قوله : { إِذَا قُمْتُمْ } إذا أردتم القيام تعبيراً بالمسبب عن السبب كما في قوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله } .
وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة ، فقالت طائفة : هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهراً أو محدثاً ، فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ ، وهو مرويّ عن عليّ وعكرمة . وقال ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة . وقالت طائفة أخرى : إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف ، فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم . وقالت طائفة : الأمر للندب طلباً للفضل . وقال آخرون : إن الوضوء لكل صلاة كان فرضاً عليهم بهذه الآية . ثم نسخ في فتح مكة . وقال جماعة : هذا الأمر خاص بمن كان محدثاً . وقال آخرون : المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ، فيعمّ الخطاب كل قائم من نوم . وقد أخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة . فلما كان يوم الفتح ، توضأ ومسح على خفيه ، وصلى الصلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر : يا رسول الله ، إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله ، فقال : «عمداً فعلته يا عمر » ، وهو مرويّ من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى . وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال : قلت : فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث ، فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث ، وبه قال جمهور أهل العلم وهو الحق .
قوله : { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } الوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة ، وهو عضو مشتمل على أعضاء ، وله طول وعرض ، فحده في الطول : من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين ، وفي العرض ، من الأذن إلى الأذن ، وقد ورد الدليل بتخليل اللحية . واختلف العلماء في غسل ما استرسل ، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه . وقد اختلف أهل العلم أيضاً : هل يعتبر في الغسل الدلك باليد أم يكفي إمرار الماء ، والخلاف في ذلك معروف ، والمرجع اللغة العربية ، فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل ، كان معتبراً وإلا فلا . قال في شمس العلوم : غسل الشيء غسلاً إذا أجري عليه الماء ودلكه انتهى . وأما المضمضة والاستنشاق ، فإذا لم يكن لفظ الوجه يشمل باطن الفم والأنف فقد ثبت غسلها بالسنة الصحيحة ، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف . وقد أوضحنا ما هو الحق في مؤلفاتنا .
قوله : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } «إلى » للغاية ، وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف .
وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا . وقيل : إنها هنا بمعنى مع . وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقاً ، وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل : وقد ذهب الجمهور إلى أن المرافق تغسل ، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جدّه عن جابر بن عبد الله ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه . ولكن القاسم هذا متروك ، وجدّه ضعيف .
قوله : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } قيل : الباء زائدة ، والمعنى : امسحوا رؤوسكم ، وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس . وقيل : هي للتبعيض ، وذلك يقتضي أنه يجزئ مسح بعضه . واستدل القائلون بالتعميم بقوله تعالى في التيمم : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ } ولا يجزئ مسح بعض الوجه اتفاقاً . وقيل إنها للإلصاق ، أي ألصقوا أيديكم برءوسكم ، وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس كما أوضحناه في مؤلفاتنا ، فكان هذا دليلاً على المطلوب غير محتمل كاحتمال الآية على فرض أنها محتملة ، ولا شك أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلاً بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح ، وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لا بد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس ، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو : اضرب زيداً أو اطعنه أو ارجمه ، فإنه يوجد المعنى العربي بوقوع الضرب أو الطعن أو الرجم على عضو من أعضائه ، ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها : إنه لا يكون ضارباً إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد ، وكذلك الطعن والرجم وسائر الأفعال ، فاعرف هذا حتى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس . فإن قلت : يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين . قلت : ملتزم لولا البيان من السنة في الوجه ، والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين بخلاف الرأس ، فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض .
قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين } قرأ نافع بنصب الأرجل ، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجرّ . وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين ، لأنها معطوفة على الوجه ، وإلى هنا ذهب جمهور العلماء . وقراءة الجرّ تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين ، لأنها معطوفة على الرأس ، وإليه ذهب ابن جرير الطبري ، وهو مرويّ عن ابن عباس . قال ابن العربي : اتفقت الأمة على وجوب غسلهما ، وما علمت من ردّ ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين ، والرافضة من غيرهم ، وتعلق الطبري بقراءة الجرّ قال القرطبي : قد روي عن ابن عباس أنه قال : الوضوء غسلتان ومسحتان ، قال : وكان عكرمة يمسح رجليه وقال : ليس في الرجلين غسل ، إنما نزل فيهما المسح .
