تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (6)

وقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } لو حملت الآية على ظاهرها لكان لا سبيل لأحد القيام بأداء ما فرض الله عليه من الصلاة لأنه كلما قام إلى الصلاة يلزمه الوضوء ، فلا يبقى فيه ، لكنها على الإضمار ؛ كأنه قال : يقال : { إذا قمتم إلى الصلاة } وأنتم محدثون { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } وإلا ظاهر الآية يوجب ما ذكرنا . لكن الحدث مضمر فيه .

ومن الناس من يوجب الوضوء لكل صلاة بظاهر هذه الآية . وقد جاء من الصحابة رضي الله عنهم الفعل بذلك ؛ روي عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أنهم توضؤوا لكل صلاة /124-ب/ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك .

وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى الظهر ، ثم قعد في الرحبة . فلما حضرت ا لعصر دعا بكوز من ماء ، فغسل يديه ووجهه وذراعيه ورجليه ، وشرب فضله ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث . وروي عن عبيد بن عمير أنه كان يتوضأ لكل صلاة ، وتأول هذه الآية .

«وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم فتح مكة صلى الصلوات كلها بوضوء واحد فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله ، قال : إني عمدا فعلته يا عمر » [ مسلم : 277 وأحمد : 5/358 ] . وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه [ أنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة الوضوء ومع كل وضوء السواك »[ أحمد : 2/460 ] .

وكل ما روي من الأخبار بالوضوء لكل صلاة ، هو على الفضل عندنا والاستحباب لا على الحتم . ألا ترى أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات كلها بوضوء واحد ، وقال : إني فعلته عمدا . ذلك ما ذكرنا .

وقد يحتمل تأويل الآية معنى آخر ما روي عن بعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أرق ماء ، نكلمه ، فلا يكلمنا ، ونسلم عليه ، فلا يرد علينا حتى يأتي أهله ، فيتوضأ وضوءه للصلاة ، فقلنا له في ذلك حتى نزلت آية الرخصة [ في ] قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } فهذا يدل أن معنى الآية على الإضمار { إذا قمتم إلى الصلاة } وأنتم محدثون { فاغسلوا وجوهكم وأيدكم } .

وروي في تأويل هذه الآية : إذا قمتم من المضجع إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم . وقد رويت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان ينام ، ثم يصلي الصبح ولا يتوضأ ، فسئل عن ذلك فقال : إني لست كأحد منكم ؛ تنام عيناي ولا ينام قلبي ، ولو أحدثت لعلمت »[ بنحوه البخاري : 1147 ] .

وروي عن صفوان بن عسال [ أنه قال ] : «إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يأمرنا ألا ننزع خفافنا إذا أدخلناهما طاهرتين ، ولا نخلعهما من غائط ولا بول إلا من جنابة »[ النسائي : 1/84 ] .

فهذه الأحاديث توجب الوضوء من النوم مجملا . وجاء حديث آخر مفسرا بإيجاب الوضوء إذا نام مضطجعا ؛ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ليس على من نام قاعدا وضوء حتى يضطجع . فإذا اضطجع استرخت مفاصله »[ ينحوه الترمذي : 77 ] فهذه الأخبار التي جاءت مجملة .

وقد جاءت الأخبار أنه إذا نام في الصلاة قائما أو قاعدا أو ساجدا فلا وضوء عليه . فيدل ذلك على أن النوم في الصلاة ليس بحدث . وروي عن عمر رضي الله عليه [ أنه ] قال : لا يوجب الوضوء حتى يضع الجنب ، وينام . فهذا يؤيد [ ما ] قلنا مع ما اجتمع أهل العلم في أن الوضوء ليس بواجب على من قام إلى الصلاة ، وهو غير محدث . فكان التأويل ما ذكرنا .

وقوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } الخطاب من الله عز وجل بغسل الوجه . فالتكلم فيه والتحديد أنه من كذا فضل تكلم ، والأمر بالغسل يرجع إلى ما ظهر ، وعرف أصله أنه وجه .

