فأتوا بمجموع هذه الأفعال .
قلنا : فاء التّعقيب إنّما دخلت على الوجه لالتصاقها بذكر الوجه ، وبواسطة دخولها على الوجْهِ ، دخلت على سائر الأفعالِ ، فكان دخولها على الوجه أصل ، ودخولها على المجموع تبع لدخولها على غسل الوجه ، فنحنُ اعتبرنا دلالة الفاء في الأصْلِ ، واعتبرتموها في التبع ، فكان قولنا أولى{[11079]} .
وأيضاً فقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ابْدَءوا بما بَدَأ اللَّهُ بِه " {[11080]} يقتضي العموم ، وأيضاً فإهمال الترتيب في الكلام مستقبح فيجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ، وكونه تعالى أدرجَ ممسوحاً بين مغسولَيْن ، وقطع النّظير عن النظير ، يدلُّ على أنَّ التَّرتيب مراد .
وأيضاً فإن وجوبَ الوضُوءِ غير معقول المعنى ؛ لأنَّ الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ، وأعضاء المحدث طَاهِرَةٌ ، لأنَّ الميت لا ينجس حيّاً ولا ميتاً ، وتطهير الطَّاهر محالٌ .
وأقيم التيمم مقام الوضوء وهو ضدّ النظافة والوضاءة ، وأقيم المَسْح على الخفين مقام الغسل ، وذلك لا يفيدُ في نفس العُضْوِ نظافة ألْبَتَّةَ .
والماء [ العَفِن ]{[11081]} الكَدِرُ يفيد الطَّهارة ، وماء{[11082]} الورد لا يفيدها ، وإذا كان غير معقول المعنى وجب الاعتماد فيه على مورد النَّصِّ لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور إما لمحض التعبد ، أو لحكمة خفية لا نعرفها ، ولهذا السّبب أوجبنا الترتيب في أركان الصلاة ، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة إلى أن الترتيب ليس بواجب ، قالوا : لأنَّ ذلك زيادة على النَّصِّ فلا يجوز ؛ لأنَّه نَسخٌ . والواوات المذكورة [ في الآية للجمع ]{[11083]} لا للترتيب كالواوات في قوله : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ } الآية [ التوبة : 60 ] .
واتفقوا{[11084]} على أنه لا يجب الترتيب في صَرْفِ الصَّدقاتِ ، فكذلك هنا{[11085]} .
وأجيبوا بأن قولهم : الزيادة على النّص نسخٌ ، ممنوع على قيد في علم الأصول .
وأمَّا الصَّدقات : فلم يرو{[11086]} عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ راعى التّرتيب فيها .
وفي الوُضُوءِ لم ينقل أنَّهُ توضَّأ إلا مرتباً ، وبيان الكتاب يؤخذ من السُّنَّةِ ، قال تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] وقال [ الله ] تعالى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ } [ الحج : 77 ] ، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قدم السُّجود على الرُّكوع ، بل راعى الترتيب ، فكذلك هاهنا .
الموالاة أوجبها مالكٌ وأحْمَدُ ، وقال أبو حنيفة والشَّافِعيُّ [ في الجديد ]{[11087]} ليست شرطاً لصحة الوُضُوء{[11088]} .
لو كان على وجهه أو بدنه نجاسة فغسلها أو نوى الطَّهارة عن الحدث بذلك الغُسْلِ ، فقال بعض العلماء : يكفي لأنَّه أمر بالغسل ، وقد أتى به ، فيخرج عن العهدة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " {[11089]} . فيجب أن يحصل له المنوي .
لو وَقَفَ تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ، ونَوَى رفْع الحدثِ ، فقيل : لا يَصِحُّ ؛ لأنه أمر بالغسلِ ، والغَسْلُ عملٌ وهو لم يَأتِ بالعَملِ ، وقيل : يَصِحُّ ؛ لأنَّ الغَسْلَ عِبارَةٌ عن الفِعْلِ المُفْضِي [ إلى الانغسال ]{[11090]} وُوُقُوفُهُ تَحْتَ الميزَابِ فعلٌ مُفْضٍ إلى الاغتسال ، فكان غُسْلاً{[11091]} .
