وعند تمام هذا البيان كأنه قال : قد وفيت بعهد الربوبية فاشتغل أيها العبد بوظائف العبودية ولا سيما بالصلاة التي هي أعظم الطاعات وبمقدماتها . ونبني تفسير الآية على مسائل : الأولى ليس المراد بقوله : { إذا قمتم } نفس القيام وإلاّ لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وهو بالإجماع باطل ، وأيضاً لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعداً أو مضطجعاً لخرج عن العهدة بالإجماع ، فالمراد إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك . ووجه هذا المجاز أنّ الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم المسبب على السبب مجاز مستفيض . الثانية : ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس تكليفاً مستقلاً لأنه شرط القيام إلى الصلاة . والأصح أنه عبادة برأسها لأن قوله : { فاغسلوا } أمر ظاهره الوجوب غاية ذلك أنه مقيد بوقت التهيّؤ للصلاة . وأيضاً إنه طهارة وقد قال تعالى في آخر الآية : { ولكن يريد ليطهركم } وقال صلى الله عليه وسلم : " بني الدين على النظافة " وقال : " أمّتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة " والأخبار الواردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب كثيرة . الثالثة : قال داود : يجب الوضوء لكل صلاة فإنه ليس المراد قياماً واحداً في صلاة واحدة وإلاّ لزم الإجمال إذ لا دليل على تعيين تلك المرة ، والإجمال خلاف الأصل فوجب حمل الآية على العموم . وأيضاً ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب مشعر بالعلية فيتكرر بتكرره فيجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة .
وأيضاً إنه نظافة فلا يكون منها بدّ عند الاشتغال بخدمة المعبود . وقال سائر الفقهاء : إنّ كلمة " إذا " لا تفيد العموم ولهذا لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق مرة أخرى بالدخول ثانياً . ويروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلاّ يوم الفتح فإنه صلى الله عليه وسلم صلّى الصلوات كلها بوضوء واحد . قال عمر : فقلت له في ذلك فقال : عمداً فعلت ذلك يا عمر . أجاب داود بأنّ خبر الواحد لا ينسخ القرآن . وأيضاً في الخبر معنيان : أحدهما : وجوب التجديد لكل صلاة لا أقل من استحباب ذلك . الثاني أنه ترك ذلك يوم الفتح والأوّل يوجب المتابعة والثاني مرجوح لأنّ الفتح يقتضي زيادة الطاعة لا نقصانها . وأيضاً التجديد أحوط ، وأيضاً دلالة ظاهر القرآن قولية ودلالة الخبر فعلية والقولية أقوى . ولناصر المذهب المشهور أن يقول : التيمم على المتغوّط والمجامع واجب إذا لم يجد الماء لقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } الآية . وذلك يدل على أنّ وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة فلم يكن هو مؤثراً وحده ، وإذا لم يكن مؤثراً مستقلاً جاز تخلف الأثر عنه . نعم التجديد مستحب لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يتوضأن لكل صلاة وقال صلى الله عليه وسلم : " من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات " وقيل : كان الوضوء لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض ثم نسخ . الرابعة : الأصح أن في الآية دلالة على أنّ الوضوء شرط لصحة الصلاة لأنه علق فعل الصلاة بالطهور ، ثم بيّن أنه متى عدم الماء لم تصح الصلاة إلاّ بالتيمم ، فلو لم يكن شرطاً لم يكن كذلك . وأيضاً إنه أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بها بدون الوضوء تارك للمأمور به فيستحق العقاب وهذا معنى البقاء في عهدة التكليف . الخامسة : قال أبو حنيفة : النية ليست شرطاً في الوضوء لأنها غير مذكورة في الآية والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخير الواحد وبالقياس غير جائز . وعند الشافعي هي شرط فيه لأنّ الوضوء مأمور به لقوله : { فاغسلوا } { وامسحوا } وكل مأمور به يجب أن يكون منوياً لقوله تعالى :{ وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين }[ البينة :5 ] والإخلاص النية الخالصة ، فأصل النية يجب أن يكون معتبراً . وغاية ما في الباب أنها مخصوصة في بعض الصور فتبقى حجة في غير محل التخصيص .