وقال عامر الشعبي : نزل جبريل بالمسح . قال : وقال قتادة : افترض الله مسحتين وغسلتين . قال : وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح ، وجعل القراءتين كالروايتين ، وقواه النحاس ، ولكنه قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله غسل الرجلين فقط ، وثبت عنه أنه قال : «ويل للأعقاب من النار » ، وهو في الصحيحين وغيرهما ، فأفاد وجوب غسل الرجلين ، وأنه لا يجزئ مسحهما ، لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ ، فلو كان مجزئاً لما قال «ويل للأعقاب من النار » ، وقد ثبت عنه أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به » وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره : أن رجلاً توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر ، فقال له : «ارجع فأحسن وضوءك » وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة .
وقوله : { إِلَى الكعبين } الكلام فيه كالكلام في قوله : { إِلَى المرافق } وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب : إنه لما كان في كل رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلا مرفق واحد ثنيت الكعاب تنبيهاً على أن لكل رجل كعبين ، بخلاف المرافق فإنها جمعت ؛ لأنه لما كان في كل يد مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره ، ذكر معنى هذا ابن عطية . وقال الكواشي : ثنى الكعبين وجمع المرافق لنفي توهم أن في كل واحدة من الرجلين كعبين ، وإنما في كل واحدة كعب واحد ، له طرفان من جانبي الرجل ، بخلاف المرفق فهي أبعد عن الوهم انتهى .
وبقي من فرائض الوضوء النية والتسمية ، ولم يذكرا في هذه الآية ، بل وردت بهما السنة وقيل : إن في هذه الآية ما يدلّ على النية ، لأنه لما قال : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُم } كان تقدير الكلام : فاغسلوا وجوهكم لها ، وذلك هو النية المعتبرة .
قوله : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا } أي فاغتسلوا بالماء . وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بهذه الآية ، وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء ، وهذه الآية هي للواجد ، على أن التطهر هو أعمّ من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه ، وهو التراب . وقد صحّ عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء . وقد تقدّم تفسير الجنب في النساء .
قوله : { وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَد مّنْكُمْ مّن الغائط }
وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النساء مستوفى ، وكذلك تقدّم الكلام على ملامسة النساء ، وعلى التيمم وعلى الصعيد ، ومن في قوله : { مِنْهُ } لابتداء الغاية ، وقيل : للتبعيض . قيل : ووجه تكرير هذا هنا لاستيفاء الكلام في أنواع الطهارة { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم منْ حَرَجٍ } أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء أو بالتراب التضييق عليكم في الدين ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَج } ثم قال : { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ } من الذنوب ، وقيل : من الحدث الأصغر والأكبر ، { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي بالترخيص لكم في التيمم عند عدم الماء ، أو بما شرعه لكم من الشرائع التي عرّضكم بها للثواب ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته عليكم ، فتستحقون بالشكر ثواب الشاكرين .
وقد أخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن زيد بن أسلم ، في قوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } قال : قمتم من المضاجع ، يعني : النوم . وأخرج ابن جرير عن السدّي مثله . وأخرج ابن جرير أيضاً عنه يقول : إذا قمتم وأنتم على غير طهر . وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن ، في قوله : { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } قال : ذلك الغسل الدلك . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير عن أنس أنه قيل له : إن الحجاج خطبنا فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه فاغسلوا بطونهما ، وظهورهما ، وعراقيبهما . قال أنس : صدق الله وكذب الحجاج . قال الله : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما .
وأخرج سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { مِنْ حَرَجٍ } قال : من ضيق . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : { وَليُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } قال : تمام النعمة دخول الجنة ، لم يتمّ نعمته على عبد لم يدخل الجنة .