إذا غَسَلَ هذه الأعْضَاء ثم بعد ذلك تَقَشَّرَت الجلْدَة عنها ، فَمَا ظَهَر من تحت{[11092]} الجلْدَة غير مَغْسُولٍ ، فالأظْهَرُ وجُوب غَسْلِهِ ؛ لأنَّه تعالى أمَرَ بِغَسْلِ هذه الأعْضَاءِ ، وذلك الموْضِعُ غير مَغْسُول ، إنَّما المغْسُول هو الجِلْدَة التي زَالَت{[11093]} .
لو أخَذَ الثَّلْج وأمَرَّه على هذه الأعْضَاءِ ، فإن كان الهَوَاءُ حَارًّا يُذيبُ الثَّلْجَ ويُسِيلُهُ جاز وإلا فلا ، خِلافاً للأوْزَاعِي .
لنا : أنَّ هذَا لا يُسَمَّى غُسْلاً ، فأُمِرَ بالغسْلِ{[11094]} .
التَّسْمِيَةُ في أوَّل الغسل والوُضُوءِ : قال أحْمَد وإسْحَاق : واجِبَةٌ .
وقال غَيْرُهُما : هي سُنَّةٌ ؛ لأنَّهَا لَيْسَت مَذْكُورة في الآيَةِ ، واسْتَدلُّوا عليه بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا صَلاَة إلاَّ بِوُضُوءٍ ، ولا وُضُوءَ لِمَن لم يَذْكُرِ اسْمَ الله عليْه " {[11095]} .
قوله - سبحانه - : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } .
قال الزَّجَّاج{[11096]} : مَعْنَاهُ تَطَهَّرُوا ؛ لأن " التَّاء " تُدْغَمُ في " الطَّاءِ " ؛ لأنَّهُمَا من مَكَانٍ واحِدٍ ، فإذا أدْغِمَت " التَّاء " في " الطَّاء " سُكِّنَ أوَّلُ الكَلِمَة فَزيدَ ألِفُ وصْلٍ ليُبْتَدَأ بها ، فَقِيل : " اطَّهَّرُوا " .
ولمَّا ذَكَر تعالى كَيْفِيَّة الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى ، ذكر بعدَهَا الطَّهارة الكُبْرَى ، وهي الغُسْلُ من الجَنَابَةِ . ولمَّا كانت الطَّهَارَةُ الصُّغْرى مَخْصُوصَة ببعض الأعْضَاءِ ، لا جَرَم ذكر تِلْكَ الأعْضَاء على التَّعْيين ، ولما كانت الطَّهَارَةُ الكُبْرَى في كُلِّ البَدَنِ أُمِرَ بها على الإطْلاَقِ .
رَوتْ عَائِشَةُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان إذا اغْتَسَل من الجَنَابَةِ بَدَأ فَغَسَل يَدَيْهِ ، ثم تَوَضَّأ كما يتوَضَّأ للصَّلاة ، ثم يُدْخِلُ أصَابِعَهُ في الماءِ فَيُخَلِّل بها أصُولَ شَعْرِهِ ، ثم يَصُبُّ المَاءَ على رَأسِهِ ثلاثَ غَرْفَاتٍ بيدهِ ، ثم يَفيضُ الماءَ عَلى جِلْدِهِ كُلِّهِ{[11097]} .
قال القُرْطُبِي{[11098]} : قوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ } أمر بالاغْتِسَالِ بالمَاءِ ، وكذلك رأى عُمَرُ وابْنُ مَسْعُودٍ : أنَّ الجُنُبَ لا يَتَيَّممُ ألْبَتَّةَ ، بل يَدَعُ الصَّلاة حتى يَجِد المَاءَ ، وهذا يَرُدُّهُ قوله - عليه الصلاة والسلام - : " وجُعِلَ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وتُرَابُها طهُوراً " وقوله : " التُّرَابُ طهُورُ المُسْلِمِ ، ما لم يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنين " ، وحديثُ عُبَادة ، وحديثُ عمرَان بن الحصين أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - رأى رَجُلاً معهُ ماء لم يصلّ في القومِ الحديث{[11099]} .
