وقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } لو حملت الآية على ظاهرها لكان لا سبيل لأحد القيام بأداء ما فرض الله عليه من الصلاة لأنه كلما قام إلى الصلاة يلزمه الوضوء ، فلا يبقى فيه ، لكنها على الإضمار ؛ كأنه قال : يقال : { إذا قمتم إلى الصلاة } وأنتم محدثون { فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق } وإلا ظاهر الآية يوجب ما ذكرنا . لكن الحدث مضمر فيه .
ومن الناس من يوجب الوضوء لكل صلاة بظاهر هذه الآية . وقد جاء من الصحابة رضي الله عنهم الفعل بذلك ؛ روي عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أنهم توضؤوا لكل صلاة /124-ب/ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك .
وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى الظهر ، ثم قعد في الرحبة . فلما حضرت ا لعصر دعا بكوز من ماء ، فغسل يديه ووجهه وذراعيه ورجليه ، وشرب فضله ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ، وقال : هذا وضوء من لم يحدث . وروي عن عبيد بن عمير أنه كان يتوضأ لكل صلاة ، وتأول هذه الآية .
«وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم فتح مكة صلى الصلوات كلها بوضوء واحد فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله ، قال : إني عمدا فعلته يا عمر » [ مسلم : 277 وأحمد : 5/358 ] . وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه [ أنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة الوضوء ومع كل وضوء السواك »[ أحمد : 2/460 ] .
وكل ما روي من الأخبار بالوضوء لكل صلاة ، هو على الفضل عندنا والاستحباب لا على الحتم . ألا ترى أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات كلها بوضوء واحد ، وقال : إني فعلته عمدا . ذلك ما ذكرنا .
وقد يحتمل تأويل الآية معنى آخر ما روي عن بعض الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أرق ماء ، نكلمه ، فلا يكلمنا ، ونسلم عليه ، فلا يرد علينا حتى يأتي أهله ، فيتوضأ وضوءه للصلاة ، فقلنا له في ذلك حتى نزلت آية الرخصة [ في ] قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } فهذا يدل أن معنى الآية على الإضمار { إذا قمتم إلى الصلاة } وأنتم محدثون { فاغسلوا وجوهكم وأيدكم } .
وروي في تأويل هذه الآية : إذا قمتم من المضجع إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم . وقد رويت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه كان ينام ، ثم يصلي الصبح ولا يتوضأ ، فسئل عن ذلك فقال : إني لست كأحد منكم ؛ تنام عيناي ولا ينام قلبي ، ولو أحدثت لعلمت »[ بنحوه البخاري : 1147 ] .
وروي عن صفوان بن عسال [ أنه قال ] : «إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يأمرنا ألا ننزع خفافنا إذا أدخلناهما طاهرتين ، ولا نخلعهما من غائط ولا بول إلا من جنابة »[ النسائي : 1/84 ] .
فهذه الأحاديث توجب الوضوء من النوم مجملا . وجاء حديث آخر مفسرا بإيجاب الوضوء إذا نام مضطجعا ؛ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ليس على من نام قاعدا وضوء حتى يضطجع . فإذا اضطجع استرخت مفاصله »[ ينحوه الترمذي : 77 ] فهذه الأخبار التي جاءت مجملة .
وقد جاءت الأخبار أنه إذا نام في الصلاة قائما أو قاعدا أو ساجدا فلا وضوء عليه . فيدل ذلك على أن النوم في الصلاة ليس بحدث . وروي عن عمر رضي الله عليه [ أنه ] قال : لا يوجب الوضوء حتى يضع الجنب ، وينام . فهذا يؤيد [ ما ] قلنا مع ما اجتمع أهل العلم في أن الوضوء ليس بواجب على من قام إلى الصلاة ، وهو غير محدث . فكان التأويل ما ذكرنا .
وقوله تعالى : { فاغسلوا وجوهكم } الخطاب من الله عز وجل بغسل الوجه . فالتكلم فيه والتحديد أنه من كذا فضل تكلم ، والأمر بالغسل يرجع إلى ما ظهر ، وعرف أصله أنه وجه .