السادسة : قال مالك وأبو حنيفة : الترتيب غير مشروط في الوضوء لأن الواو لا تفيد الترتيب ، فلو قلنا بوجوبه كان من الزيادة على النص وهو نسخ غير جائز . وقال الشافعي : إنه واجب لأن فاء التعقيب في قوله : { فاغسلوا } توجب تقديم غسل الوجه ثم سائر الأعضاء على الترتيب .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الصفا : " ابدؤا بما بدأ الله به " . وأيضاً الترتيب المعتبر في الحس هو الابتداء من الرأس إلى القدم أو بالعكس ، والترتيب العقلي إفراد العضو المغسول عن الممسوح . ثم إنه تعالى أدرج الممسوح في المغسول فدل هذا على أن الترتيب المذكور في الآية واجب لأن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه . وأيضاً إيجاب الوضوء غير معقول المعنى لأن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ولأن أعضاء المحدث طاهرة لقوله : " المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً " وتطهير الطاهر محال ولأن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء وليس في التيمم نظافة ، وأقام المسح على الخفين مقام الغسل ولا يفيد في نفس العضو نظافة والماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فإذن الاعتماد على مورد النص . ولعل في الترتيب حكماً خفية لا نعرفها أو هو محض التعبد . وقد أوجبنا رعاية الترتيب في الصلاة مع أن أركان الصلاة غير مذكورة في القرآن مرتبة فرعاية الترتيب في الوضوء مع أن القرآن ناطق به أولى . السابعة : قال الشافعي وأبو حنيفة : الموالاة في أفعال الوضوء غير واجبة لأن إيجاب هذه الأفعال قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ، وهذا القدر معلوم من الآية ومفيد للطهارة والزائد لا دليل عليه ، وأيضاً روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً توضأ وترك لمعة من عقبة فأمره بغسلها ولم يأمره بالاستئناف ولم يبحث عن المدة الفاصلة ، وعند غيرهما شرط كيلا يتخلل بين أجزاء العبادة ما ليس منها . وحدّ التفريق المخل بالموالاة أن يمضي من الزمان ما يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص . الثامنة : قال أبو حنيفة : الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء لأن ظاهر الآية يقتضي الإتيان بالوضوء لكل صلاة لما مر ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولاً به عند خروج الخارج النجس . وخالفه الشافعي تعويلاً على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل أثر محاجمه . التاسعة : قال مالك : لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة لنا التمسك بعموم الآية . العاشرة : قال أبو حنيفة : القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء . وقال الباقون : لا تنقض لأبي حنيفة أن يتمسك بعموم الآية . الحادي عشر : قال أبو حنيفة : لمس المرأة وكذا لمس الفرج لا ينقض الوضوء . وقال الشافعي : ينقض متمسكاً بالعموم . الثانية عشرة : لو كان على وجهه وبدنه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة من الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوءاً ؟ قال في التفسير الكبير : ما رأيت هذه المسألة في كتب الأصحاب .