ولِحُصُولِ الجَنَابَةِ سَبَبَانِ :
الأوَّلُ : نُزُول المَنِيِّ ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّما الماءُ من المَاءِ " {[11100]} .
والثاني : في التِقَاءِ الختانَيْنِ ، وقال زَيْدُ بن ثابتٍ ، ومُعاذ [ وأبو سعيد الخُدْرِي : ]{[11101]} لا يَجِبُ الغُسْلُ إلاَّ عِنْد نُزُولِ المَاءِ .
لنا : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا الْتَقَى الخِتَانَان وجَبَ الغُسْلُ وإنْ لَمْ يُنْزِلْ " {[11102]} ، وختانُ الرَّجُلِ : هو المَوْضِعُ الذي يقطع منه جِلْدَةُ القلفَةِ ، وأما خِتَانُ المرْأةِ فَشَفْرَان{[11103]} مُحِيطَانِ بِثَلاثَةِ أشْيَاء : ثُقْبَةٌ في أسْفَلِ الفَرْجِ وهو مَدْخَلُ الذَّكَرِ ومَخْرَجُ الحَيْضِ والولدِ ، وثُقْبَةُ [ أخْرَى ]{[11104]} فَوْقَ [ هذه ]{[11105]} مثل إحْلِيلِ الذَّكَرِ وهي مَخْرجُ البَوْلِ لا غير ، [ وفوق ]{[11106]} ثُقْبَة البَوْل مَوْضِعُ خِتَانِهَا ، وهُنَاكَ جِلْدَةٌ رَقيقَةٌ قَائِمَةٌ مِثْل عُرْف الدِّيك ، وقَطْعُ هذه الجِلْدةِ هُو خِتَانُها ، فإذا غَابَتِ الحَشْفَةُ حتى حَاذَى خِتَانُهُ خِتَانها ، فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ{[11107]} .
الدَّلْكُ غير واجبٍ ؛ لأنَّه لم يُذْكَر في الآيةِ ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لما سُئِلَ عن الاغْتِسَالِ من الجنابَةِ - قال : " أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ فأنَا قد طَهُرْت " {[11108]} ولم يَذْكُر الدَّلْك{[11109]} .
والمَضْمَضَةُ والاسْتِنْشَاقُ واجبانِ في الغُسْلِ عِنْد أبِي حَنِيفَة وأحْمد ، وقال الشَّافِعِيُّ : لا يَجِبَانِ ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ " ولمْ يَذْكُرْهُمَا ، واحتَجَّ الأوَّلُون بقوله : " فاطَّهَّرُوا " فأمر بِتَطهِير جَمِيع الأجْزَاءِ{[11110]} وترك العَمَل به في الأجْزَاء البَاطِنَة لتعذُّرِ تَطْهِيرها ، وداخِلِ الأنْفِ والفَمِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُها فدخَلا تَحْتَ النَّصِّ ، وبِقَوْلِه - عليه الصلاة والسلام - : " بلُّوا الشَّعْرَ وانْتِفُوا البَشَرة ، فإنَّ تَحْتَ كلِّ شَعْرةٍ جَنَابَة " {[11111]} ، فيدخل الأنْفُ ؛ لأنَّ في داخِلِهِ شَعْرٌ ، وقوله : " وانتفِوا البَشَرة " يَدْخُلُ فيه جِلْدَة داخل الفَمِ ؛ لأنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ بحيث لَوْ وُضِعَ في فَمهِ لم يفطر ، ولوْ وضع فيه خَمْراً لم يُحَدَّ .
والأكثَرُون على عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتيبِ في الغُسْلِ ، وقال إسحاق : يَجِبُ البَدَاءَةُ على البَدَنِ{[11112]} {[11113]} .
قوله تعالى : { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } .
قال مَكِّي : من جعل الصَّعيد : الأرْضَ ، أو وَجهَ الأرْضِ نصب " صعيداً " على الظَّرْف ، ومنْ جَعَل الصَّعيد : التُّرَاب نَصَبَ على أنَّهُ مَفْعُولٌ به ، حذف مِنْهُ حرف الجَرِّ : بِصَعِيدٍ ، و " طَيِّباً " نَعْتُهُ ، أي : نَظِيف .