وكذلك الأمر بمسح الرأس يرجع إلى ما عرف أصله أنه رأس ، وليس كالأذنين لأن معرفة الأذنين أنهما من الرأس سمعي لأنهما لا تعرفان أنهما من الرأس إلا بالسمع .
وكذلك الأمر بغسل اليد وغسل الرجل ، يقع على ما يعرف الناس . وعرف الناس اليد إلى الإبط والرجل إلى الركبة . فخرج ذكر المرافق في غسل الأيدي إلى ما وراء المرافق ، وكذلك ذكر الكعب في الرجل لإخراج ما وراء الكعب ، لأن اسم اليد على الإطلاق يقع من أطراف الأصابع إلى الإبط .
وقوله تعالى : { وأرجلكم إلى الكعبين } قرؤوا بالنصب ، وقرؤوه بالخفض . قال بعضهم : من قرأ بالنصب فهو يرجع إلى الغسل نسقا على الوج ، وبالخفض إلى المسح مسح الخفاف نسقا على مسح الرأس . لكن هذا بعيد لأنه تناقض ؛ لا يجوز أن يؤمر بالغسل والمسح جميعا ، ومعنى الخفض لقرب جوراه . يقول تعالى : { وامسحوا برءوسكم } وقد يجوز ذلك نحو قوله تعالى : { ولحم طير مما يشتهون وحور عين }[ الواقعة : 21 و22 و23 ] فمن قرأ بالخفض إنما قرأ لقرب جواره بالخفض . فعلى ذلك الأول .
ثم الحكمة بالأمر بغسل هذه الأعضاء ليذكرهم تطهير باطنهم . والمعنى في غسل هذه الأعضاء الظاهرة ، والله أعلم ، بوجهين :
أحدهما : شكر أما اليد [ فلما ] بها يتناول ، ويقبض ، وأما الرجل فلما بها يمشى ، وبها يصل إليه . والوجه مجمع الحواس التي تعرف عظيم نعم الله عز وجل من نحو البصر والشم وغيرهما من الحواس التي بها يكون التلذذ و التشهي .
والثاني : أمر بذلك تكفيرا لما ارتكب بهذه الحواس من الأجرام لأنه بها ترتكب جل الآثام ، وبها يوصل إليها من المشي والقبض وغير ذلك .
وقوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } قيل فاغتسلوا بأخذ الجنابة الظواهر من البدن وبواطنه ، والحدث لا يأخذ إلا الظواهر من الأطراف لأن السبب الذي يوجب الجنابة لا يكون إلا باستعمال جميع ما فيه من القوة . ألا ترى أنه به يضعف إذا كثره ، وبتركه يقوى . فعلى ذلك أخذ جميع البدن ظاهره وباطنه . وأما الحدث فإن سببه يكون بظواهر هذه الأطراف من نحو الأكل والشرب والحدث ، وليس باستعمال كل البدن ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } الآية . ذكر المرض والسفر والمجيء من الغائط والملامسة . ثم الحكم لم يتعلق باسم المرض ولا باسم السفر ولكن باسم الغائط ، ولكن كان متعلقا لمعنى فيه دلالة جواز القياس لأنه ذكر الغائط [ والمجيء منه ، والغائط ] هو المكان الذي تقضى فيه ، والمراد منه المعنى ، وهو قضاء الحاجات . فهذا أصل لنا أن النص إذا ورد بمعنى ، فوجد ذلك المعنى في غيره وجب ذلك الحكم في ذلك الغير . فإذا عدم الماء في المكان الذي يعدم ، وإن لم يكن سفرا ، يجوز التيمم فيه ، وكذلك إذا خاف الضرر من الماء جاز له التيمم ، يكون مريضا لأنه ليس أباح ذلك ، هذا هو المعنى الثاني للمريض باسم المرض ولا باسم السفر ، ولكن لمعنى فيه .
وقوله تعالى : { أو لامستم النساء } قد ذكرنا في ما تقدم أن الملامسة هو الجماع . [ كذلك ] روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وقال ابن عباس : الملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والغشيان ، كله جماع ، ولكن الله كريم يكني .