قال : والذي أقوله أنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله : { واغسلوا } وقد أتى به ، وأقول : الظاهر أنه لا يكفي لأنه لا يرتفع بغسلة واحدة نجاستان حكمية وعينية وهذا بخلاف ما لو نوى التبرد أو التنظف فإن النجاسة هناك حكمية فقط . الثالثة عشرة : لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوءه ؟ يمكن أن يقال : لا لأنه لم يأت بعمل . وأن يقال : نعم لأنه أتى بما أفضى إلى المقصود وهو الانغسال . الرابعة عشرة : إذا غسل أعضاء الوضوء ثم كشط جلده فالأظهر وجوب غسله لتحصيل الامتثال فإن ذلك الوضع غير مغسول . الخامسة عشرة : لو رطب الأعضاء من غير سيلان الماء عليها لم يكف لأنه مأمور بالغسل وهذا ليس بغسل ، وفي الجنابة يكفي لأنه هناك مأمور بالتطهير لقوله : { ولكن يريد ليطهركم } والتطهير يحصل بالترطيب . السادسة عشرة : لو أمر الثلج على العضو فإن ذاب وسال جاز وإلاّ فلا خلافاً لمالك والأوزاعي لنا فاغسلوا وهذا ليس بغسل . السابعة عشرة : التثليث سنة لأن ماهية الغسل تحصل بالمرة . الثامنة عشرة : السواك سنة لا واجب لأن الآية ساكتة عنه وكذا القول في التسمية خلافاً لأحمد وإسحاق . وكذا في تقديم غسل اليدين على الوضوء خلافاً لبعضهم . التاسعة عشرة : قال الشافعي : لا تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل ، وأحمد وإسحاق يجب فيهما . أبو حنيفة : يجب في الغسل لا في الوضوء . حجة الشافعي أنه أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجهاً وحده من مبتدأ تسطيح الجهة إلى منتهى الذقن طولاً ، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً ، وداخل الفم والأنف غير مواجه . العشرون : ابن عباس : يجب إيصال الماء إلى داخل العين لأن العين جزء من الوجه . الباقون : لا يجب لقوله في آخر الآية : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } وإدخال الماء في العين حرج . الحادية والعشرون : غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند الشافعي وأبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف . لنا أنه واجب قبل نبات الشعر بالإجماع فكذا بعده ولأنه من الوجه والوجه يجب غسله كله . الثانية والعشرون : أبو حنيفة : لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة . الشافعي : يجب لقوله : { فاغسلوا } ترك العمل عند كثافة اللحية دفعاً للحرج فيبقى عند كثافتها على الأصل . الثالثة والعشرون : الأصح عند الشافعي وجوب إمرار الماء على ظاهر اللحية النازلة طولاً والخارجة إلى الأذنين عرضاً لأن مواجه . مالك وأبو حنيفة والمزني : لا يجب لأنه لا جلد تحتها حتى يغسل ظاهرها بتبعيتها . الرابعة والعشرون : لو نبت للمرأة لحية وجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت لحيتها كثيفة لأنا تركنا العمل بظاهر الآية في اللحية الكثيفة للرجل دفعاً للحرج ولحية المرأة نادرة وخصوصاً الكثيفة فيبقى حكمها على الأصل .
الخامسة والعشرون : يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع : العنفقة والحاجب والشارب والعذار والهدب لأن قوله : { فاغسلوا } يدل على وجوب غسل كل جلدة الوجه ، ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعاً للحرج وهذه الشعور خفيفة غالباً فتبقى على الأصل . السادسة والعشرون : الشعبي : ما اقبل من الأذن فهو من الوجه فيغسل ، وما أدبر فمن الرأس فيمسح وردّ بأن الأذن غير مواجه أصلاً . السابعة والعشرون : الجمهور على أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين وخالف مالك وزفر وكذا ، الخلاف في قوله : { وأرجلكم إلى الكعبين } والتحقيق أن " إلى " تفيد معنى الغاية مطلقاً ، والمراد بالغاية جميع المسافة أو حقيقة النهاية . ثم إنّ حد الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود حساً انفصال الظلمة عن النور في قوله :{ ثم أتموا الصيام إلى الليل }[ البقرة :187 ] فيكون الحد خارجاً عن المحدود . وقد لا يكون كذلك نحو حفظت القرآن من أوّله إلى آخره وبعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فيدخل الحد في المحدود . ولا شك أن المرفق وهو موصل الذراع في العضد سمي بذلك لارتفاق صاحبها بها غير متميزة في الحس عن محدودها فلا يكون إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب غسلها جميعاً . وإن سلم أن المرفق لا يجب غسلها لكنها اسم لما جاوز طرف العظم ، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله . وهذا الجواب اختيار الزجاج . وعلى هذا فمقطوع اليد من المرفق يجب عليه إمساس الماء بطرف العظم وإن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب عليه شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلاً . الثامنة والعشرون : تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب خلافاً لأحمد . لنا أنه ذكر الأيدي والأرجل في الآية من غير تقديم لإحدى اليدين أو الرجلين . التاسعة والعشرون : ذهب بعضهم إلى أن مبتدأ الغسل يجب أن يكون الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرافق لأن المرافق جعلت في الآية نهاية الغسل . وجمهور الفقهاء على أن عكس هذا الترتيب لا يخل بصحة الوضوء لأن المراد في الآية بيان جملة الغسل لا بيان ترتيب أجزاء الغسل . الثلاثون : لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله : { وأيديكم إلى المرافق } كما لو نبت على الكف أصبع زائدة . الحادية والثلاثون : المراد من تحديد الغسل بالمرفق بيان الواجب فقط لما ورد في الأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة . الثانية والثلاثون : مالك : يجب مسح كل الرأس . أبو حنيفة : يتقدر بالربع لأنه صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وأنها ربع الرأس . الشافعي : الواجب أقل ما ينطلق عليه اسم المسح لأنه إذا قيل مسحت المنديل فهذا لا يصدق إلاّ عند مسحه بالكلية ، أما لو قال مسحت يدي بالمنديل كفى في صدقه مسح اليد بجزء من أجزاء المنديل فهكذا في الآية وإلاّ احتيج في تعيين المقدّر إلى دليل منفصل وتصير الآية مجملة وهو خلاف الأصل .
الثالثة والثلاثون : لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة لأن ذلك ليس مسحاً للرأس . وقال الأوزاعي والثوري وأحمد : يجوز لما روي أنه صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة . وأجيب بأنه لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة . الرابعة والثلاثون : اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب الإمامية . وجمهور الفقهاء والمفسرين على أن فرضهما الغسل . وقال داود : يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية . وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين المسح والغسل . حجة من أوجب المسح قراءة الجر في : { وأرجلكم } عطفاً على : { برؤوسكم } ولا يمكن أن يقال إنه كسر على الجوار كما في قوله : " حجر ضب خرب " لأن ذلك لم يجئ في كلام الفصحاء وفي السعة ، وأيضاً إنه جاء حيث لا لبس ولا عطف بخلاف الآية . وأما القراءة بالنصب فيكون للعطف على محل { رؤوسكم } . حجة الجمهور أخبار وردت بالغسل وأن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح . والقوم أجابوا بأن أخبار الآحاد لا تُعارض القرآن ولا تنسخه وبالمنع في مجل النزاع فزعم الجمهور أن قراءة النصب ظاهرة في العطف على مفعول : { فاغسلوا } وإن كان أبعد من : { امسحوا } وقراءة الجر تنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء لأن الأرجل تغسل بالصب فكانت مظنة للإسراف . الخامسة والثلاثون : جمهور الفقهاء على أن الكعبين هما العظمان الناتئان من جانبي الساق . وقالت الإمامية وكل من قال بالمسح : إن الكعب عظم مستدير موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم كما في أرجل جميع الحيوانات . والمفصل يسمى كعباً ومنه كعوب الرمح لمفاصله . حجة الجمهور أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً وكان ينبغي أن يقال : وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً لا جرم قال : { إلى المرافق } . وأيضاً العظم المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلاّ أهل العلم بتشريح الأبدان ، والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان لكل أحد ومناط التكليف ليس إلاّ أمراً ظاهراً ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ألصقوا الكعاب بالكعاب " . السادسة والثلاثون : الجمهور على جواز مسح الخفين خلافاً للشيعة والخوارج . حجة الجمهور الأحاديث ، وحجة الشيعة الآية ، وأن جواز المسح على الخفين حاجة عامة فلو كانت ثابتة لبلغت مبلغ التواتر .