وقيل : طيِّباً مَعْنَاهُ : حَلالاً ، فَيَكُون نَصْبُهُ على المَصْدَرِ ، أو على الحَالِ .
وهذا يَدُلُّ على جَوَازِ التَّيَمُّم للمَرِيضِ ، ولا يُقَال : إنَّه شَرَط فيه عَدَمَ المَاءِ ؛ لأنَّ عدم المَاءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ بِغَيْرِ مَرَضٍ ، وإنَّما يَرْجِع قوله : { فَلَمْ [ تَجِدُواْ ]{[11114]} مَاءً } إلى المُسَافِر .
أحدها : أن يَخَافَ الضَّرَر والتَّلَفَ باسْتِعْمَال الماءِ ، فهذا يجُوزُ له التَّيَمُّم بالاتِّفَاقِ .
والثاني : ألاَّ يخافَ الضَّرَرَ [ ولا ]{[11115]} التَّلَفَ ، فقال الشَّافِعِيُّ : لا يجُوزُ له التَّيَمُّمُ ، وقال مالِكٌ وأبُو حَنِيفَة : يجُوزُ لِقَوْلِهِ : { وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } .
الثَّالِثُ : أنْ يَخَافَ الزِّيَادَةَ في العِلَّةِ ، وبُطْءَ البرءِ ، فيجوزُ لَهُ التَّيَمُمُ عند أحْمد ، وفي أصَحِّ القَوْلَيْن للشَّافِعِيِّ ، وبه قال مالكٌ وأبو حنيفة ، فإن خَافَ بقاء شين{[11116]} في العُضْوِ ، فقال بَعْضُهُم : لا يَتَيممُ ، وقال آخَرُون{[11117]} : يتَيممُ وهو الصَّحِيحُ .
يجوز التيمم في السَّفَرِ القَصِيرِ ، للآيَة ، وقال بَعْضُهُم : لا يجوزُ{[11118]} ؛ إذا كان مَعَهُ مَاءٌ وحيوانٌ مُشْرِفٌ على الهَلاك جَازَ له التَّيَمُّمُ ، ووَجَب صَرْفُ المَاء إلى [ ذَلِكَ ]{[11119]} الحَيَوان .
فإن لَمْ يكنْ مَعَهُ ماءٌ ، وكان مع غيره ، ولا يُمْكِنه أن يشْتَرِيَهُ إلاَّ بالغَبْنِ الفَاحِشِ جَازَ لَهُ التَيمُّم ، لقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، فإن وَهَبَ منه ذلك الماء ، فقيل : لا يَجِبُ قُبُولُه لِمَا فِيهِ مِن المنَّة ، فإن{[11120]} أُعِير [ منه ]{[11121]} الدَّلْو والرشاء ، فقال الأكْثَرُون{[11122]} : لا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِقِلَّةِ المِنَّة في هَذِه العَادَةِ .
إذا جَاءَ من الغَائِط وَجَب عَلَيْه الاستنْجَاءُ ، إمَّا بالحَجَارَةِ ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - " فليَسْتَنْجِ بِثَلاثَةِ أحْجَارٍ " {[11123]} .
وقال أبُو حَنِيفَة{[11124]} : لا يَجِبُ ؛ لأنَّهُ تعالى أوْجَبَ عِندَ المَجِيءِ مِن الغَائِطِ الوُضُوءَ والتَّيَمُّمَ ؛ ولم يُوجِبْ غُسْلَ مَوْضِعِ الحَدَثِ .
[ فصل انتقاض وضوء اللامس والملموس
ظاهِرُ قوله { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } يَدلُّ على انتقاضِ وضوء اللاَّمس ، وأمَّا انتقاض وضوء الملمُوس فَغَيْرُ مَأخُوذٍ من الآيَة ، وإنَّما أُخِذَ من الخَبَرِ أو مِن القياسِ الجَليِّ ]{[11125]} .