وكذلك الأمر بمسح الرأس يرجع إلى ما عرف أصله أنه رأس ، وليس كالأذنين لأن معرفة الأذنين أنهما من الرأس سمعي لأنهما لا تعرفان أنهما من الرأس إلا بالسمع .

وكذلك الأمر بغسل اليد وغسل الرجل ، يقع على ما يعرف الناس . وعرف الناس اليد إلى الإبط والرجل إلى الركبة . فخرج ذكر المرافق في غسل الأيدي إلى ما وراء المرافق ، وكذلك ذكر الكعب في الرجل لإخراج ما وراء الكعب ، لأن اسم اليد على الإطلاق يقع من أطراف الأصابع إلى الإبط .

وقوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } قرؤوا بالنصب ، وقرؤوه بالخفض . قال بعضهم : من قرأ بالنصب فهو يرجع إلى الغسل نسقا على الوج ، وبالخفض إلى المسح مسح الخفاف نسقا على مسح الرأس . لكن هذا بعيد لأنه تناقض ؛ لا يجوز أن يؤمر بالغسل والمسح جميعا ، ومعنى الخفض لقرب جوراه . يقول تعالى : { وامسحوا برءوسكم } وقد يجوز ذلك نحو قوله تعالى : { ولحم طير مما يشتهون وحور عين }[ الواقعة : 21 و22 و23 ] فمن قرأ بالخفض إنما قرأ لقرب جواره بالخفض . فعلى ذلك الأول .

ثم الحكمة بالأمر بغسل هذه الأعضاء ليذكرهم تطهير باطنهم . والمعنى في غسل هذه الأعضاء الظاهرة ، والله أعلم ، بوجهين :

أحدهما : شكر أما اليد [ فلما ] بها يتناول ، ويقبض ، وأما الرجل فلما بها يمشى ، وبها يصل إليه . والوجه مجمع الحواس التي تعرف عظيم نعم الله عز وجل من نحو البصر والشم وغيرهما من الحواس التي بها يكون التلذذ و التشهي .

والثاني : أمر بذلك تكفيرا لما ارتكب بهذه الحواس من الأجرام لأنه بها ترتكب جل الآثام ، وبها يوصل إليها من المشي والقبض وغير ذلك .

وقوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } قيل فاغتسلوا بأخذ الجنابة الظواهر من البدن وبواطنه ، والحدث لا يأخذ إلا الظواهر من الأطراف لأن السبب الذي يوجب الجنابة لا يكون إلا باستعمال جميع ما فيه من القوة . ألا ترى أنه به يضعف إذا كثره ، وبتركه يقوى . فعلى ذلك أخذ جميع البدن ظاهره وباطنه . وأما الحدث فإن سببه يكون بظواهر هذه الأطراف من نحو الأكل والشرب والحدث ، وليس باستعمال كل البدن ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } الآية . ذكر المرض والسفر والمجيء من الغائط والملامسة . ثم الحكم لم يتعلق باسم المرض ولا باسم السفر ولكن باسم الغائط ، ولكن كان متعلقا لمعنى فيه دلالة جواز القياس لأنه ذكر الغائط [ والمجيء منه ، والغائط ] هو المكان الذي تقضى فيه ، والمراد منه المعنى ، وهو قضاء الحاجات . فهذا أصل لنا أن النص إذا ورد بمعنى ، فوجد ذلك المعنى في غيره وجب ذلك الحكم في ذلك الغير . فإذا عدم الماء في المكان الذي يعدم ، وإن لم يكن سفرا ، يجوز التيمم فيه ، وكذلك إذا خاف الضرر من الماء جاز له التيمم ، يكون مريضا لأنه ليس أباح ذلك ، هذا هو المعنى الثاني للمريض باسم المرض ولا باسم السفر ، ولكن لمعنى فيه .

وقوله تعالى : { أو لامستم النساء } قد ذكرنا في ما تقدم أن الملامسة هو الجماع . [ كذلك ] روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وقال ابن عباس : الملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والغشيان ، كله جماع ، ولكن الله كريم يكني .