السابعة والثلاثون : رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس ، فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه سقط عنه ذلك أيضاً لأن قوله : { فاغسلوا } { وامسحوا } مشروط بالقدرة عليه فإذا فاتت القدرة سقط التكليف . الثامنة والثلاثون . قوله سبحانه : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } الأصل " تطهروا " أدغم التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل . وللجنابة سببان : نزول المني لقوله صلى الله عليه وسلم : " الماء من الماء " والثاني التقاء الختانين خلافاً لزيد بن ثابت ومعاذ وأبي سعيد الخدري لما روي انه صلى الله عليه وسلم قال : " إذا التقى الختانان وجب الغسل " وختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة ، وأما ختان المرأة فإن شفريها يحيطان بثلاثة أشياء : ثقبة من أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد ، وثقبة فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير ، والثالث جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك فوق ثقبة البول ، وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانه ختانها . التاسعة والثلاثون : لا يجوز للجنب مس المصحف خلافاً لداود . لنا قوله : { فاطهروا } يدل على أن الطهارة غير حاصلة وإلاّ لكان أمراً بتطهير الطاهر وحينئذٍ لا يجوز له مس المصحف لقوله :{ لا يمسه إلاّ المطهرون }[ الواقعة :79 ] ولإطلاق قوله : { فاطهروا } علم أنه أمر بتحصيل الطهارة في كل البدن وإلاّ خصت تلك الأعضاء بالذكر كما في الطهارة الصغرى ، وعلم أنه لا يجب تقديم الوضوء على الغسل خلافاً لأبي ثور وداود ، وعلم أن الترتيب غير واجب خلافاً إسحق فإنه أوجب البداءة بأعلى البدن ، وعلم أن الدلك غير واجب خلافاً لمالك . الأربعون : الشافعي : المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم : " أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت " أبو حنيفة : هما واجبان لقوله تعالى : { فاطهروا } والتطهير لا يحصل إلاّ بطهارة جميع الأعضاء . ترك العمل به في الأعضاء الباطنة للتعذر وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما فيبقى داخلاً في النص ولأن قوله صلى الله عليه وسلم : " بلوا الشعر " يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعراً : " وأنقوا البشرة " يدخل فيه جلدة داخل الفم . الحادية والأربعون : لا يجب نقض الشعر إن لم يمنع عن وصول الماء إلى منابته لأن المقصود التطهير وإن منع وجب خلافاً للنخعي . الثانية والأربعون : إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلاً في بعض جسده دون بعض فقال الشافعي : يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم للاحتياط . وقال أبو حنيفة : إن كان أكثر البدن صحيحاً غسل الصحيح دون التيمم وإن كان أكثره جريحاً يكفيه التيمم لأن المرض إذا كان حالاً في بعض أعضائه فهو مريض .