يَجُوزُ الوُضُوءُ بِمَاء البَحْرِ ، وقال عَبْدُ الله بن عَمْرو بن العاصِ : " لا يَجُوزُ{[11126]} بل يَتَيممُ " .
ولنَا : أنَّ التَيَمُّمَ شَرْطُهُ عدم المَاءِ ، ومن وَجَدَ مَاءَ البَحْرِ فإنَّهُ واجِدٌ لِلمَاءِ{[11127]} .
قال أكثرُ العُلَمَاء{[11128]} : لا بُدَّ في التَّيَمُّمِ من النِّيَّةِ ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ عِبَارَةٌ عن القَصْدِ ، وقال زفر : لا تَجِبُ{[11129]} .
فصل في الخلاف في حد تيمم المرفقين
قال الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة : [ التيمُّمُ ]{[11130]} في اليَدَيْن إلى المِرْفَقَيْنِ ، وعن عَلِيٍّ وابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهم - إلى الرُّسْغَيْنِ ، وعن مَالِكٍ وغيرِهِ إلى الكُوعَيْن ، [ وعن ]{[11131]} الزُّهرِي إلى الآبَاطِ{[11132]} .
فصل في وجوب استيعاب العضو بالتراب
يجب اسْتِيعَابُ العُضْوين في التَّيَمُّمِ ، ونَقَل الحسنُ بنُ زِيادٍ عن أبِي حنيفة : إذا يَمَّمَ{[11133]} الأكْثَر جَازَ ؛ لأن " البَاء " في قوله : " بِرُؤوسِكُمْ " يَقْتَضِي مَسْحَ البَعْضِ ، فكذا هَاهُنَا{[11134]} .
إذا لَمْ يَكُن لِلتُّرابِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بالْيَدِ لم يَجُزِ التَّيَممُ به وهو قَوْل الشَّافِعِيِّ وأبي يُوسُف ، وقال أبُو حَنيفَة ومالِكٌ : [ يجزئه ، وقال الشافعي : لا يجُوزُ التِّيَمُّمُ إلا بالتُّرَابِ الخَالِصِ ، وقال أبو حنيفَة ]{[11135]} : يَجُوزُ بالتُّرَاب وبالرَّمْلِ وبالخَزَفِ المَدْقُوقِ والجَصّ والمدر والزَّرنِيخ .
لنا : ما روى ابْنُ عبَّاسٍ أنه قال : " الصَّعِيدُ هُو التُّرَابُ " {[11136]} .
لو وَقَفَ في مَهَبِّ الرِّيَاحِ ، فَسَفَتْ عليه التُّرابَ وأمَرَّ يَدَهُ [ عليه ]{[11137]} أوْ لَمْ يُمِرَّهَا ، فظَاهِرُ مَذْهَب الشَّافِعِيّ أنَّهُ لا يَكْفي . وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقين{[11138]} : إنَّهُ لا يَكْفِي ؛ لأنَّهُ قَصَدَ اسْتِعْمال الصَّعيدِ في أعْضَائِهِ .
قال الشَّافِعِيُّ وأحمَد{[11139]} : لا يجُوز التَيَمُّمُ إلا بَعْدَ دُخُول الوَقْتِ ، لقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } [ والقِيَامُ إلى الصلاة ]{[11140]} لا يكُونُ إلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وقتها .
إذَا ضَرَب ثَوْباً فارْتَفَع مِنْهُ غُبَارٌ ، فقال أبُو حنيفة : يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ ، وقال أبُو يُوسف : لا يَجُوزُ{[11141]} .
لا يُجُوزُ التَّيَمُّمُ بتُرَابٍ نَجِسٍ ، لقوله تعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } والنَّجِسُ لا يكُونُ طيِّباً .
وفُرُوع [ التَّيَمُّم ]{[11142]} كثيرة مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ .
قوله - سبحانه - " مِنْهُ " في مَحَلِّ نَصْبٍ مُتَعَلِّقاً ب " امْسَحُوا " ، و " مِنْ " فيها وجهان :
أظْهَرُهُمَا : أنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ .
والثاني : أنَّها لابْتِدَاء الغَايَةِ ، ولهذا لا يُشْتَرَطُ عند هؤلاءِ أنْ يتعلَّقَ [ باليَدِ ]{[11143]} غُبَارٌ .