وقوله تعالى : { فتيمموا صعيدا طيبا } جعل الطهارة بالماء والتراب لأنه بهما معاش الخلق ، وبهما قوام الأبدان حتى جعل جميع أغذية الخلق وجل مصالحهم منهما . فعلى ذلك جعل قيام هذه العبادات بهما ، والله أعلم .

ثم الحكمة في جعل الطهارة في أطراف البدن للتزين والتنظيف لأنه يقدم على الملك الجبار ، ويقوم بين يديه ويناجيه . ومن أتى ملكا من ملوك الأرض يتكلف التنظيف والتزين . ثم يدخل عليه . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } قال عبد الله بن مسعود وعمر /125- أ/ رضي الله عنهما الملامسة ما دون الجماع ، فلم يدخل الجنب في هذه الآية ، وأوجبا عليه الغسل بقوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وجعلا قول الله تعالى : { ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] على مرور الجنب في المسجد . ولم يجعلاه على أنه يصلي إذا كان مسافرا ، ولم يجد الماء . فهذا الذي منع عند الله أن يطلق للجنب أن يصلي بالتيمم على حال .

فأما علي وابن عباس رضي الله عنهما فإنهما جعلا اللمس الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية الجماع ، وقالا : كنى الله تعالى عن الجماع بالمسيس والغشيان والمباشرة . وجعلا قول الله تعالى : { إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] في المسافر الذي لم يجد الماء ، وهو جنب .

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أذن للجنب من الجماع أن يتيمم إذا لم يجد الماء ، فكان ذلك حجة على منع الجنب من التيمم .

ثم قول الشافعي قول ثالث خارج عن قول الصحابة والسلف رضي الله عنهم لأنه يزعم أن اللمس هو الجماع وما دونه . فذلك ابتداع في الآية قولا وتفسيرا خالف فيه ما روي في تفسيرها عن الصحابة [ رضي الله عنهم ] جملة والسلف . لذلك كان محيطا .

وأصله أن الله تعالى ذكر الوضوء ، وأمر به في الآية ، وهو قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } الآية ، ولم يذكر [ الحدث ، وأمر ] بالاغتسال من الجنابة ، وهو قوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } ولم يذكر من أي جنابة . ثم ذكر الحدث في قوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } فعلى ذلك قوله تعالى : { أو لامستم النساء } كان بيانا لما تقدم من الأمر بالاغتسال من الجنابة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فتيمموا صعيدا طيبا } قيل { صعيدا طيبا } والصعيد هو وجه الأرض .

وقوله تعالى : { طيبا } قال بعضهم : الطيب ما ينبت من الزرع وغيره . وقال آخرون : الطيب ههنا هو الطاهر .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت » [ البخاري : 335 ] أخبر أن الأرض جعلت له مسجدا وطهورا . فكان قوله : «طهورا » تفسيرا لقوله تعالى : { طيبا } والله أعلم .

وقوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } قد ذكرنا في ما تقدم أن التيمم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين .

وقوله تعالى : { ما يريد ليجعل عليكم من حرج } يحتمل هذا وجهين :

يحتمل ما يريد أن يضيق عليكم ليأمركم بحمل الماء إلى حيث ما كنتم في الأسفار وغيره . ولكن جعل لكم التيمم ، ورخص لكم أن تؤدوا ما فرض عليكم به ، ولم يكلفكم حمل الماء في الأسفار وغيره ، والله أعلم .

ووجه آخر : ما أراد الله بما تعبدكم من أنواع العبادات أن يجعل { عليكم من حرج } ولكن أراد ما ذكر .

وقوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } يحتمل يريد ليطهركم بالتوحيد والإيمان به وبالرسل جميعا . ويحتمل قوله { يريد ليطهركم } من الذنوب والآثام التي ارتكبوها كقوله تعالى : { الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ] ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابات كما قال أهل التأويل .

وقوله تعالى : { وليتم نعمته عليكم } تمام ما ذكرنا من التوحيد والإيمان والهداية لدينه والتكفير مما ارتكبوا . ويجوز أن يكون هذا في قوم علم الله أنهم يموتون على الإيمان حين أخبر أنه يتم نعمته عليهم .