الثالثة والأربعون : لو ألصق على موضع التيمم لصوقاً منع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف . قال الشافعي : يلزم نزع اللصوق حتى يصل التراب إليه أخذاً بالأحوط . وقال الأكثرون : لا يجب دفعاً للحرج . الرابعة والأربعون : قال الشافعي : الاستنجاء واجب إما بالماء أو بالأحجار لقوله صلى الله عليه وسلم : " فليستنج بثلاثة أحجار " وقال أبو حنيفة : واجب عند المجيء من الغائط إما الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحدث فدل على أنه غير واجب . الخامسة والأربعون : لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي ولا ينقضه عند أبي حنيفة وقد مرت المسألة في سورة النساء . السادسة والأربعون : لا يكره الوضوء بالماء المسخن لقوله تعالى :{ فلم تجدوا ماء } وههنا قد وجد ماء وخالف مجاهد . السابعة والأربعون : أبو حنيفة وأحمد : لا يكره المشمس لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وهذا قد وجد ماء . الشافعي يكره للحديث . الثامنة والأربعون : لا يكره الوضوء بفضل ماء المشرك وبالماء في آنية المشرك لأنه واجد للماء فلا يتيمم ، وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشرك وتوضأ عمر من ماء في جرة نصرانية . وقال أحمد وإسحق : لا يجوز . التاسعة والأربعون : يجوز الوضوء بماء البحر لأنه واحد الماء خلافاً لعبد الله بن عمرو بن العاص . الخمسون : جوّز أبو حنيفة بنبيذ التمر في السفر للحديث ولم يجوّزه الشافعي وقال : يتيمم لأنه غير واجد للماء . الحادية والخمسون : ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات لطاهرة ، والأكثرون لا يجوز . حجتهما : { فاغسلوا } أمر بمطلق الغسل وإمرار المائع على العضو غسل قال الشاعر : فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها . لنا : أنه عند عدم الماء أوجب التيمم . الثانية والخمسون : الشافعي : الماء المتغير بالزعفران تغيراً فاحشاً لا يجوز الوضوء به لأن واجده يصدق عليه أنه غير واجد للماء . وخالف أبو حنيفة لأن أصل الماء موجود بصفة زائدة كما لو تغير وتعفن بطول المكث أو بتساقط الأوراق بالاتفاق . الثالثة والخمسون : مالك وداود : الماء المستعمل في الوضوء بقي طاهراً طهوراً لأن واجده واجد للماء وهو قول قديم للشافعي . والقول الجديد إنه طاهر غير طهور ، ووافقه محمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة في أكثر الروايات : إنه نجس لأن النجاسة الحكمية كالعينية . الرابعة والخمسون : مالك : إذا وقع في الماء نجاسة ولم يتغير بقي طاهراً طهوراً قليلاً كان أو كثيراً وهو قول أكثر الصحابة والتابعين . وقال الشافعي : إن كان أقل من القلتين ينجس . وقال أبو حنيفة : إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس . حجة مالك أنه واجد للماء ترك العمل بهذا العموم في الماء القليل المتغير فيبقى حجة في الباقي ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : " خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غير طعمه أو ريحه أو لونه " حجة الشافعي مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً " . الخامسة والخمسون : يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب لأن واجده واجد للماء ، وقال أحمد وإسحاق : لا يجوز الوضوء بفضل ماء المرأة إذا خلت به وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب . السادسة والخمسون : أسار السباع ، طاهرة مطهرة وكذا سؤر الحمار لأنه واجد للماء . وقال أبو حنيفة : نجسة . السابعة والخمسون : قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون : لا بد في التيمم من النية لأنه قال : { فتيمموا } والتيمم عبارة عن القصد وهو النية . وقال زفر : لا يجب . الثامنة والخمسون : الشافعي : لا يجوز التيمم إلاّ بعد دخول الصلاة لأنه طهارة ضرورة ولا ضرورة قبل الوقت . أبو حنيفة : يجوز قياساً على الوضوء ولظاهر قوله : { إذا قمتم } والقيام إلى الصلاة يكون بعد دخول وقتها . التاسعة والخمسون : لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى : { صعيداً طيباً } . الستون : لا خلاف في جواز التيمم بدلاً عن الوضوء ، أما التيمم بدل غسل الجنابة فعن علي رضي الله عنه وابن عباس جوازه وهو قول أكثر الفقهاء ، وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز . لنا قوله تعالى : { أو لامستم } إما يختص بالجماع أو يدخل الجماع فيه . الحادية والستون . الشافعي : لا يجوز أن يجمع بتيمم واحد بين صلاتي فرضين لأن ظاهر قوله : { إذا قمتم } يقتضي إعادة الوضوء لكل صلاة ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبقى في التيمم على ظاهره . أبو حنيفة : يجوز أداء الفرائض به كالوضوء . أحمد : يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين . الثانية والستون : الشافعي : إذا لم يجد الماء في أول الوقت وتوقع في آخره جاز له التيمم لأن قوله : { إذا قمتم } يدل على أنه عند دخول الوقت إن لم يجد الماء جاز له التيمم . وقال أبو حنيفة : يؤخر الصلاة إلى آخره . الثالثة والستون : إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه لأنه وجد الماء فلا يجوز له الشروع في الصلاة بالتيمم . وخالف أبو موسى الأشعري والشعبي . الرابعة والستون : لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة لأنه خرج عن عهدة التكليف خلافاً لطاوس . الخامسة والستون : ولو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها - وبه قال مالك وأحمد - ، لأنه انعقدت صلاته صحيحة بحكم التيمم فما لم تبطل صلاته لا يصير قادراً على استعمال الماء ، وما لم يصر قادراً على استعمال الماء لم تبطل صلاته فيدور . وقال أبو حنيفة والثوري والمزني : يلزمه الخروج لأنه واجد للماء .