وقوله تعالى : " لِيَجْعَلَ " : الكلام في هذه " اللاَّم " كالكلام عَلَيْهَا في قوله { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] ، إلا أنَّ مَنْ جَعَل مَفْعُولَ الإرَادَةِ مَحْذوفاً ، وعلَّق به " اللاَّم " من " لِيَجْعَلَ " زاد " من " في الإيجَابِ في قوله : " مِنْ حَرَجٍ " ، وسَاغَ ذَلِكَ ؛ لأنَّهُ في حَيِّزِ النَّفْي ، وإنْ لَمْ يَكُنِ النَّفْي واقعاً على فِعل الحَرَجِ ، و " مِنْ حَرَجٍ " مَفْعُولٌ " لِيَجْعَلَ " .
و " الجَعْلُ " : يحتمل أنَّهُ بمعنى الإيجَادِ والخَلْقِ ، فَيَتَعَدَّى لواحد وهو " من حرج " و " من " مزيدة فيه كما تقدَّم ، ويتعَلّق " عَلَيْكُم " حينئذٍ بالجَعْلِ ، ويجُوزُ أن يتعلَّق ب " حَرَجٍ " .
فإن قِيلَ : هُو مَصْدَرٌ ، والمَصْدَرُ لا يَتَقَدَّم معمولُه عليه ، قيل : ذلك في المَصَدرِ المُؤوَّلِ بحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وفعل ، لأنه بِمَعْنَى المَوْصُول ، وهذا لَيْسَ مُؤوَّلاً بِحَرْف مَصْدَرِيٍّ ، [ ويجُوز أن يكون الجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيير ] ، فَيَكُون " عَلَيْكُم " هُوَ المَفْعُول الثَّانِي .
المَعْنَى { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم } : بما فَرَضَ من الوُضُوء والغُسْلِ والتَّيَمُّمِ ، " من حَرَجٍ " : من ضِيق ، { ولَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } : من الأحْدَاثِ والجَنَابَات{[11144]} والذُّنُوبِ .
قالت المعتزِلَةُ : دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الأصْلَ في المضارِّ ألاَّ تكون مَشْرُوعَةً ، فإنَّه تعالى ما جعل عَلَيْنَا في الدِّين مِنْ حَرَجٍ ، وقال تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : " لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ في الإسلام " {[11145]} وأيْضاً فَدَفْع الضَّررِ مُسْتَحْسَنٌ في العُقُول ، فوجَبَ أن يَكُونَ كَذَلِكَ في الشَّرع .
قوله - سبحانه - : { وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } .
اخْتَلَفُوا في تَفْسِير هذا التَّطْهِير ، قال جُمْهُور الحَنفيَّةِ : إنَّ عند خُرُوجِ الحَدَثِ تنجس الأعْضَاءُ نَجاسَةً حُكْمِيَّةً ، والمَقْصُود من هذا التَّطْهِير إزَالَةُ [ تلك ]{[11146]} النجاسَةِ الحُكْمِيَّةِ ، وهذا بَعِيدٌ لِوُجُوه :
إحداها : قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] ، وكَلِمَةُ " إنَّما " للِحَصْر ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُؤمن لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه .
وثانيها : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " المُؤمِنُ لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه لا حَيَّا ولا مَيِّتاً " {[11147]} .
وثالثها : أجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّ بَدَن المُحْدِثِ لو كَانَ رَطْباً ، فأصَابَهُ ثَوْبٌ لَمْ يَنْجس الثَّوْب ، ولَوْ حَمَلَهُ إنْسَانٌ وصَلَّى به لم تفسد صلاتُه .
ورابعها : لو كان الحدثُ يُوجِبُ نجاسَةُ الأعْضَاءِ ، ثم كَانَ تَطْهِيرُ الأعْضَاءِ الأرْبَعَة يُوجِبُ طَهَارة كُل الأعْضَاء ، لوَجَبَ ألاَّ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ باخْتِلاَف الشَّرَائِعِ ، والأمْرُ لَيْس كذلِكَ .