وقوله تعالى : { فتيمموا صعيدا طيبا } جعل الطهارة بالماء والتراب لأنه بهما معاش الخلق ، وبهما قوام الأبدان حتى جعل جميع أغذية الخلق وجل مصالحهم منهما . فعلى ذلك جعل قيام هذه العبادات بهما ، والله أعلم .
ثم الحكمة في جعل الطهارة في أطراف البدن للتزين والتنظيف لأنه يقدم على الملك الجبار ، ويقوم بين يديه ويناجيه . ومن أتى ملكا من ملوك الأرض يتكلف التنظيف والتزين . ثم يدخل عليه . فعلى ذلك هذا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } قال عبد الله بن مسعود وعمر /125- أ/ رضي الله عنهما الملامسة ما دون الجماع ، فلم يدخل الجنب في هذه الآية ، وأوجبا عليه الغسل بقوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وجعلا قول الله تعالى : { ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] على مرور الجنب في المسجد . ولم يجعلاه على أنه يصلي إذا كان مسافرا ، ولم يجد الماء . فهذا الذي منع عند الله أن يطلق للجنب أن يصلي بالتيمم على حال .
فأما علي وابن عباس رضي الله عنهما فإنهما جعلا اللمس الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية الجماع ، وقالا : كنى الله تعالى عن الجماع بالمسيس والغشيان والمباشرة . وجعلا قول الله تعالى : { إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } [ النساء : 43 ] في المسافر الذي لم يجد الماء ، وهو جنب .
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أذن للجنب من الجماع أن يتيمم إذا لم يجد الماء ، فكان ذلك حجة على منع الجنب من التيمم .
ثم قول الشافعي قول ثالث خارج عن قول الصحابة والسلف رضي الله عنهم لأنه يزعم أن اللمس هو الجماع وما دونه . فذلك ابتداع في الآية قولا وتفسيرا خالف فيه ما روي في تفسيرها عن الصحابة [ رضي الله عنهم ] جملة والسلف . لذلك كان محيطا .
وأصله أن الله تعالى ذكر الوضوء ، وأمر به في الآية ، وهو قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } الآية ، ولم يذكر [ الحدث ، وأمر ] بالاغتسال من الجنابة ، وهو قوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } ولم يذكر من أي جنابة . ثم ذكر الحدث في قوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } فعلى ذلك قوله تعالى : { أو لامستم النساء } كان بيانا لما تقدم من الأمر بالاغتسال من الجنابة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فتيمموا صعيدا طيبا } قيل { صعيدا طيبا } والصعيد هو وجه الأرض .
وقوله تعالى : { طيبا } قال بعضهم : الطيب ما ينبت من الزرع وغيره . وقال آخرون : الطيب ههنا هو الطاهر .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت » [ البخاري : 335 ] أخبر أن الأرض جعلت له مسجدا وطهورا . فكان قوله : «طهورا » تفسيرا لقوله تعالى : { طيبا } والله أعلم .
وقوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } قد ذكرنا في ما تقدم أن التيمم ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين .
وقوله تعالى : { ما يريد ليجعل عليكم من حرج } يحتمل هذا وجهين :
يحتمل ما يريد أن يضيق عليكم ليأمركم بحمل الماء إلى حيث ما كنتم في الأسفار وغيره . ولكن جعل لكم التيمم ، ورخص لكم أن تؤدوا ما فرض عليكم به ، ولم يكلفكم حمل الماء في الأسفار وغيره ، والله أعلم .
ووجه آخر : ما أراد الله بما تعبدكم من أنواع العبادات أن يجعل { عليكم من حرج } ولكن أراد ما ذكر .
وقوله تعالى : { ولكن يريد ليطهركم } يحتمل يريد ليطهركم بالتوحيد والإيمان به وبالرسل جميعا . ويحتمل قوله { يريد ليطهركم } من الذنوب والآثام التي ارتكبوها كقوله تعالى : { الحسنات يذهبن السيئات } [ هود : 114 ] ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابات كما قال أهل التأويل .
وقوله تعالى : { وليتم نعمته عليكم } تمام ما ذكرنا من التوحيد والإيمان والهداية لدينه والتكفير مما ارتكبوا . ويجوز أن يكون هذا في قوم علم الله أنهم يموتون على الإيمان حين أخبر أنه يتم نعمته عليهم .