التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (6)

{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية : نزلت في غزوة المريسيع ، حين انقطع عقد عائشة رضي الله عنها ، فأقام الناس على التماسه وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فنزلت الرخصة في التيمم ، فقال أسيد بن حضير : ما هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر ، ولذلك سميت الآية آية التيمم ، وقد كان الوضوء مشروعا قبلها ، ثابتا بالسنة ، وقوله :{ إذا قمتم إلى الصلاة } معناه : إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضئوا ويقتضي ظاهرها وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة ، وهو مذهب ابن سيرين وعكرمة ومذهب الجمهور أنه لا يجب ، واختلفوا في تأويل الآية على أربعة أقوال :

الأول : أن وجوب تجديد الوضوء لكل صلاة منسوخ بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صلى الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد .

والثاني : أن ما تقتضيه الآية من التجديد يحمل على الندب .

والثالث : أن تقديرها إذا قمتم محدثين فإنما يجب على من أحدث .

والرابع : أن تقديرها إذا قمتم من النوم .

{ فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } ذكر في هذه الآية ، أربعة أعضاء اثنين محدودين ، وهما اليدان والرجلان واثنين غير محدودين وهما الوجه والرأس أما المحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين ، والرجلان إلى الكعبين وجوبا بإجماع ، فإن ذلك هو الحد الذي جعل الله لهما ، واختلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين ، وغسل الكعبين مع الرجلين أم لا ، وذلك مبني على معنى إلى ، فمن جعل إلى بمعنى مع في قوله :{ إلى المرافق } وإلى الكعبين أوجب غسلهما ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غسلهما ؛ واختلف في الكعبين ، هل هما اللذان عند معقد الشراك أو العظمان الناتئان في طرف الساق ، وهو أظهر لأنه ذكرهما بلفظ التثنية ، ولو كان اللذان عند معقد الشراك لذكرهما بلفظ الجمع كما ذكر المرافق ، لأنه على ذلك في كل رجل كعب واحد وأما غير المحدودين ، فاتفق على وجوب إيعاب الوجه ، وحده طولا من أول منابت الشعر إلى آخر الذقن أو اللحية . وحده عرضا من الأذن إلى الأذن وقيل : من العذار إلى العذار ، وأما الرأس ، فمذهب مالك وجوب إيعابه كالوجه ، ومذهب كثير من العلماء جواز الاقتصار على بعضه ، لما ورد في الحديث : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته " ، ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يجزئ على أقوال كثيرة .

{ وامسحوا برؤوسكم } اختلف في هذه الباء فقال قوم : إنها للتبعيض وبنوا على ذلك جواز مسح بعض الرأس ، وهذا القول غير صحيح عند أهل العربية وقال القرافي : إنها باء الاستعانة التي تدخل على الآلات وأن المعنى امسحوا أيديكم برؤوسكم ، وهذا ضعيف لأن الرأس على هذا ما مسح لا ممسوح ، وذلك خلاف المقصود ، وقيل : إنها زائدة وهو ضعيف ، لأن هذا ليس موضع زيادتها والصحيح عندي أنها باء الإلصاق التي توصل الفعل إلى مفعوله لأن المسح تارة يتعدى بنفسه ، وتارة بحرف الجر : كقوله :{ فامسحوا بوجوهكم } ، وكقوله :{ فطفق مسحا بالسوق والأعناق }[ ص :33 ] .

{ وأرجلكم إلى الكعبين } قرئ وأرجلكم بالنصب عطفا على الوجوه والأيدي فيقتضي ذلك وجوب غسل الرجلين ، وقرئ بالخفض فحمله بعضهم على أنه عطف على قوله :{ برؤوسكم } ، فأجاز مسح الرجلين ، روي ذلك عن ابن عباس ، وقال الجمهور : لا يجوز مسحهما بل يجب غسلهما وتأولوا قراءة الخفض بثلاثة تأويلات .

أحدها : أنه خفض على الجوار لا على العطف .

والآخر : أنه يراد به المسح على الخفين ، والثالث : أن ذلك منسوخ بالسنة . والفرق بين الغسل والمسح أن المسح إمرار اليدين بالبلل الذي يبقى من الماء ، والغسل عند مالك إمرار اليد بالماء ، وعند الشافعي إمرار الماء ، وإن لم يدلك باليد .

{ وإن كنتم مرضى أو على سفر } تقدم الكلام على نظيرتها في النساء .

{ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي : من ضيق ولا مشقة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دين الله يسر " ، وباقي الآية تفضل من الله على عباده ورحمة وفي ضمن ذلك ترغيب في الطهارة وتنشيط عليها .