وخامسها : أنَّ خُروج النَّجَاسَةِ من مَوْضِع ، كيف يُوجِبُ تَنَجُّسَ مَوضِعٍ آخَر ؟ .
وسادسها : أنَّ المَسْح على الخُفَّيْنِ قَائِمٌ مقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْن ، ومَعْلُومٌ أنَّ هذا لا يُزِيلُ شَيْئاً ألْبَتَّةَ عن الرِّجْلَين .
وسابعها : أنَّ الذي يُرَاد زوالُهُ إنْ كانَ جِسْماً ، فالحسّ يَشْهَدُ ببُطْلاَن ذلك ، وإنْ كان عَرَضاً فَهُوَ مُحَالٌ ، لأنَّ انتِقَالَ الأعْرَاضِ مُحَالٌ .
القولُ الثاني : أنَّ المُرَادَ به التَّطْهِير من المَعَاصِي والذُّنُوب ، وهو المُرَادُ بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذَا تَوَضَّأ العَبْدُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ من وَجْهِهِ وكذا يَدَيْهِ ورَأسِهِ ورِجْلَيْه " .
وقوله تعالى : { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } .
قال مُحَمَّد بن كَعْبٍ{[11148]} : إتمَامُ النِّعْمةِ تَكْفِيرُ الخَطَايَا بالوُضُوءِ ، وهَذَا الكَلاَمُ مُتَعَلِّق بما ذَكَرَهُ أوَّل السّورةِ من إبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ من المَطَاعِم والمَنَاكِح ، ثُمَّ بَيَّن بَعْدَه كَيْفِيَّة فَرْضِ الوُضُوءِ ، كأنَّهُ قال : إنَّما ذَكَرْت ذلِكَ لتتمَّ النَّعْمَة المَذْكُورَةُ أوَّلاً ، وهِيَ نِعْمَةُ الدُّنْيَا ، وهذه النِّعْمَةُ المَذْكُورة الثَّانِيَةُ وهي نِعْمَة الدِّين .
وقيل : المُرادُ { ليتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } بالرخص بالتَّيَمُم ، والتَّخْفِيفِ في حالِ المَرَضِ والسَّفَر ، فاسْتَدَلُّوا بذلك على أنَّه تعالى يُخَفِّف عَنْكُمْ يَوْمَ القيامةِ ، بأنْ يَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِكُمْ . ويَتَجَاوَز عَن سَيِّئَاتِكُمْ .
قوله - جلا وعلا - : " عَلَيْكُمْ " فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ :
أظهرُهَا : أنَّهُ مُتَعلِّقٌ ب " يُتِمّ " .
والثاني : أنَّهُ مُتعلِّق ب " نِعْمَتِهِ " .
والثالث : أنَّهُ مُتَعلِّقٌ بمحذُوفٍ على أنَّهُ حالٌ من " نِعْمَتِهِ " .
ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْنِ الأخِيرَيْن أبُو البَقَاءِ{[11149]} ، وهَذِه الآيَةُ بِخِلاف التي قَبْلَها [ في قوله ]{[11150]} : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] ، حَيْثُ امْتَنَعَ تَعَلُّقُ الجَارِّ بالنِّعْمَةِ ؛ لتَقَدُّم مَعْمُول المصْدَر [ عليه ]{[11151]} كما تَقَدَّم بَيَانُهُ .
قال الزَّمَخشَرِيُّ : وقُرِئَ{[11152]} " فأطْهِرُوا " أي : أطْهِرُوا [ أبْدَانَكُمْ ]{[11153]} ، وكَذِلِكَ " لِيُطْهِرَكُمْ " ، يعني : أنَّهُ قُرِئَ " أطْهِرُوا " أمْرٌ من " أطْهِرْ " رُبَاعِيّاً ك " أكْرِمْ " ، ونسب النَّاسُ القِرَاءَةَ الثَّانِية ، أعني قوله : " لِيُطْهِرَكُم " لسَعِيدِ بن المُسَيَّب .
ثم قال تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، والكَلاَمُ في لَعَلَّ مَذْكُور في البقرة عند قوله