السادسة والستون : لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي وهو قول أحمد وأبي يوسف . والثاني لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة ومحمد لأن النسيان في حكم العجز وكذا إذا ضل رحله في الرحال بالطريق الأولى لأن مخيم الرفقة أوسع من رحله . ولو تيقن الماء في رحله واستقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجد فالأكثرون على أنه يلزمه الإعادة لأن العذر ضعيف . وقيل : لا لأن حكمه حكم العاجز . السابعة والستون : لو صلى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكنه استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أوّلاً ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله ، وإن يكن عالماً فإن كان عليها علامة ظاهرة فالإعادة وإلاّ فلا لأنه كالعاجز . الثامنة والستون : إذا لم يكن معه ماء ولا يمكنه أن يشتري إلاّ بالغبن الفاحش جاز التيمم لقوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } ولو وهب منه الماء لزمه القبول لأن المنة فيه سهل ، ولو وهب منه ثمنه لم يلزمه القبول لثقل المنة ووجود الحرج ، ولمثل هذا يجب قبول إعارة الدلو لاهبته فهذه جملة المسائل الفقهية المستنبطة من الآية سوى ما مرت في سورة النساء .
واعلم أن قوله سبحانه وتعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أصل معتبر في علم الفقه لأنه يدل على أن الأصل في المضار الحرمة وفي المنافع الإباحة . وقد تمسك به نفاة القياس قالوا : إن كل حادثة فحكمها المفصل إن كان مذكوراً في الكتاب والسنة فذاك وإلاّ فإن كان من باب المضارّ فالأصل فيها الحرمة ، وإن كان من باب المنافع فالأصل فيها الإباحة ، والقياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياساً واقعاً في مقابلة النص فيكون مردوداً . أما قوله : { ولكن يريد ليطهركم } فله تفسيران : أحدهما وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة ، أن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية ، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية ، وزيف بأن أعضاء المؤمن لا تنجس لقول تعالى :{ إنما المشركون نجس }[ التوبة :28 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن لا ينجس لا حياً ولا ميتاً " وبأنه لو كان رطباً فأصابه ثوب لم ينجس ، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته بالاتفاق ، وبأن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل عضو لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع ، وبأن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر ، وبأن التيمم زيادة في التكدير فكيف يوجب النظافة والتطهير ، وبأن المسح على الخفين كيف يقوم مقام غسل الرجلين ، وبأن الذي يراد إزالته ليس من الأجسام ولا كان محسوساً ولا من الأعراض أن انتقال الأعراض محال .
التفسير الثاني أن المراد طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن إيصال الماء أو التراب إلى هذه الأعضاء المخصوصة ليس فيه فائدة يعقلها المكلف ، فالانقياد لمثل هذا التكليف تعبد محض يزيل آثار التمرد وتؤكده الأخبار في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه . { وليتم نعمته عليكم } بإباحة الطيبات الدنيوية من المطاعم والمناكح بهذه النعمة الدينية وهي كيفية فرض الوضوء ، أو ليتم برخصه كالتيمم ونحوه إنعامه عليكم بعزائمه .